سجلوا عندكم

دنيس ديدرو… افتتاحيات فلسفة التنوير

Views: 359

وفيق غريزي

 

الكثير من مؤرخي الفلسفة، وخلال دراستهم الكتابات “الديدروتية” لفتوا الانتباه الى مسألة عمق تفكير ديدرو وسعة معرفته الواسعة، ومواهبه التنظيمية، والتي جعلت منه بحق الاختيار الطبيعي كمعلّم وناصح روحي خاص للفلاسفة الانسكلوبيديين (الموسوعيين)، وحتى عهد قريب يبدو أن هناك حقيقة قد ترسخت في الاذهان واصبحت بمنأى عن اي سؤال مفادها أن ديدرو كان يعزف على الاوركسترا الفلسفية نفسها لعصره على الكمان الثاني للفيلسوفين هولباخ وهلفتيوس على سبيل المثال، بما انه لم يترك للاجيال اللاحقة اي شيء مماثل لانظمتهم الفلسفية الممتازة لم يتناوله أو يخوض فيه. فأصالة تفكيره الفلسفي كانت تعتبر بنظر الكثير من الباحثين أو تتمثل في نزوعه العميق الى اقتفاء الجدل السقراطي، وذلك لتشجيع ظهور وانبثاق انظمة أو طرق جديدة للتفكير عن الاخرين، ولكن في الجانب الاخر ربما كانت تمثل تلك الطريقة العائق الذي كان يكبحه من توسيع افكاره. وبالاضافة الى ذلك، كان هنالك عامل آخر يمنع ديدرو من ارساء دعائم النظام الفلسفي الخاص به وترسيخه وتوسيعه، في نظر كتّاب السير الذاتية، وهو الطبيعة العامة لمعرفته الواسعة، التي سببت له صعوبات كثيرة وكبيرة ومنعته من التريث طويلا وامعان النظر في اي مجموعة خاصة من المقدمات الفكرية الواعدة التي يحتويها تفكيره لفترة طويلة، بناء على ذلك، فقد جاءت شهرة ديدرو بسبب عمله المتألق والذكي كناشر لافكار عصر التنوير، اكثر من كونه بالحقيقة فيلسوفا عميقا واصيلا.

 

حركة الأنوار الفلسفية والمفارقات الموهمة

إن عملية انبثاق التطور الفكري لدى ديدرو كمفكر اصيل، كانت على اكثر أو اقل تقدير قد تمت في منتصف العام 1740، أي في ذلك الوقت الذي اصبح فيه هدف انجاز مشروع الانسكلوبيديا يمثل شغله الشاغل ومهمته الرئيسة الاولى، وقبل ذلك بفترة ما يقارب العشر سنوات، كان ديدرو قد كرّس نفسه لدراسة مكثّفة للفلسفة والادب، والتاريخ ومتطلبات الطرق الجديدة للبحث العلمي.

الكاتبة تمارا دلوكج التي وضعت كتاب “افتتاحيات فلسفة التنوير – دنيس ديدرو ” اشارت الى انه عام 1746، انجز ديدرو مؤلفه الاصيل الاول “افكار فلسفية” والذي ادانه البرلمان الفًرنسي في ما بعد وأمر بحرقه، وفي الواقع، كان الجزويت (اليسوعيون) غير قادرين على قبول كتابات ديدرو اولا، وبشكل رئيسي، لأن تلك الكتابات كانت تدافع عن فكرة التسامح الديني وتسلم بالقيمة والاستحقاق المتساويين لكل الاديان امام الدين الطبيعي، الذي يجسد فيه حق المفكر فًي الشك، ففي ذلك الوقت كانت من الخطر جدا الكتابة عن مقبولية الشك.

إن ديدرو كان يركز انتباهه على التناقضات التي لاحظها فولتير وعلّق عليها، والتي سلّط الضوء من خلالها من اجل الكشف عن التناقضات الصارخة في الدين، وحتى في مثل تلك المرحلة المبكرة تقول الكاتبة “وبرزت الملامح الخصوصية لتفكير ديدرو، اعني قدرته على تطوير حجج محاوريه وحتى خصومه بعمق. مع هذا، وفي الوقت نفسه، كان يعمل على تطويرها. وفي تفاصيل مماثلة وجهة نظر الآخر، هذه كانت ميزة كتابته والتي، الى حد ما، تطورت لاحقا كافكار يعبر عنها بواسطة الحوار أو طريق كشف المفارقات والتناقضات”.

وفي بعض اعماله نعثر على مفاهيم مختلفة اخرى، وعلى وجه الخصوص، أن العقل والايمان كلاهما متعارضان ومتضاربان تماما ولا يمكن أن يتفقا. وفي اكثر الاحيان يعلق ديدرو بطريقة شبه هزلية مرة، وشبه جادة مرة اخرى بالقول: “إن الله، اذا كان موجودا بالفعل، فان من المؤكد انه سوف لن يعاقب الانسان على جحوده والحاده، اذا كان عقله لا يتفق ولا ينسجم مع الايمان، لأن العقل من دون شك، منح الى الناس من اجل أن يستخدموه ويعملوا على اساسه لا من اجل أن يتجاهلوا وظيفته”.

 

وكتاب ديدرو “نزهة الشكل أو حديقة المتنزهين” كان مكرسًا لنقد المسيحية والدفاع عن مفهوم التسامح الديني. وتوضح الكتابة أن ديدرو في هذا الكتاب يميز بين الرجال الحكماء والمتسامحين الذين يتجوّلون في طريق الحديقة المصفوف والمكسو باشجار الكستناء متأملين الطبيعة من جهة، مع هوًلاء المجانين والمتعصبين والمتطرفين والذين نلتقيهم في الطرق الشائكة من جهة اخرى. إن مفهوم التسامح هو المبدأ الممكن الذي يجيز حالة التعايش السلمي بين الناس ولا ينفك ديدرو عن التأكيد بأن العقل هو الحاكم الوحيد في تبرير احقية أي شيء في الوجود، “ففي النقاش الدائر بين الحكيم و المتطرف المتعصب، فان الحكيم هو الذي ربح النقاش. فهو يخبر المتطرف المتعصب أن العقل الذي بين يديه سلاح ضعيف وواهن، وباستمرار وتحت تاثير ووصاية ونفوذ قادة مختلفين، هو قادر فقط على اثارة الياس فيه”. (https://valorhealthcare.com/)

وبقدر ما، فان مجمل اعمال الفلاسفة في عصر التنوير آنذاك، كانت قائمة على اساس افكار طوباوية، وذلك أن الاخلاق والعادات يمكن أن تتحسن بواسطة وسائل التنوير، فهم يعتقدون، علاوة على ذلك أن الطريق الوحيد الممكن للتحرر من الوضع الاجتماعي الحرج الراهن في اوروبا يكمن في ارتقاء وتبوؤ الملك المتنور العرش، والذي سيعمل في شتى وكافة السبل من اجل اعلاء فكرة نشر التعليم وتعزيزه.

 

المادة والحركة

بخلاف الفلاسفة الاخرين لعصر التنوير الذين يشاركون ديدرو مبادءه، كان ديدرو قادرا على الاقتراب من حدود العلم الميكانيكي الطبيعي، والذي سلط الضوء من خلال صيغة الخيار المنطقي الفريد والاستثنائي للتناقض، على المعضلات والاحجيات والصعوبات الفكرية التي لا تقهر، وفي ضوء هذا الأمر، يظهر العلم الطبيعي لديدرو ليس كنظام للاجوبة، ولكن على الاصح، كنظام من الاسئلة، تقول الكاتبة: “إن كل أو معظم الاعمال الفلسفية التي تم تأليفها بواسطة ديدرو، ينبغي أن تقرأ بتأمل عميق، وقائمة اعماله تتضمن “افكارًا في تأويل الطبيعة” و”المبادىء الفلسفية في ما يتعلق بالمادة والحركة” و”الثلاثية اي” ( محادثة بين دالمبير وديدرو، واحلام دالمبير، ونتيجة المحادثة ). فهذه الأعمال، بلا ادنى شك، كانت تطرح العديد من الاسئلة الفلسفية المهمة التي طالما شغلت تفكير ديدرو طوال حياته الفكرية.

إن مذهب الحتمية الميكانيكية، والذي تشكلت صورته النهائية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفي الوقت نفسه الذي تطور فيه ما يسمى بالعلم الوضعي وانعكاساته، يكشف عن تبعيته أولا وبشكل رئيسي، الى تقدم علم الميكانيك. ففي اعمال اشهر الممثلين المعروفين جيدا من الفلاسفة لهذا المناخ المعرفي ولهذا المذهب، كانت المادة بالنسبة اليهم تتطابق مع الجوهر، بينما كانت الحركة تعتبران ينظر اليها بشكل رئيسي على انها انتقال أو تحوّل “لقد تمت الاشارة أو لفت الانتباه بالفعل الى أن المطلب العلمي للحقيقة الواضحة غير الغامضة وغير الملتبسة يفترض ويتطلب تقصي نتايج التحليل النفسي واقصاء اي امكانية للتاويلات المتضاربة”.

مع ذلك، فان سمة التناقض ظلت تتجذر في التعريفات الاساسية للمادة والحركة.

 

إن التوضيحات آنذاك، ارادت بامانة أن تزودنا في بحث واستقصاء متماسك عن تلك الاسئلة، أي، سؤالي المادة والحركة، اللتين كانتا في ذلك الوقت محط اهتمام وانتباه الكثير من الفلاسفة في ذلك العصر المهم، وتكشف الكاتبة النقاب عن أن كلا من كارل ماركس فريدريك انغلز قد وصف المذهب المادي للقرن الثامن عشر. بأنه: “ليس اكثر من مذهب ميتافيزيقي”. لقد كان نظاما من وجهات النظر حول الطبيعة كجوهر مادي مع حركتها التي تتكون من اتحاد الجزئيات المادية الدقيقة وانفصالها. كتب هولباخ على سبيل المثال: “أن الطبيعة بمعناها العريض جزيئات كاملة تنشا كنتيجة لاتحاد جواهر مختلفة بطرق مختلفة ومن اشكال مختلفة للحركة الملاحظة بواسطتنا في هذا الكون”.

في العموم حسب رأي هولباخ أن حواسنا تبوح وتكشف لنا عن نمطين من الحركة ضمن الاجسام الموجودة حولنا: النمط الاول – هو حركة الكتلة والتي تعتبر مسؤولة عن نقل الجسم من مكان الى آخر. والنمط الثاني: هو حركة داخلية وخفية تعتمد على الماهية، والاتحاد، والفعل والجزئيات المضادة الضئيلة جدًا وغير المدركة التي تنشىء وتكون الجسم. وبالنسبة الى ديدرو، فان مفهوم المادة لم يكن ببساطة متماثلا أو منتظما، ففي افتراضه أن المادة متغايرة الخواص، ينتقد ديدرو حسب قول الكاتبة: “الفلاسفة الذين انكروا هذا الادعاء على اساس حقيقة انهم لا يعترفون أو يقبلون الا بقوة واحدة مفردة للمادة. ففي الواقع كل شيء يحطم ذاته تحت صيغة واحدة، ويركب ويرتب وينسق ذاته تحت اخرى”. فنحن نلاحظ أو نرى التكرارات والانحلالات، تجمعات كل الانواع، الظواهر المتنافرة والمتعارضة مع المادة المتجانسة. وبناء على ذلك، نقوم باستنتاج أن المادة متغايرة الخواص والعناصر، وان هنالك عددا لا متناهيا من العناصر المتنوعة والمختلفة في الطبيعة، وأن كل واحد من هذه العناصر وعن طريق تنوعه وتميزه واختلافه عن الاخرين يمتلك قوته الخاصة التي تعود اليه وحده، القوة الملازمة والمتأصلة والفطرية له، والثابتة وغير القابلة للتغيير، والابدية، وغير القابلة للفناء، وأن تلك القوة المحتواة في الجسم تمتلك افعالها التي تتجسد خارج هذا الجسم، والتي منها تأتي الحرية، أو على الأصح الاحتياج العام لهذا الكون.

 وتؤكد الكاتبة أن افتراض وجود أو حضور القدرة العامة للاحساس ضمن المادة “وهذا ما تحتويه الحياة بشكل حقيقي بالقوة”. ويختار ديدرو امكانية القبول والتسليم بوجود العنصر المتخفي، ربما لأنها اعطته مجالا ومدى اوسع لتوضيح التحوّلات الكيفية في تطور القدرة الحقيقية للمادة الحسّاسة الجامدة غير الفعّالة الى الحساسية الحيّة الفعّالة.

 

الواقع والجميل

عكست افكار ديدرو الجمالية بالفعل، شكل الصراع ومضمونه ما بين الاتجاه الواقعي المنبثق من الفن، من جهة، والمدرسة الفرنسية الكلاسيكية التي تشكلت ابان عام 1740 من جهة اخرى. هذا الصراع كان قد نشب وامتدت اثاره في كل انواع الفنون: المسرح ونظرية الدراما، والموسيقى، والشعر الرسم، ولكن من أجل فهم مضمونه الحقيقي، فمن الضروري، على الأقل، استيعاب المخطط العريض والواسع لظاهرية تاريخية الفن وفهمه، وبعبارة اخرى، فهم تبعية الأسلوب، والمذهب أو النوع الادبي والمثال الجمالي ذاته المعطى في الوضع التاريخي. فالفن تقول الكاتبة: “الذي يعبر عن مفهوم الانسان في المثال الجمالي، ينبثق في الصيغة الكلاسيكية لذلك العصر، بعبارة اخرى، يضع نصب عينيه أو لنفسه مهمة توضيح ضرورة خضوع الفرد الى صوت العقل والواجب، أن هذا لا يعني، بالطبع، أن الفن سوف يخضع للسياسة، وسوف يقصد منه ويهدف بتعمد الى تعزيز اي سمة نوعية من هذه السمات في الانسان”، فالفن الذي يصوغ الشخصية النوعية للانسان ويشكلها، يقدم في ابداعاته المثال الذي يتطابق مع العصر المعطى والذي ياخذ شكله من خلال الصراع والتصادم الحاد مع الماضي. وتدريجيا يكون الناس قادرين على أن يخضعوا مشاعرهم لما يعتبرونه هم انفسهم واجبا عليهم، حيث اصبح هذا النموذج المثال الذي يتجسد في ابطال الاعمال الفنية. فمع تراجيديات المسرحيين كـ ورني وراسين بلغت الكلاسيكية بالواقع، ذروتها وأوجها، هنا يحدد المضمون الشكل الفني، والذي، في تلك الحالة، يتّجه نحو ما هو عقلاني، نحو الانضباط الصارم للعقل، ونحو اخضاع الفنان

” لمجموعة من القواعد العامة والتي كانت تعتبر بمثابة قوانين العقل الكلي، والتي كانت من بينها الشروط المشهورة للوحدات الثلاث: وحدة العقل والمكان والزمان”. فمن اجل وصف الحياة أو رسمها كما هي حقا، وكما يشعر بها الانسان، وكما يدركها، فان هذا يعني اولا، من وجهة نظر عصر التنوير الفرنسي، دعم وتأييد حقوق الانسان الطبيعي، وفي الوقت نفسه رسم الطبيعة ووصفها بشكل واقعي. فالبرنامج الجمالي للمادية الفرنسية كانت قد تمت صياغته بالفعل من قبل ديدرو في عام 1751 وتحدث في مقالته المعنونة “في الجمال المطلق” والتي كتبها لمشروع الانسكلوبيديا، فتعريف الجمال حسب اعتقاد الكاتبة يزوّدنا به ديدرو جنبا الى جنب مع التمييز بين الجانب الموضوعي والجانب الذاتي في الاحكام الفنية، والذي يحتفظ تماما بروح النزعة المادية: “فخارج عني يوجد ما ينبغي أن نصفه موضوعيا بالجميل، والذي يوثر في نفسي ويوقظ فيها فكرة الجمال أن الاساس للجمال الموضوعي هو تلك الرابطة أو العلاقة المتبادلة بين اجزاء الموضوع باحكام”.

 

هذا ما قاله ديدرو الذي اضاف “وهكذا انادي بالجمال ذاك الذي يوجد خارجا عني، ذلك الذي يتضمن في داخله ما يثير ويوقظ في ذهني فكرة الارتباط تلك، وانادي بالجمال كل ذلك الذي يوقظ هذه الفكرة في نفسي”. فطبقا لديدرو أن الانسان يولد في هذا العالم مع امكانية الشعور والتفكير، فحالما نلتقي الموضوعات ونواجهها، فانه تولد في دواخلنا مفاهيم التناسب والتساوق، والاتحادات والعلاقات، فالادراك الحسي للعلاقات هو الأساس في الاحساس الجمالي.

 وترى الكاتبة أن ديدرو لم يرفض مذهب التراجيديا باكمله، فلقد كان لديه راي قيمي ومهم حول الكاتبين المسرحيين كورني وراسين. كما انه مليء بالثناء لتراجيديي اليونان القديمة الذين كانت من أهم خصائصهم الرئيسة البساطة والتلقائية الطبيعية…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *