​”شرطة الأخلاق” ورمزيّة “الحجاب”

Views: 248

د. حُسن عبّود*

ليست هي المرّة الأولى التي يُصبح فيها نَزْعُ حجاب المرأة عن وجهِها أو شَعرِها رمزاً لقضيّةٍ ما. ففي مِصر زمن النهضة، أواخر القرن التّاسع عشر، ارتفعت أصواتٌ لنَزْعِ حِجاب الوجه – بمعنى النقاب – لارتباطه بامتناع البنات عن التعليم نتيجة الحدّ الفاصل الذي كان سائداً بين العامّ والخاصّ: العامّ للبنين والرجال، والخاصّ للبنات والنساء. وحين اقتضى خروج البنات إلى التعليم على غرار البنين في المدارس النظاميّة الأهليّة، كانت الدعوة إلى رفْعِ النقاب كإعلانٍ عن البدء بتعليم البنات (ملك حفني ناصف، النسائيّات، 1910).

وَصَلَ خطاب السفور، بنزْعِ الحجاب عن الوجه، إلى تقاطُعٍ مع خطاب الإصلاح الديني وتحرُّر مصر من الاحتلال – بعدما سقط اللَّوم على النساء في جهلهنّ وتربية أجيال من الشباب الجَهلة غفلت عن مشروع النهضة، فنتج عنها تَقَهْقُر الأمّة (قاسم أمين، تحرير المرأة، 1899). يعني مُمكن لرمزيّة حجاب المرأة أن ترتفع إلى مستوى التغيير السياسي والوطني. وفي لبنان مثلاً، وإن تأخّرت حملة السفور عن الوجه عن سابقتها مِصر النهضة (نظيرة زين الدّين، السفور والحجاب، 1928)، إلّا أنّ خروج الدكتورة سنيّة حبّوب، أوّل طبيبة لبنانيّة في العام 1933، على ظهر سفينة لدراسة الطبّ في الولايات المتّحدة الأميركيّة – وهي مكشوفة الوجه – أصبح رمزاً لمُتابَعة التعليم الجامعي العالي.

تحوّلَ نزْعُ الحجاب عن “الوجه” إلى نزعهِ عن “الشَّعر”، وما وراء نَزْعِ الحُجب قضايا كبرى حقيقيّة، كنَزْعِ حقّ تعليم البنات في القرن الماضي. ونَزْعُ النساء الإيرانيّات حجاب الشعر عن رؤوسهنّ في الاحتجاجات الأخيرة، ليس قضيّة نِسويّة بقدر ما هو قضيّة وطنيّة سياسيّة – اجتماعيّة، بدأتْ مع توقيف الفتاة مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق”، بسبب عدم التزامها الحجاب بالشكل الذي سنّه “قانون حجاب إجباري” (الشادور الأسود الذي يغطّي الجسد من الرأس إلى القدمَيْن)، فلم تلبث أن توفّيت جرّاء تعذيب هذه الشرطة لها بعد ثلاثة أسابيع من دخولها المستشفى (يوم 16 أيلول/ سبتمبر 2022). فأطلقَ هذا الحدث شرارةَ احتجاجاتٍ واسعةٍ إلى درجة أن قامت العديد من النسوة الإيرانيّات وغير الإيرانيّات بقصّ شعر رؤوسهنّ كإعلانٍ عن رفضهنّ سياسة القمع والاضْطهاد التي تُمارسها السلطة على النساء.

ولا يخفى على أحد أنّ النساء، وهنّ نصف المُجتمع، يحظيْنَ باهتمامٍ شديد عالَميّاً؛ من ذلك مثلاً، أنّ مُقاوَمة “العنف ضد المرأة” بدأت تأخذ حيّزاً مؤثّراً جدّاً وإلى درجة أنّنا نشهد سنويّاً، وعلى مدى 16 يوماً في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كلّ عام، نشاطات للتوعية والحراك ورصْد انتهاكات حقوق الإنسان. ومنذ مؤتمر بيجين في العام 1995 وقّعت معظم دول العالَم على اتّفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (السيداو)، لذلك ظهرَت هذه الحماسة من جانب نساء العالَم للوقوف إلى جانب النساء الإيرانيّات في هذه المسألة الحَرِجَة، ومن أمام سفارة إيران للاحتجاج بقصّ شعر رؤوسهنّ. هناك متظاهرون رجال – خلال تجمّعهم ضدّ النظام الإيراني خارج مجلس النوّاب في لاهاي – قصّوا شعر رؤوسهم. وهناك كرديّات سوريّات شاركْنَ في مظاهرة في مدينة الحسكة اعتراضاً على وفاة “مهسا أميني” على يد النِّظام الإيراني الذي أصبح قامعاً لأبسط حقوق النساء؛ وهو حقّ الحريّة الشخصيّة في اختيار الزيّ.

هكذا أَصبح كشْفُ حجاب الشعر عن الرأس لإظهار الشَّعر، أو قصّه، عنواناً للتمرُّد والاعتراض على قمْعِ الحريّات، بكلّ أنواعها، من حريّة اختيار شكل اللّباس إلى حريّة الرأي وحريّة الاحتجاج والتظاهُر وحريّة إبراز التنوُّع الإثني والديني والثقافي …إلخ. وهذا التنوُّع الإثنيّ والدينيّ والثقافيّ لدى الشعب الإيراني، الذي يبلغ تعداده 85 مليون نسمة، لم تأخذه الحكومة الإيرانيّة الحاليّة بعَيْن الاعتبار، إذ إنّ هناك في إيران 18 مجموعة إثنيّة من العرب والكرد والتركمان والأرمن والبلوشستان وغيرهم، منهم المسلمون الشيعة والسنّة ومنهم المسيحيّون على اختلاف كنائسهم. لذلك لا يُمكن لهذا التنوُّع أن يقبل بإسلامٍ سياسي قامعٍ للحريّات، ويمثّل أدلجة الدّين، وليس الدّين نفسه. وأصلاً هناك إسلام واحد، لكن هناك التأويلات الأخرى التي اختفت أمام التأويل الواحد.

لماذا شعر المرأة وزيّها وحركتها في المساحة العامّة هي التي تُهدِّد “شرطة الأخلاق”؟ و”شرطة الأخلاق” أُنشئت في العام 2005، وهي تقوم برصْدِ نشاطات وقضايا نسائيّة تَعتبرها خطّاً أحمر بالنسبة إلى الحكومة، أولاها كشف المرأة عن رأسها. وتملك هذه الشرطة صلاحيّات تبدأ من فرضِ غرامات وتسجيل مُخالفات إلى استعدادها لمُمارَسة العنف والقتل كما حصل مع “مهسا أميني”. لكن هل لكشْفِ الشعر عن الرأس أيّة علاقة بالأخلاق حتّى توضَع له شرطة ورقيب؟

إنّ تطبيق قانون “شرطة أخلاق” مُنتَدَبَة من قِبَلِ نظامِ الإسلام السياسي الإيراني وحكومته، كقانون حجاب “إجباري” لمُراقبة التزام النساء بالحجاب يعني أموراً عديدة وخطيرة؛ منها أنّ هذا النِّظام، ومنذ أربعين عاماً، لم ينجح على مستوى تطبيق فِكر الإسلام السياسي في الفضاء الاجتماعيّ. ناهيك بشرعيّته المُهدَّدة من المُعارَضة الشعبيّة (وهي شريحة كبيرة) ولجوئه إلى التصعيد (محليّاً ودوليّاً) لخوفه من العودة إلى الجوّ الاجتماعي المُنفتح؛ وهو لذلك لم يتردّد في الكشف عن وجهه الإقصائيّ للآخر المُغاير له بالرأي وحتّى باللّباس، فارِضاً شكلَ أدْلَجَتِهِ الدينو – سياسيّة على الآخرين.

والحجاب يشكّل مدخلاً مهمّاً للتحكُّم بالجسد الأنثوي للسيطرة عليه وعلى متخيّل الشباب والشابّات، وبتصويره فعلاً أخلاقيّاً يُعتبر عدم ارتدائه منافياً للأخلاق، ما يشكِّل مدخلاً للتحكُّم بالنوايا والقيَم وبواطن الإنسان. ما يعني، كما يقول د. وجيه قانصوه، “أنّ السلطة تُظهِر نفسها الممثّلةَ الوحيدة للدّين والحامية له والمُجسِّدة للفضيلة الأخلاقيّة والدّاعية لها”.

أيّ قيمة ترسو تحت رقابة “شرطة أخلاق”؟

القيمة كأحد الأُطر المعياريّة للضبط الأخلاقي تضطلع بدَورٍ بارزٍ في التنشئة الاجتماعيّة للأفراد وتؤثِّر على توجُّهات المُجتمع وثقافاته. وجسد المرأة يبدو أنّه أَشكلَ حضوره في ثقافة “الإسلام السياسي” كما أَشكل حضورَه سابقاً في الأعراف والتقاليد. وبعدما كان يُحتفى بجسد المرأة في الشِعر ويتغزَّل الشاعر بها، أصبحَ هذا الجسد صورةً للإكراهات والقمع تلزمه “شرطة أخلاق”. وهذه الشرطة لا تربط القيَم بالشكلي فقط، بل تقضي على جماليّات الحركة بين الشباب والأمكنة. وجسد المرأة مُرتبط بقداسة الحياة وبـ “الخلق” وبقيمة الرحمة الربّانيّة في الإيجاد والإنعام وبقيمة الرحمة البشريّة في الرقّة والتعطّف. من هنا ظَهَرَ الاستياء والاستجهان الذي عبَّر عن نفسه بقصّ المرأة الإيرانيّة شعرها في ميدان الاحتجاج. والشعر زينة المرأة، والفضيلة الأخلاقيّة لا تُؤدلَج بالدّين أو بالسياسة. و”فضاءات الحقّ الأخلاقي أوسع نطاقاً بما لا يُقاس من فضاءات الحقّ القانوني، فليس كلّ ما هو أخلاقي قابلاً لأن ينتظم في قوانين مُلزِمة” (سعاد الحكيم، الموطأ في عِلم مكارم الأخلاق، 2022)، والرّادع الخارجي لا يُمكنه أن يكون بديلاً عن الرادع الأخلاقي الداخلي. وقد حذّر د. رضوان السيّد من تقنين “القيم الإسلاميّة” لأنّ منظومة القيَم هذه لا يصحّ أن تتبلور في قوانين يقوم النظامُ السياسي بتطبيقها، لأنّها إن صارت كذلك، لا تعود نهجَ حياة شعائريّ وقيميّ، بل تُصبح مدعاةً للتنافُس والتفرقة بين الحزبيّات التي تستخدمها في الصراع على السلطة (رضوان السيّد، “منظومة القيم القرآنيّة وتأثيرها في الدولة والمجتمع”، مجلّة التفاهُم، 2017).

أَعلن المدّعي العامّ الإيراني حلّ “شرطة الأخلاق”، مؤكِّداً فكّ ارتباطها بالقضاء قائلاً إنّ قرارَ إلغائها صادرٌ عن السلطة نفسها التي أسَّست دوريّة الأخلاق. ومع إلغاء شرطة الأخلاق قد يُلغى القانون الذي تقف ضدّه أغلبيّة نساء إيران ورجاله أيضاً. من هنا نَستذكر موقف الرئيس المصري جمال عبد النّاصر (ت 1970)، عندما طلب منه المُرشد العامّ للأخوان المُسلمين في مصر (في العام 1953) فرْضَ الحجاب القانوني على النساء، وكان المُرشد لم ينجح بفرضه على ابنته التي تدرس في كليّة الطبّ، فأجابه الرئيس عبد الناصر “بأنّه إن لم يستطع هو نفسه فرْضَ الحجاب على ابنته الطالبة – وهي واحدة – فكيف تكون له، أي للرئيس ناصر، القوّة لفرْضه على رؤوس الملايين من نساء مصر”؟

***

*باحثة وناقدة أدبيّة لبنانيّة

*مؤسسة الفكر العربي -نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *