الحرب الباردة الجزء الثاني: من “ربيع براغ” إلى “شتاء كييف”، لا صوت يعلو على هدير الدبابات الروسية
المحامي معوض رياض الحجل
خلال صعود نجم الأتحاد السوفياتي وتصاعد جبروته في ستينيّات القرن الماضي والذي انفرط عقدهُ مع بداية التسعينيّات منه، أنطلقت في العام 1968 “صرخة شعبية” مطلبية من قلب العاصمة التشيكية براغ في وجه زحف الدبابات السوفياتية وقوات حلف وارسو التي أجتاحت أراضي تشيكوسلوفاكيا بقوة عسكرية ضخمة مؤلفة من حوالي 200 ألف جندي، دخلت لقمع أصلاحات الزعيم التشيكي الكسندر دوبتشيك وأنهاء ما سُمي تاريخياً بــــ ” ربيع براغ “.
كان ذلك في شهر آب من العام 1968(أي قبل 54 عاماً) في براغ، عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية، حيث تضامنت دول حلف وارسو لسحق وبقوة الدبابات السوفياتية أحد أهم الجهود المُعتبرة مُعادية لسياسة الاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة.
حصدت الثورة عدة تسميات والقاب ومنها “الصرخة الشعبية”…التي تقول، لأول مرة منذ أنتهاء الحرب العالمية الثانية، لا للنفوذ السوفياتي. في ذلك الوقت كانت الادارة الأميركية مُنهمكة بوحول حرب فيتنام. وكان العالم يبدو في تلك اللحظة وكأنه بين فكي كماشة، الأتحاد السوفياتي من جانب، والولايات المُتحدة الأميركية من جانب آخر.
شعر الكرملين أن الأمور قد تفلتُ من يده، فتعامل مع الأحداث المُسماة إصلاحية في تشيكوسلوفاكيا بأسلوب حازم.
في 21 آب عام 1968 زحف رتل ضخم من الدبابات السوفياتية نحو الأراضي التشيكية، ووصل (الرتل) إلى العاصمة براغ في استعراض لفائض القوة ولردع من أطلق عليهم الإصلاحيين ولتوجيه رسالة حازمة إلى بقية الدول في أوروبا الشرقية حول مصير أي تحرك شعبي أو ثورة أو انتفاضة.
المشهد نفسهُ
أما اليوم وفي شباط من العام 2022، فيتكرر المشهد نفسهُ ولكن في مدينة أوروبية ثانية هي كييف، عاصمة أوكرانيا. صحيح أنهُ لم يعد هناك أتحاد سوفياتي وستار حديدي ولكن الخطر الاستراتيجي بالنسبة إلى روسيا الاتحادية ما زال موجوداً. فبالنسبة إلى الرئيس بوتين تُشكل كييف مُنذ سنوات مقراً وممراً للدول الغربية للاضرار بالمصالح الروسية ومُحاربة وأضطهاد الروس القاطنين في أوكرانيا نفسها وفي المناطق المُتنازع عليها. فالحل بالنسبة للرئيس بوتين بعد ثماني سنوات من الصراع الخفي هو عملية عسكرية لوقف النزيف أو الأنهيار داخل أوكرانيا التي تُعتبر مقراً وممرراً لمُحاربة روسيا وأضعافها على الاقل أقتصادياً.
“ربيع براغ” أنتهى بالسيطرة السوفياتية الحازمة، فكيف سينتهي “شتاء كييف” بعد كل هذا الدمار وسقوط هذه الدماء بالاضافة إلى ملايين السكان النازحين إلى دول مجاورة.
بالعودة الى”ربيع براغ”، لقد أستخدمت الدول الغربية حينها أحداث براغ 1968 في إطار خطتها لزعزعة كيان الاتحاد السوفياتي تماماً كما يحصل اليوم في أوكرانيا لزعزعة كيان الأتحاد الروسي تمهيداً لتفكيكهِ كما حصل في العام 1991 مع أنهيار الأتحاد السوفياتي.
لا يمكن دراسةالأحداث المُدوية التي وقعت العام 1968 في تشيكوسلوفاكيا خارج الإطار التاريخي للفترة الزمنية التي وقعت فيها هذه الأحداث. هذا الإطار هو إطار أحداث الحرب الباردة التي بدأت تتفاعل شيئاً فشيئاً ابتداءً من العام 1947، على المُستوى الدولي، بين نظامين سياسيين اجتماعيين مُختلفين تماماً: الرأسمالية والأشتراكية.
بناءً على هذه المواجهة، طورت الأدارة الأميركية وبالتعاون مع دول أوروبا الغربية أستراتيجية مرنة وذكية هدفهازعزعة أسس الاشتراكية والإطاحة بها. للتذكير أنه قبل 12 عاماً بالتحديد من “ربيع براغ”، أي في عام 1956، أندلعت أنتفاضة أخرى (مُتنكرة في صورة “ثورة”) في دولة المجر المُجاورة.
تعديل السياسة الأميركية
أدت تجربة المجر إلى تعديل سياسة الإدارة الأميركية تجاه الكتلة الاشتراكية. تم شرح هذه السياسة من قبل أحد كبار “مهندسي” السياسة الخارجية الأميركية آنذاك، والذي أصبحَ في ما بعد مُستشار الامن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر(1977-1981). كان زبيغنيو بريجنسكي يعتبر أن أكثر أنواع التغيير المرغوب فيها تبدأ بـ “الليبرالية الداخلية” لدول أوروبا الشرقية الخاضعة للنفوذ السوفياتي. كان يتنبأ بأن مثل هذا “التغيير” يمكن أن يحدث بسهولة تامة في تشيكوسلوفاكيا ثم في المجر وبولندا.
في خمسينيات من القرن الماضي، كان الترويج للأنشطة “الداخلية” المُضادة للاتحاد السوفياتي في البلدان الاشتراكية قد تم وضعهُ كأحد أعمدة السياسة الخارجية للولايات المُتحدة الاميركية من قبل جون فوستر دالاس، وزير خارجية الولايات المُتحدة الأميركية أثناء إدارة الرئيس دوايت د. أيزنهاور. مفهوم “الليبرالية الداخلية”، الذي حللهُ بريجنسكي، هو “المفتاح” الذي أستخدمتهُ الإدارة الأميركية وحلفاؤها من أجل “أطلاق ” الثورة في براغ.
“حصان طروادة”
ما سُمي في العام 1968 بـ “ربيع براغ” كان بمثابة “حصان طروادة” للادارة الأميركية وحلفائها تماماً كما هي حال كييف في العام 2022. المعارك في أوكرانيا أعطت الضوء الأخضر للادارة الأميركية وحلفائهالاقامة حملة دولية شعواء مُعادية لكل ما هو مُرتبط بروسيا الاتحادية وحلفائها. صدرت التعليمات لكل بلد أو مُنظمة أو مجموعة أو شركة بضرورة مُقاطعة تامة لكل ما يرتبط بالاتحاد الروسي بهدف مُحاولة وقف كبح جماح رتل الدبابات الروسية الزاحفة إلى كييف. فهل تنجح الادارة الاميركية في وقف الهجوم الروسي والخروج مُنتصرة من المعركة أم يكون مصير كييف شبيه بمصير براغ.
بالعودة إلى العام 1968فقد تم أستخدام المشاكل الفعلية للنظام الاشتراكي (على سبيل المثال في الاقتصاد، الإنتاج، التعليم الاشتراكي، إلخ) كذريعة من قبل القوى الغربية، من أجل تنفيذ السياسات المُعادية للاشتراكية التي كانت تؤدي، ببطء ولكن بثبات، إلى أستعادة الرأسمالية لزخمها وقوتها وتفوقها. بعد سنوات، أعترف أحد أبطال “ربيع براغ”، الاقتصادي التشيكي أوتا تشيك، بالهدف الحقيقي لإصلاحات عام 1968.أحد مؤيدي ما يسمى بـ “الطريق الثالث”، أعترف بسخرية أن الإصلاحات لم تكن سوى مُناورة خادعة وأنهُ، في ذلك الوقت، كان “مُقتنعاً بأن الحل الوحيد هو الرأسمالية الخالصة”.
وكان أمراً مُستغرباً أنهُ قبل أسبوع واحد فقط من التدخل العسكري لدول حلف وارسو، وصل ما يُقارب من 10 إلى 12 ألف ألماني غربي إلى براغ، بينما كان العديد من عملاء وكالة المُخابرات المركزية يعملون بالفعل دون عائق في العاصمة التشيكوسلوفاكية.
لعبت جمهورية ألمانيا الاتحادية أنذاك دوراً محورياً في الخطط المُحضرة للثورة في براغ. في ربيع عام 1968، عبر الحدود آلاف العملاء السريين والجواسيس والمُخربين الممزوجين بالسياح. في نيسان من العام نفسه، فتحت خمس نقاط تفتيش لجوازات السفر على حدود تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية؛ حوالي 7000 سيارة كانت تمرُ من كل نقطة من هذه الحواجز كل يوم.
«اشتراكية ذات وجه إنساني»
بحلول بداية شهر آب، تم إحكام الخناق المُعادي للاشتراكية حول عنق تشيكوسلوفاكيا. تم العثور على كميات كبيرة من الذخيرة المُصنعة في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا الغربية في الطوابق السفلية من المباني الحكومية التشيكية بينما، بمُساعدة وكالة المخابرات المركزية وأجهزة المُخابرات الألمانية الغربية، كانت محطات الراديو المحمولة عالية الطاقة تبث دعاية مُناهضة للاشتراكية في جميع أنحاء البلاد. فقد كان هدف هؤلاء الثوار المزعوم هو الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الانسان والتخلص من الأساليب الدكتاتورية في الحكم. وظهر دوبتشيك كما يفعل الرئيس الأوكراني الحالي زيلنسكي كثائر مُتحضر غير همجي. إذ كان يطالب بـ«أشتراكية ذات وجه إنساني». الفكر الجديد الذي بدأ يسود تشيكوسلوفاكيا بفضل دوبتشيك وحركة »ميثاق77» أزعج الاتحاد السوفييتي الذي شعرَ بأن ما يحدث في دولة عضو في حلف وارسو الذي يقودهُ وتنتسب إلى المنظومة الشيوعية، كفيل بأن يكون بداية صحوات أخرى في أوروبا الشرقية أو تمرد على حكم الكرملين الحديدي.
بالعودة إلى العام 2022، الم يكن أسهل للرئيس الأوكراني زيلنسكي التفاوض مع الرئيس بوتين لايجاد حل للازمة المُستجدة بدل ترك أوكرانيا تتحول إلى ساحة معركة وشعبها يُصبح لاجئًا ومُشردًا في دول مجاورة. الخاسر الأكبر في هذه المعركة هي أوكرانيا التي ستحتاج إلى عشرات وعشرات السنين قبل تعافيها وعودتها إلى دورها على الصعيد الاقتصادي الدولي، وخاصة أنها تُعتبر من أهم الدول المُنتجة للقمح عالمياً.
ليس من المستغرب أنه كما سجل التاريخ الغربي التدخل الدولي للاتحاد السوفياتي ودول حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا في العام 1968على أنه “غزو سوفياتي” يفترض أنه تجاوز سيادة البلاد الإقليمية. اليوم وفي العام 2022 مُجدداً يتم أستخدام عبارة “الغزو الروسي” لاوكرانيا لتبرير رفع الشعارات المُنادية بالحرية وحقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
اليوم، بعد أربعة وخمسين عاماً على “ربيع براغ” ومُرور عقودعلى قيام التغييرات المُضادة للاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية، ماذا حصدَ شعب تشيكوسلوفاكيا آنذاك – المُنقسم الآن في جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا – من “الحرية الرأسمالية”؟
إن هدم الحقوق الاجتماعية والعمال، وأرتفاع نسبة البطالة، والخصخصة الواسعة، والزيادة السريعة في التشرد، وتعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، ليست سوى عدد قليل من “الهدايا” التي قدمتها الرأسمالية والاتحاد الأوروبي.أصبحت الأحتكارات ومجموعات الأعمال الكبرى الآن مالكة للثروة في كل من جمهورية التشيك وسلوفاكيا.