المثقَّف والشأن العام

Views: 71

فيصل طالب

(المدير العام السابق للشؤون الثقافية)

 كم هو مدعاةٌ للتبرّم،في مثل هذه الظروف بالغة الصعوبة والاستثناء،ما يذهب إليه بعضُ المهتمّين بالشأن الثقافي، ممّن يكتبون أو يقيمون أنشطةً ثقافية، أقلّ ما يقال في موضوعاتها إنّها خارج السياق،ولا تحظى بمقبولية التناسب والمعطيات القائمة، لأنّها لا تلامس واقع الحال، ولا تستشرف آفاق الخلاص ممّا وقعنا فيه.

يصادف في هذا الإطار أن نتلقّى أحياناً بعض الدعوات إلى أنشطة ثقافية، تبدو كأنّها موجّهة إلى من هو مقيم في بلد آخر، أو أنّنا نشرع في قراءة مقال، ثمّ لا نلبث أن ننفضّ عنه، لكونه ينضح بترف ثقافي ليس أوانه، ولا تستسيغه “الذائقة المعرفية الراهنة” التي تنوء بعبء الهموم اليومية، ولا تنفكّ تبحث عن ضوء في هذه العتمة المطبقة على الصدور، علّها تلتقط بشائر الأمل بتجاوز هذا الزمان الذي كان مختبئاً خلف تلال الخداع والأوهام، ثمّ انقضّ علينا كالذئب المسعور ينهش بلا رحمة ما تبقّى لنا من مقوّمات العيش حتى الرمق الأخير…

الثقافة هي التظهير المتقدّم لرؤى التصويب والتقويم،كما كان يعني جذْر فعلها في الأساس، ثمّ كما استقرّت عليه الحال السويّة للثقافة مع تطوّر مفهومها وتغيّر وظيفتها في الحياة،من ثقافة “الفن للفن”، وثقافة السلطة، إلى ثقافة التعبير عن قلق الإنسان ورؤاه، بما يبلور جوهره وتفاعله الإنساني، في مسار الرفعة والتقدّم. وقد يكون التعريف الأكثر رواجاً للثقافة اليوم ذاك الذي يحمل في طيّاته ما يقع على المثقّفين من مسؤولية الدفاع عن الإنسان في جماعته، والحفاظ على وجوده الحضاري، وسعيه إلى التغيير والنماء، على قاعدة أن أيّ نهوض عام جوهرُه نهوضٌ ثقافي يقطر إلى محطات التقدم سائرَ مجالات النهوض الأخرى في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ذلك أنّ النهوض ارتقاءٌ رؤيوي يرفع في طريقه كل شيء،على نقيض السقوط الذي هو تفكّك بنيوي يأخذ في طريقه كل شيء. ولذلك يبدو أنّ مصطلح “الثقافة للثقافة”هو تعبيرلغوي لحالة مستغرقة في الفردية والخدر النفسي والترف الفكري، وأن المثقّف الفعلي هو من يوغل في مشكلات مجتمعه، ويسعى، بالقول والفعل، للإسهام في إيجاد الحلول لها،ليكون ذلك المنتج الفاعل، لا “المثقف الصوري” الذي لا يرفد المشهد العام بأيّ فائدة تمكّن الثقافة من أن توظّف إبداعاتها في خدمة إدماج الأفراد في التغييرات المتسارعة، وإعدادهم لمواجهة المستقبل المختلف الذي لا تُعبِّدُ الطريقَ إليه غيرُ ثقافة الحركة لا ثقافة السكون!

صحيح أنّ المثقّف عموماً، في زمن الأزمات الكبرى وما تترك من تداعيات على المستويين الفردي والجمعي، قد يرتفع منسوب الشكّ بفاعليته، ويتدنّى سقفُ الأحلام التي أوت تشكيله الافتراضي للعالم المرتجى، فيتراجع إحساسه بدوره، ويستشعر نكوصه الواقعي. لكن المثقف الحقيقي المؤمن بمقولة “إشعال شمعة خير من لعن الظلام” هو الذي يستخلص،رغم كل ذلك، درساً في غاية الأهمية: أولوية النقد الذاتي على النقد الخارجي، بعيداً من التهويمات التي وضعته خارج قدرته الفعلية ودوره العملي، وخروجاً على حالة الانكفاء والانزواء التي قد تعتريه جرّاء الشعور بالإحباط، وذلك تحت سقف القناعة المكتسبة من التجارب والخبرات بأنّه إذا تعذّر دور المثقّف المؤثّر في الأحداث، فعليه على الأقلّ أن يقوم بدور المفسّر لها، والراصد لحركتها، والفاحص لأسبابها، والمستشرف لمآلها برؤى البَرْء والخلاص…

إنّ انسحاب بعض المثقّفين، وإن بدرجات متفاوتة، من ساحة التفاعل مع قضايا الشأن العام ومحاولة التأثير فيها، بفعل التغييرات العميقة التي طرأت على موقع المثقّف في الحياة العامة، وفي ظلّ نفوذ وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تسويق الكثير من مظاهر الضحالة والإسفاف، أدّى إلى أن يتصدّر “مثقّفو الصورة والخبر” جزءاً هامّاً من المشهد الثقافي، من دون أيّ فعل ثقافي. لكن ذلك لا يعني البتّة أنّه،بسبب إحجام المثقّف اليائس،يمكن أن نسوّغ لمثقّف “الغفلة” أن يأخذ البوصلة الثقافية الى مكان آخر، حيث الحضورالثقافي سطحيّ هامشي،غائب عن المشهد العام، ومنغلق على الذات في قوقعة الفردية، ظنّاً منه أنّه يبحث عن خلاصه الفردي، غافلا أو متغافلاً عن أنّ لا خلاص فرديّاً بمعزل عن الخلاص العام. فإذا كانت غالبية الشعب قد تحوّلت إلى طبقة واحدة لها معاناة واحدة وطموحات واحدة، فيصحّ القول عندئذ إنّ علاقة المثقّفين المرتبطين بمعاناة هذه الطبقة هي علاقة عضوية، وهي تحتاج إذاً إلى “المثقف العضوي”، الذي تحدّث عنه المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي الذي ربط تحقيق الطبقة الاجتماعية لمطالبها، بالقدرة على تكوين مثقّفين عضويين يرتبطون بها،ويمتلكون قدرة التأثير الثقافي و”الهيمنة الثقافية”…، وذلك انسجاماً مع ربط وظيفة المثقّف بالفكر الحداثي الذي يسعى إلى الإسهام في صناعة الرأي العام، وتشكيل الوعي الجمعي،وتجسيد كرامة الإنسان، بعيداً من التطبيع مع طريقة التفكير التي يروّج لها أهل السياسة والسلطان، وما يسخّرون في سبيلها من إغراءات تفضي إلى التحاق بعض “المثقّفين”بركب الخضوع والتبعية.

بين “المثقّف العضوي” لغرامشي، و”المثقّف الحقيقي” لجوليان بندا، و”المثقّف العمومي” لعزمي بشارة وآخرين، و”المثقّف الملتزم” لجان بول سارتر، ثمّةَ جامع بين هذه التسميات، وفق ما يقتضيه فكر المثقّف المرتكز إلى وعي الواقع واستشراف المستقبل، وما تفرضه أسبقيته وأوّليته، هو طليعية المثقّف التي تلامس المفهوم الحداثي لدوره ووظيفته، باعتبار أنّه ينتسب لتلك النخبة التي تجعل من التفكير في هموم الواقع المَعيش والشأن العام عموماً مضامير اهتماماتها  الرئيسة.

إنّ المثقّف الطليعي إذاً هو الذي يُقاس دوره بمدى قدرته على النفاذ إلى ضمير المجتمع ووجدانه، من خلال محموله المعرفي وإنتاجه الفكري، وإسهامه تبعاً لذلك، بالرأي والموقف والممارسة،في عمليات التنوير والتوعية حول القضايا الحيوية التي ترتبط بحركية المجتمع واندفاعه باتجاه تحقيق مفاهيم العدل والارتقاء، على أساس الوعي المعرفي الذي هو قاعدة التحوّلات البنيوية، وبالاستناد إلى مواطنة المثقّف المتماهي بقضايا مجتمعه؛ بحيث يقود الالتزام بهذه الثنائية إلى إدراك الوظيفة الاجتماعية للثقافة ببعدها التغييري، أي إدراك الصلة المعرفية بالاجتماع المدني والسياسي؛ بحيث لا تعود المعرفة قوّة معنوية فقط، بل تسلك الطريق إلى تحقيق البعد الأساس في كينونتها، حين تتحوّل إلى قوّة مادية أيضاً تدفع باتجاه الترقّي والتغيير، وعلى قاعدة “أنا أفكّر وأعمل إذاً أنا موجود”! 

٢٦-٤-٢٠٢٣

(firework.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *