جراحة في مرآة ثالث أعمال وفيق غريزي الشعرية

Views: 700

د. يقظان التقي

يفاجئني وفيق غريزي بغزارة انتاجه. لا يأتي الأمكنة إلا والكتاب في يده. لا تنتهي من تقليب صفحات كتاب إلا بتواترها مع كتابٍ آخر في ورشة عمل وقراءة دائمة.

أعرفه منذ سنوات عديدة ولطالما حاول غريزي اختراق السائد والركود والحرب والشرائح البيئية الساكنة الى مجاورة تجارب شعرية وأدبية وفنية. لطالما كان جزءاً من بنية اللقاءات المتواكبة والمتجاورة في دارةالصديق الفنان عارف الريس وأصدقائه والمتواترين الى دراته فيعاليه.

نسج وفيق غريزي خيوط شخصية مجتهدة على صفائها وعلى تجريدتها لصعوبات الواقع المادي الملموس إبان مرحلة الحرب وفصولها الصعبة. راكم منذ سنوات جهوداً كبيرة ومعاناة من دون كلل في تقليب صفحات الكتب واجتراح حضور في انتاجات متتالية وجهود متتالية توحي تملكاً في الأدوات وتطوراً في مساحة التجربة والتقدم في أعماله في حقل الثقافة العربية في قديمها وجديدها.

 

غريزي من الكشافة القدامى، كشاف لغة وتعابير يجردها بمثاقفة واقتباس وتأثر وبأناقة بحثية ليست سهلة وأحياناً بمحاججة بلاغية أدبية وفلسفية ويسجل علينا جميعاً اجتهاده وقدرته على الصمود بذائقة أدبية وتعزيز لغته وتوغله في أماكن فكرية بعيدة.

اهتماماته الأخيرة كانت فلسفية وشعرية وله باعٌ في النقد الروائي وجديده «الأعمال الشعرية الكاملة في جزئها الثالث» عن «دار نلسن» للنشر.

ويجازف غريزي في انتاجات جديدة متجاوزاً حدوده السابقة وبتقاطعات مع الشعر والقصيدة، وقبلها تقاطعاته مع النص الصوفي حول الموت والنص المفتوح على الهاوية أو العدم.

هكذا ومن دون شروط محددة، يتأبط غريزي كتابه، بتجربة بنائية منذ ثلاثة عقود وأكثر وفي مناخ ذاتي يربط «الأنا الجرّدية» في قضاء الجبل وباستكشاف اللغة أبعد وأبعد وشيئاً فشيئاً والنتيجة اكتشاف ألوان أدبية شتى.

هكذا هو ترصده في هذا الكتاب أو ذاك، من هذا الشارع أو ذلك.. يذكرنا دائماً بكل الحوارات الفلسفية والتشكيلية حول مدفأة الفنان التشكيلي الكبير الراحل عارف الريس في عاليه والرسائل التي تبعث بها وما تتضمن من أسرار صوفية ونواحي يُغفل عنها في اللغة عادة.

 

[غياب الآخر

تلك الشحنة كانت كافية للولوج الى الزمن المعولم، في محاولة تسجيل حضور إنساني وتعبير عن فكر ليبرالي وعن فردية ملغاة في أمكنتها. كأن كل ذلك الجهد وما يمكن أن نتلمسه من انتاجات يأتي تعويضاً عن غياب الآخر، غياب الصوت الجماعي، غياب أبطال الروايات وأصوات الاحتجاج، ومحاولة استرجاع «أنا» أخرى الى الجبل. ويمكن الكلام هنا عن سياق أدبي وشعري وفلسفي وقصصي تعويضاً عن واقعية مباشرة مفقودة بتأملاتها وجروحها وعزلاتها.

كل جهود وفيق غريزي هي يقظة ألم، معرفة، ثقافة، تجربة مشاكسة، جراحة في المرآة، تلمس حقائق أخرى من النصوص المفتوحة في «الأنا الجماعية»، وفي خمير اللغة، المساحة المتبقية للتعبير عن التمرد والحرية ومطالعة ومقايضة المساحات المختنقة بأمكنة أخرى، يجري فيها رفض اختزال الفرد والعزلة، الى الفضاءات الأوسع.

أسلبة الشخصية

لا داعي على الأرجح لأي نقد مباشر أو غير مباشر الى ما هو محوري وما هو غير محوري، حول أسلبة الشخصية اللغوية ونوعية الإضافات والتميز، فوفيق غريزي صار رمز التمرّد على آلة زمنية أرادت ناساً غير ثقافيين، فارغة سحبته إلزاميات ومواقف وبلا روح رافضة، وبدء أفكار حيوية وسجل نفسه على بطاقة المثقفين والصحافيين والمفكرين أي على بطاقة «اللاإلقاء» أو الوجوه غير الباهتة، والقاسية والسحيقة وانضم الى وجود عميقة جداً وهو ليس «غواصاً» في المطلق، بل وعلى مذهب من «شرَب من الماء مرة، عرف طعم الماء كله».

 

[ حامل همومه

لذلك تقرأه في بداية النص وفي آخر النص، ودائماً يعود الى نفسه، حاملاً كتابه هو، وحاملاً همومه، لكنه استطاع أن يوظف الوقت لخدمة طموحاته غير المستقلة حقيقة كبنية أدبية فكرية متكاملة، وهي بنية إعدادية نشطة تتخللها إضافات ولمعات طموحة، أصبح لها بنية ممسوكة وإن بمراوحة في تقشف فكري الى الآن ومقاييس تلاقي كلاسيكية فكرية وصوفية وغنائية معقدة وذهنية أكثر..

في نص يتراكم انتاجاً وإصدارات ومقالات، نص نصف مفتوح، ونصف مغلق، آخر مموّه وآخر شفاف، لكنه نص حاضر له تجربته وجهوده الحثية ودأبه وطموحاتها وملكة التواضع على وجهه بملامحه الطيبة والمبذولة ولغته التي لها فنيتها. ولو كانت شخصيته كلها مغلقة على ذاتها بتفاصيل فإنه يذهب الى الانطولوجيات والى الميتافيزيقيا والى الشعر الصوفي والى النظريات الوجودية.

وهو يجرب نفسه ويجرب كل شيء، بكل تلك الورشة في الفكر والأدب والشعر والفلسفة.

بالعودة الى الأعمال الشعرية فهي قصائد مبعثرة على نسيج حياة وطريق الى مسميات تأخذ جسد امرأة واسم امرأة وأخرى، وشجرة تصب على جسد، ولغة إخصاب في حبات الثمار، وضباب يراشق الغيوم، ونظرات رجل شيقة تملأ الأمداء، ورجل متزوج من فراء وجسد يتحدى الأقاليم.

قصائد شعرية شكلت فتح نوافذ، لحم الجسد، معبراً للحياة، نوعاً من المطاردة لأحلام في المكان واللا مكان.

وفيق غريزي يقف في سياقيته حيث تتدلى العناقيد وتتسع الأشجار بانبثاق المطر على نتوءات الصخور والوجوه العارية.. وتأملات من عالم الحواس. ثم هو الشعر الذي يأتي بأسراره في الشتاء وذهول الفصول. واللافت هو الجرأة الحسية في القصائد، وتلك الحوارات السردية التي تخاطب امرأة، وتلك الغبطة ولمعة القصيدة حين تكشف السر المدفون وبقايا عاهر ذات الأزرار السود ومن شيطان مملوء ببقايا الأسئلة نفسها.

تكتشف وجهاً آخر لوفيق غريزي في قصائده ومشاعر تكبر ايقاعاً بالبوح، وقصائد عاطفية أكثر، على سهولة ومرونة في التعبير ومباشرة ولا تفيض الى أسئلة وجودية تعود عليها. لا بل تعكس ميتافيزقية ويبدي مرونة لغوية وصوراً تلتمع حيناً وتخبو أحياناً. لكنها تراكم تجربة من الأحشاء واللحم الحي والألم، وحياة منضجة انجزت تعباً وسهراً وسمراً ومراحل متعددة.

وهو لا يكتفي بمحطة، ويتابع مشواره ويتوغل في طبيعة لا أدري كم بقيت معلقة لكنها مقبلة ويبدو أن لها ما وراءها وما أمامها.. لها خواطرها واستياؤها من دون ضبابية، ذات طبيعة مباشرة ومهيأة للاستمرار كأنها جرعات الهواء المنعشة تتوسط الوعي، وممارسة الحياة وبعض المشاكسة معاً ببساطة وحساسية.

 

هنا مقاطع من الأعمال الشعرية:

يا امرأة رؤاي

السهول تختزن ومضات القمح،

قوس الشمس المشدود الوتر

يطلق سهام النار،

على أسراب الأمواج المسافرة،

أمطار الفاجعة تهطل على الأوراق،

المكفّنة بصفرة التراب.

تبعثر الفجر بين حجارة الدروب،

 على ايقاع التنهدات العمياء.

شموع البحر تحرق زغب الزبد الفضي،

يا امرأة رؤاي العارية،

منعرجات جسدك وهج نار أفكاري،

الحقيقة نبض الحقيقة،

إمرأة في أحشائها إمرأة.

شرارة إغواءاتك تشعل الحرائق،

فوق عشب طفولتك،

تنسج الأرض ذاكرة الثمر.

نضارة عينيك الحانية، ينبوع إبداعي

على فراش ضفائرك الراقصة،

 تعانق روحي الغبطة الأزلية،

رحم أنقاض السماء، ولادة معجزة،

تنزع كأسي من نزف الوجود

تسكر من خمرتها عاشقات، بنعومة الرماد.

[ أنفاس الغابة

هذا القلب،

هذا الكيان،

 هذا المنزل المهجور

مليئة بك،

بأنفاس رئتيك

بحرير جسدك البض.. الشهي.

من خلف غلالته المنسوجة من الغيوم

ينشر القمر المراهق ابتساماته الفضية

على أسطح المنازل، في المدن الغريقة.

آه، أيها الغائر في المستحيل الأحب

كصدفة ضائعة في متاهات اللجج

في حقول النفس.. وجنائن العقل،

تتفتح براعم الشمس.

في غفلة ليل الحواس،

من صمت الصحراء..

الصباح نشيد الرمال

أنفاس الغابة.. تنهدات البحر

على شرفات السماء

ترسم فيك قدري.

عتمة الحواس

دمع السماء ملح الشطآن

زبد الامواج

النشوة البكر تستيقظ بالأجساد

الكلمات تتبعثر على رياح الشفاه

عقارب الساعة الفاتنة

تنتزع من شرايين الوقت

نبض الحياة.

***

يحاصرني زمن مغلق

وراء أفق منكسر

وجهي استحال في

مدار حبيبتي مرآة

امواج الصمت ارثي المجنون

خاصرتها لغة خرساء

مسكونة بعتمة الحواس.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *