جار الوقت
د. قصي الحسين
(أستاذ في الجامعة اللبنانية)
يمكن أن تكون اللعبة ثانوية في البداية، ثم لا تلبث أن تحتل واجهة الأحداث، وواجهة البلاد، وواجهة التاريخ، وواجهة المستقبل.
بمثل هذة الرؤى، وبمثل هذة الرؤية، يتقدم (حليم بركات: رياح وظلال، دار نلسن، للسويد- لبنان، بيروت . ط١ 2012). في اللعبة. في اللعب على الوقت. في تجارة الوقت. في التجارة بالوقت. تلك اللعبة المنطلية على العالم. يمارسها حمقى الأباطرة والقياصرة والثوار، تجار الوقت، لسلب العالم، من خلال الإتجار بالوقت، حتى الإستلاب الوحشي للإنسان.
يفتح أسلوب حليم بركات، فصلا جديدا من الأدب الملتزم من الأدب المقاوم. يريد تثبيته بين الوقائع الأدبية الأخرى الحديثة والمعاصرة، بنظرة مختلفة. وبقراءة مختلفة. يعبر عن ذلك، ما جاء من إعلان على ظهر غلاف الكتاب الخارجي: (رياح وظلال):
” وماذا يمنعك؟ هذة النكبة التي إجتاحت البلاد تضع أمام الإنسان المثقف ألف سؤال وألف مسؤولية. الأطفال الذين إستشهد آباؤهم. النساء اللواتي فقدن أزواجهن. الإنسان الذي فقد حريته.أليست كل هذة مواضيع إنسانية أيها القاص؟. هل يمكن أن تنسى يوسف صديقك -صديقك وصديقي- مرميا في الوحل لمجرد أنه قال ما إعتقده حقا. يجب أن تعرف كيف نقف إلى جانب الحرية والحق وإن كنا ضعفاء. أنت لست ضعيفا. أنت تعرف كيف تستعمل سلاح الكلمة. هل يمكن أن تنساه، مرميا في الوحل بلا لسان؟. إنك تعيش اليوم في عزلة عن مشاكل الإنسان. لم تعد نفسك”.
في أربعينيات القرن الماضي، إبتدأت الصراعات المشتعلة بين القوى العالمية. وإمتدت الإجتياحات لتطال بلدانا كانت آمنة، ثم لم تلبث أن وقعت ضحية الحروب الغامضة: الغاصبة للأرض والحرية والكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية. يعتمد خلالها المقامرون بالحروب، تجار الوقت، على نسيان الناس لبلادهم وجروحهم وحياتهم وأعراضهم، وإنسانيتهم. وهذا كله، لمما جعل حليم بركات، كاتبا غير محايد بين الجريمة والمجرم. بين الضحية والقتلة. كاشفا عن تجار الوقت، الذين هم القتلة الدائمون للناس، في أوطانها. وتأتي قصصه المجموعة في “رياح وظلال”، لتكون أكثر دلالة على هذا المعنى في مجموعته القصصية، ساردا لنا: “رياح وظلال ص5″، و “حجر يغوص في البحيرة ص23″، و “ماذا حدث حديثا؟ ص45،” و ” أسمع المطر يتساقط فوق خالد عبد الحليم. ص63″.
تنتمي قصص وكتابات وسرديات حليم بركات: (الكفرون، سوريا، مواليد :1933)، إلى ماكتب ضمن إطار ما أطلق عليه الأدب الملتزم. دون أن يغرق في التفاصيل الواقعية لهذا الأدب الكثير العوالم. وإن كانت تحيل إليها. إذ إن أحداث قصصه تجري خلال الشهور الأولى للنكبة وما تلاها من نكبات يقطع فيها المحتلون الوقت بإقتطاع الأرض. وخلال السنوات الأولى للإحتلال، وما تبعه من إحتلالات للأوطان والبلدان في بلاد العرب، وعلى ظهر الكوكب. بحيث صار التاريخ عند حليم بركات، ينقسم إلى ما قبل الإحتلال، وإلى ما بعد الإحتلال. ويعوم فيه تجار الوقت.
ولد حليم بركات في الكفرون- الساحل السوري،1933. ونشأ في بيروت. وهو روائي وعالم إجتماع وأستاذ جامعي. ومن أعماله: المجتمع العربي المعاصر-1989 و2006. والمجتمع العربي في القرن العشرين(2000). والقمم الخضراء(1956). والصمت والمطر(1958). و ستة أيام1967. وعودة الطائر إلى البحر1969.و الرحيل بين السهم والوتر(1979). وطائر الحوم(1988)، وحرب الخليج: خطوط في الرمل والزمن(1992). وإنانا والنهر(1995). والإغتراب في الثقافة العربية2006. والمدينة الملونة2006(، وغربة الكاتب العربي(2011).
وجميع هذة التواريخ، إن دلت على شيء، فإنما تدل بإختصار شديد، على القياصرة والأكاسرة والأباطرة والمحتلين، بإعتبارهم تجار الوقت.
موهبة الكاتب، في هذة المؤلفات التي ذكرناها له، وفي مجموعته القصصية التي بين أيدينا، إنما هي إستراتيجيته وتقنياته. وهذا ما نجده حقا، في المعيار السردي. وفي تعدد الأصوات. وفي عنايته بالأيقاع. وفي إستجلاب عناصر متنافرة وصهرها في سبيكة واحدة. سرديات سيهجوها بعض النقاد: بوصفها أسلوبا جافا، مثل أحجية الكلمات المتقاطعة، ولكن سرعان ما يتبدى للقارئ أنها محكمة الربط بأوالية السرد التي إعتمدها الكاتب. يقول حليم بركات في (رياح وظلال، ص13):
“صمت. ثم قلت، أدركت من زمان أنك قد تسيء فهمي رغم ما تربطنا من صداقة منذ زمن الطفولة. فقاطعني. ” ثم يقول: “واضح أنك لا تصدقني عندما أحدثك عن ليندا إنها كاللعبة في يدي”.
تكمن أهمية التحقيقات في سرديات الكاتب المخضرم حليم بركات، في نبش الأرشيف الكتابي، لهذا الروائي المختلف، الآتي من عالم الإجتماع الإنساني، والشاهد على تحولات القرن بكل حروبه، وتواقيتها، والمتعايش مع عالم الجريمة الدائمة على الأرض. ومن المهم، إستكشاف المشهد الروحي المعقد عنده.
ذلك المشهد الذي تسكنه شخصياته. ففي بيروت ما بعد منتصف القرن العشرين، سعى صاحب “رياح وظلال” إلى تحصين عزلته الأدبية، رافضا البوح، بما يكتمه قلبه، مثل هندي يخشى أن تسرق منه روحه. غير أن عوض عن ذلك. عن الحضور الشخصي. بما دبجه في كتبه ومجموعته، خصوصا تلك التي حملت البصمة المفارقة التي تمزج في وعاء واحد أجناسا إبداعية مختلفة، بسرد مونتاجي مختلف ومقتضب. ومثير للتأمل. وبحذر واضح من هيمنة الأيديولوجيا على الحالة الإنسانية. وربما نجده يعتني بتأصيل أسئلة الأقصوصة نقديا، والتي تأتي كمحصلة لعمله الجامعي، خصوصا في سردياته التي يمكن أن نختزلها، بأن نصف موهبة الكاتب: إنما هي إستراتيجيته وتقنياته. وهذا مانجده في أسلوبه المتفرد لجهة العمل السردي وتعدد الأصوات، والعناية بالإيقاع، وإستجلاب عناصر متنافرة وصهرها في سبيكة واحدة. دون أن يضيع البوصلة التي تؤشر على معنى الوقت والإتجار به. نقرأ له في: ( ماذا حدث في “حديثا” : ص68):
يؤلمه أن تتكلم أمه مع أبيه بهذة اللهجة. تغيرت حياته منذ أصبح وكيلا لأحد أمراء النفط. أصبح عنده “فيلا” مفروشة بالسجاد العجمي. والمقاعد الوثيرة النادرة. حول “الفيلا” حديقة كبيرة. في كاراجه سيارتان. رصيده يتضخم في بنوك سويسرا. يملك عدة أسهم في شركة أميركية. أمه لم تعد تطبخ. يترددون بإستمرار على المطاعم الكبيرة.”
على مدار القصص والحوارات والسرديات، يظل حليم بركات، كما بطله الشخصي الذي يضمر صورته، في حالة تأجج وتأرجح بين زمنين: الماضي والحاضر. وبينهما الوقت وتجاره. وهو كما يبدو قادر، على تضفير يومياته القديمة والآنية في نسيج واحد داخل سردياته، كأنها تخرج من ذات المعين. أما المستقبل، فيبدو لديه مرهونا بالهروب والتحليق فوق عالمه المظلم. يقول أخيرا على لسان أحد شخوص عمله في أقصوصته: “أسمع المطر يتساقط فوق خالد عبد الحليم”- (ص92):
“يركض. العاصفة تبعثر عنه الأوراق اليابسة. يلقي رأسه على صخرة من صخور العرقوب في جنوب لبنان. يصغي لنبض فلسطين. يسمع النيل يصب بالفرات. يسمع الفرات يصب في النيل. يسمعهما يصبان في الأردن. يستيقظ مرعوبا فيصرخ: أسمع المطر يتساقط فوق جسد خالد عبد الحليم.”
حليم بركات، في مجموعته: “رياح وظلال”، وفي مجموعاته الأخرى التى نشرت له: إنما يصدر عن نبع الوقت الذي يختنق بالجريمة. يتعامل أدبه معها عبر مرحلتين: مرحلة أولى أخلاقية. ومرحلة ثانية، جمالية. ثم لا يلبث أن يعرض عالم الجريمة ك “فن” في أقصوصاته وسردياته. فهو إما منتج فني. وإما هو صورة لقاتل يرتكب جريمته في زمن محدد ومحدود. وكأنه يقول: “فقط أولئك الذين يتمتعون بإمتيازات أمبراطورية، والذين يتمتعون بإمتيازات عسكرية، لا يستيطع الآخرون فهمها، يمكنهم أن يغتصبوا وقت الناس، بإرتكاب جريمة.”
حليم بركات علمني كل شيء عن الأدب القصصي. بفضله فهمت أنه يجب علي رؤية مشاهد القتل، كأنها مشاهد حياة تعيش معنا في الوقت. كما مشاهد الحب، كأنها مشاهد قتل. من خلال التصويب على الوقت. والقاتل عنده، يقوم بإطعام رفات ضحاياه، للعسكر وللقادة العسكريين في شكل مأكولات سريعة التوضيب، حتى يأمن جانبهم، وحتى يكونوا أكثر طواعية له.
قوة القتل عند حليم بركات التي تسيطر على سردياته، قد تكون فنا أيضا. قد تكون مرضية تماما، مثل القدرة على الإبداع الذي تألق به. صاغه بعامل الوقت. ولذلك كان يرى أعداءه الذين يريدون البطش بالناس، مثل إمرأة تقتل. (downtownvictoria.ca) مثل إمرأة تغتصب. لأن ذلك أكثر دهشة للقارئ، وأكثر جاذبية له، لمتابعته، وهو يسرد الحكام الذين يتجرون بالوقت. لأن الحكام بنظره، ليسوا إلا تجار الوقت.