الحلقة التاسعة عشرة من رواية “بَحر” لـ كابي دعبول
*“للصخور أسماء في الضيعة التي أبصرت فيها النور” (أمين معلوف-كتاب “صخرة طانيوس”)
يجلس حنا على صخرته المرتفعة فوق مياه البحر. يتأمّل الشاطئ الصخري وتراكض الأمواج باتجاه الشاطئ. يفرح، يحزن، يبتسم، يبكي، ناظرًا الى الأفق البعيد، يشكو همومه الى البحر، طالبًا منه الإتيان بأمل جديد يطفو على أمواجه المتراكضة نحوه. حتى بات لحنا مع صخرته عشرة وطول رفقة أمّنت له ملاذًا آمنًا لمراجعة الذات والتأمّل. إن أحداث هذه الرواية وشخصياتها من نسج الخيال حتى ولو تشابهت الأماكن والأسماء، غير أن صخرة حنا تبقى الاستعارة الحقيقية الوحيدة الراسخة في هذه الرواية، إذ كم من أمكنة تركنا فيها شيئًا من ذاتنا، مهما ابتعدنا عنها تبقى الملاذ الوحيد لذكرياتنا بحلوها ومرّها…
كابي
(١٩)
شعر حنا بعد الاستماع الى الحديث الذي دار بين الاستاذ رفيق وحسيب، برغبة في الابتعاد عن جدليات السياسة التي كان يستمع إليها في المطبعة. فعاصمة المحافظة كانت تختزن في بيوتها ومقاهي الرصيف فيها نخبًا فكرية وأيديولوجيات ونقاشات في السياسة وإصلاح النظام وغيرها من النقاشات الطويلة بين المختلفين في الرأي حولها.
لم يغِب عن بال حنا ما أوصاه به الاستاذ رفيق بالابتعاد عن السياسة. فظنَّ أن الهروب من عاصمة المحافظة قد يؤمّن له هذه الفرصة. تفاصيل الاعلان في جيبه ومعه العنوان ورقم الهاتف. وصل حنا الى القرية وتوجّه الى صخرته على الشاطئ يتأمل في الأمر والأهم من ذلك إيجاد الأسلوب المناسب لطرح الموضوع على أمّ بحر.
– العاصمة؟ هل جُنِنت يا حنا؟
– دعيني أحاول على طريقة امرئ القيس: نُحاولُ مُلكًا أو نموت فنُعذرا.
– بدأتَ تنشد الشعر يا حنا. يا خوفي أن يكون العمل في المدينة قد لَحَس عقلَك.
– دعيني أحاول.
– كنت تستصعب الذهاب الى المدينة وهي على مرمى حجر منا إذا جاز التعبير. كيف ستتدبر أمورك في العاصمة؟
– سنعرف كل هذه الأمور عندما أتقدّم الى الوظيفة. فالإعلان مقتضب وسنعرف أكثر في حال تقدّمت الى الوظيفة ومن الطبيعي أن تُحتَسب سنوات الخبرة. دعيني أحاول ومن ثمّ نقرّر.
– كيف ستتركنا وتذهب بعيدًا يا رجل؟ ستفتقد بحرين. بحركَ وبحر القرية.
– “مِنشوف”.
في اليوم التالي ذهب حنا الى العمل وتحاشى أن يستعمل هاتف المطبعة للاتصال بالعاصمة. وراح يبحث في المحلات القريبة من المطبعة عن هاتف يستعمله لإتمام اتصاله. فوجد هاتفًا في متجر للحبوب يمكن استعماله مقابل نقود معدنية يتمّ إدخالها في العلبة السوداء المضافة الى الهاتف. دوّر حنا قرص الهاتف وفقًا للأرقام المدوّنة على قصاصة الورق، وما أن سمِع الإشارة الصوتية الآتية من الطرف الثاني للاتصال، ضغط حنا على زرّ علبة النقود، قائلا: “آلو مَرحبا”…
(يتبع السبت المقبل)
***
*ملاحظة: إن أحداث هذه الرواية وشخصياتها من نسج الخيال حتى ولو تشابهت الأماكن والأسماء