مُحارَبة الإرهاب بالتنمية: مصر نموذجاً

Views: 591

ممدوح مبروك*

أكّدت الأحداث التي شهدتها المنطقة العربيّة خلال السنوات القليلة الماضية على أنّ المُواجَهة الأمنيّة وحدها لم تَعُد كافية للتصدّي لظاهرة التطرُّف والإرهاب؛ فعلى الرّغم من الجهود المبذولة في هذا الشأن من قِبَلِ المُجتمع الدوليّ، إلّا أنّ تدفُّق المُقاتلين الأجانب للانضمام إلى “تنظيم الدولة الإسلاميّة”، المعروف باسم “داعش” ما زال مُستمرّاً.

أشارت الدراسة التي أصدرها “المركز الدولي لدراسات التطرُّف” (ICSR)، التّابع لكينجز كولدج Kings College في تمّوز/ يوليو 2018، بعنوان “من داعش إلى الشتات: تعقُّب نساء وقُصَّر الدولة الإسلاميّة”، إلى أنّه في العام 2018 بلغ عدد الأجانب المُلتحقين بصفوف تنظيم الدولة الإسلاميّة 41,490 شخصاً (بواقع 32,809 من الرجال، و4,761 امرأة، و4,640 طفلاً) من 80 دولة.

وبحسب الدراسة، وفدَ حوالى 18,852 من هؤلاء الأجانب من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و7,252 من شرق أوروبا، و5,965 من آسيا الوسطى، و5,904 من أوروبا الغربيّة، و1,010 من غرب آسيا، و1,063 من جنوب شرق آسيا، و753 من الأميركيّتَيْن، وأستراليا، ونيوزيلاندا، بالإضافة إلى 447 من جنوب آسيا، و244 من جنوب الصحراء الكبرى، كما بلغ عدد المُلتحقين من المَمْلكة المتّحدة حوالى 850 شخصاً من بينهم 145 امرأة، و50 طفلاً.

أجمعت الدراسات على أنّ العام 2014 كان عاماً استثنائيّاً في تاريخ المنطقة العربيّة بأكملها؛ فوفقاً لبرنامج “أبسالا” لبيانات الصراع (UPCD)، شهدَ هذا العام أكبر عدد من القتلى في المعارك منذ العام 1989؛ فعلى سبيل المثال شهدت سوريا وحدها مقتل أكثر من 54 ألف شخص، كذلك العراق الذي شهد مقتل ما يقرب من 12 ألف شخص، علماً بأنّ تلك الأرقام تشمل فقط القتلى الذين سقطوا مباشرةً في أرض المعركة، ولا تتضمّن مَن يُقتلون لأسبابٍ غير مباشرة، كصعوبة الحصول على الرعاية الصحيّة – على سبيل المثال.

أيضاً تُشير تقارير الأُمم المتّحدة إلى أنّ المنطقة في العام 2014 كانت مَوطناً لنحو 57,5% من اللّاجئين في العالَم كلّه، وكان معظمهم قد نزحوا قسراً بسبب النزاع والعنف؛ حيث شهدت المنطقة ما يقرب من 18% من صراعات العالَم بين عامَي 1948 و2014، و45% من الهجمات الإرهابيّة، و68% من الوفيّات المرتبطة بالمعارك على المستوى العالَمي.

في العام نفسه، قُدِّر عدد النازحين قسراً في العالَم كلّه بنحو 60 مليوناً، وهو العدد الأكبر منذ اندلاع الحرب العالَميّة الثانية، من بينهم 4,5 مليون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و4,4 مليون من أفريقيا جنوب الصحراء، والجدير بالذكر أنّ هاتَيْن المنطقتَين تتصدّران العالَم في منْحِ اللّاجئين حقّ اللّجوء.

أدَّت تلك الأحداث إلى تراجُع قيمة مؤشِّر التنمية البشريّة في بعض الدول مثل ليبيا وسوريا إلى مستوياتٍ سُجِّلت آخر مرّة قبل 15 عاماً. وتُشير تقديراتٌ أخرى إلى أنّ سوريا ربّما تكون قد فقدت أكثر من 35 عاماً من المَكاسب التي تحقَّقت بالكاد في مجال التنمية البشريّة.

أهداف التنمية المُستدامة 2030

إيماناً منها بفَشَلِ المُواجَهة الأمنيّة وحدها في مُحاربة الإرهاب، اعتمدت الدولُ الأعضاء في الأُمم المتّحدة أهداف التنمية المُستدامة السبعة عشر (SDGs) في العام 2015، وذلك بهدف حشْد جهود المُجتمع الدولي من أجل التصدّي للتحدّيات المُعيقة للتنمية، ومن ثمَّ المساهمة في مُواجهة الإرهاب من خلال مُعالجة الظروف المؤدّية إلى انتشاره على المدى الطويل.

يأتي على رأس تلك الأهداف القضاء على الفقر، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه وفقاً لتقارير برنامج الأُمم المتّحدة الإنمائي في الدول العربيّة (UNDP)، ما يزال 800 مليون شخص في العالَم يعيشون على أقلّ من 1,25 دولار أميركي في اليوم، نصفهم تحت سنّ 18 عاماً.

لا يُقصد بالفقر هنا انعدام الدخل والمَوارد اللّازمة لتأمين عَيشٍ مُستدام فقط، إنّما الفقر بمفهومه الأشمل، الذي يضمّ الجوع، وسوء التغذية، ومحدوديّة فُرص الحصول على التعليم والخدمات الأساسيّة الأخرى، والتمييز الاجتماعي، وانعدام فُرص المُشاركة في صنع القرار.

كذلك تطرَّقت استراتيجيّة الأُمم المتّحدة إلى أهميّة ضمان التعليم الجيّد والشامل للجميع، وتحقيق المُساواة بين الجنسَين، وتمكين النساء والفتيات اللّاتي ما زلْن يتعرّضن للتمييز والعنف في جميع أنحاء العالَم، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه ما زال هناك 103 مليون شاب في جميع أنحاء العالَم يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة الأساسيّة، وأكثر من 60% منهم من النساء.

أيضاً شدَّدت الاستراتيجيّة على أهميّة إقامة مُجتمعات مسالمة لا تعرف التهميش، وإتاحة إمكانيّة وصول الجميع إلى العدالة، وبناء مؤسّسات فعَّالة، وخاضعة للمُساءلة، وشاملة للجميع على المستويات كافّة.

هذا بالإضافة إلى ضرورة الحدّ بقدرٍ ملموس من التدفّقات غير المشروعة للأموال والأسلحة، وتعزيز استرداد الأصول المسروقة وإعادتها، ومُكافحة جميع أشكال الجريمة المنظَّمة، وضمان حصول الجمهور على المعلومات، وحماية الحريَّات الأساسيّة، وتعزيز المؤسّسات الوطنيّة ذات الصلة، بوسائل تشمل التعاون الدولي، بغرض الوقاية من العنف، ومُكافحة الإرهاب والجريمة.

لا شكّ أنّ تحقيق تلك الأهداف على أرض الواقع ليس بالأمر اليسير؛ حيث يتطلَّب الأمر وجود أنظمة لديها الإرادة السياسيّة، والقدرة على توفير المَنابر النموذجيّة اللّازمة لتطبيق استراتيجيّات وبرامج التنمية.

أيضاً من الصعب تطبيق تلك البرامج في مناطق الصراع، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه وفقاً لتقارير البنك الدولي في العام 2016، كانت هناك حوالى 35 دولة مُدرجة على قائمة البنك الدولي الموحّدة للبلدان التي تعاني من أوضاعٍ هشّة، وصراعاتٍ، وأعمالِ عنف.

التجربة التنمويّة المصريّة: “رؤية مصر 2030”

استمدّت مصر استراتيجيّتها التنمويّة، التي أَطلقتها في شباط/ فبراير 2016، من الاستراتيجيّة العالميّة للأُمم المتّحدة، وارتكزت على أهميّة مُعالَجة الظروف المؤدّية للإرهاب، وقطْع الطريق أمام محاولات الجماعات الإرهابيّة استغلال تلك الظروف للترويج لفكرها المتطرّف.

تهدف الاستراتيجيّة المصريّة إلى النهوض بالاقتصاد ومؤشّراته، وتطوير البنية التحتيّة، ومشروعات التحوُّل الرقمي، وذلك بالتزامن مع اعتماد مُبادرات لتحسين الأوضاع الاجتماعيّة للمُواطنين، بخاصّة في مجالات الصحّة، والتعليم، وتمكين المرأة والشباب، فضلاً عن الاهتمام بنشْر الوعي والفكر الصحيح بقضايا التنمية، والتصدّي للشائعات التي تُروِّج لها الجماعات الإرهابيّة.

أفاد التقرير الصادر عن وزارة الخارجيّة المصريّة بعنوان “التقرير الوطني لجمهوريّة مصر العربيّة حول مكافحة الإرهاب 2021” بأنّ تبنّي المفهوم الشامل لحقوق الإنسان هو أحد أهمّ وسائل تجفيف منابع الإرهاب والتطرُّف، وفي هذا السياق تحقَّق خلال العام الماضي ما يلي:

  • ارتفاع معدّل النموّ الاقتصادي بنسبة 3.6%، وذلك في الوقت الذي انخفضت فيه معدّلات النموّ الاقتصادي عالَميّاً بنسبة 3% في العام نفسه.
  • انخفاض معدّلات البطالة إلى 7.3% في الربع الأوّل من العام (2020/ 2021)، مُقارنةً بـ 9.6% في الربع الرابع من العام (2019/ 2020)، و7,7% في الربع الثالث من العام (2019/ 2020)، وتراجُع معدّل التضخُّم إلى 5,7% في العام (2019/ 2020)، وهو أدنى مستوى له في 14 عاماً، بعد أن سجَّل 13,9% في العام (2018/ 2019).
  • تنفيذ 1770 مشروعاً في قطاعَي التعليم والصحّة، و543 مشروعاً في قطاع الطّاقة (البترول، والكهرباء)، وبلوغ حصّة الصعيد والمحافظات الحدوديّة 36% من مشروعات الكهرباء.
  • تنفيذ 689 مشروعاً في قطاع الإسكان (بلغ نصيب الصعيد والمحافظات الحدوديّة 31%)، و458 مشروعاً في قطاع الريّ بتكلفة 5,6 مليار جنيه، كما تمّ إنشاء 11 تجمُّعاً زراعيّاً متكاملاً في محافظة شمال سيناء، وتجمُّعَين زراعيَّيْن في محافظة جنوب سيناء.
  • استفادة أكثر من 2,3 مليون شخص من أنشطة التشغيل المُختلفة في مجال تمويل المشـروعات الصغيرة، والمتوسّطة، ومُتناهية الصغر.

الحماية الاجتماعيّة وعودة الثقة

حرصت الدولة المصريّة على دمْجِ البُعد الاجتماعي في خطط التنمية المُستدامة من خلال تحسين الخدمات الأساسيّة المقدَّمة للمواطنين، وتوسيع مظلّة الحماية الاجتماعيّة، وذلك من أجل تنمية شعور المُواطن بالأمان المُجتمعي، وتحصينه من الانخراط في أيٍّ من التنظيمات الإرهابيّة. وفي هذا الصدد، تحقَّق ما يلي:

  • الحماية والرعاية الاجتماعيّة: تمثَّلت في بَيع السلع الغذائيّة الأساسيّة بأسعارٍ مُخفَّضة، وإطلاق القوافل الطبيّة في المناطق الأكثر احتياجاً، والتي استفاد منها حتّى الآن حوالى64,5 ألف شخص.
  • تطوير المناطق العشوائيّة: حيث تمّ تطوير 159 منطقة غير آمنة، وإنشاء 85,5 ألف وحدة سكنيّة، استفاد منها 432 ألف شخص، بالإضافة إلى استفادة 586 ألف مواطن من تطوير المناطق العشوائيّة.
  • برنامج “تكافُل وكرامة“: حيث ارتفع عدد الأســـر المُستفيدة من برامج الدَّعــم النقــدي لتبلغ 3,81 مليون أسرة في العام 2020 بزيادة قدرها 523 ألف أسرة عن العام السابق، كما ارتفع إجمالي المُستفيدين من 1,75 مليون مُستفيد في العام 2015 إلى 3,8 مليون مُستفيد، وارتفعت الموازنة المخصَّصة للدعم النقدي من 9 مليار جنيه في العام 2015 إلى 19 مليار في العام 2020.
  • دعم ضحايا الأحداث الإرهابيّة والطائفيّة: حيث تمّ تخصيص 130 مليون جنيه خلال هذا العام لتغطية تكلفة تعويضات المُتضرّرين من الحوادث الطائفيّة والإرهابيّة.
  • التعليم: تمّ إنشاء وتطوير أكثر من 26 ألف فصل ضمن برنامج تطوير منظومة التعليم قبل الجامعي، وإتاحة التعليم للجميع من دون تمييز، لخفْض كثافة الفصول، كما استفاد 295 ألف طالب في مرحلة التعليم الأساسي من المساعدات الماليّة والاجتماعيّة.
  • الطّاقة: حيث تمّ تحسين خدمة توفير الكهرباء للمُواطنين، وتوصيل الغاز الطبيعي لنحو 2,3 مليون وحدة سكنيّة، و141 منطقة جديدة على مستوى الجمهوريّة، وإحلال الغاز الطبيعي محلّ 41.4 مليون أسطوانة بوتاجاز.
  • مياه الشـرب والصـرف الصحّي: تمّ تنفيذ 179 مشروعَ صرفٍ صحّي في القرى، استفاد منها 18.8 مليون مواطن في 7 محافظات هي: أسيوط، وأسوان، والفيّوم، والمنيا، وبني سويف، وسوهاج، والأقصر.
  • مُبادرة “حياة كريمة”: تهدف تلك المُبادرة إلى تحسين جودة الحياة في القرى الأكثر فقراً. تغطّي المُبادرة 1400 قرية، ويتمّ تنفيذ أنشطتها من خلال التعاوُن بين وزارة التضامُن الاجتماعي، وعدد من الجمعيّات الأهليّة. بلغ عدد المُستفيدين من الخدمات الاجتماعيّة، والصحيّة، والاقتصاديّة في المرحلة الأولى 186,525 أسرة، أي حوالى مليون مُواطن تقريباً.
  • تنمية الصعيد: تمّ توجيه استثمارات بقيمة 5,8 مليار جنيه لبرنامج التنمية المحليّة في صعيد مصر (قنا، سوهاج) خلال السنوات الأربع الماضية. تمّ الانتهاء من تنفيذ 713 مشروعاً خلال العامَين الماضيَيْن (223 مشروعاً في قنا، و490 مشروعاً في سوهاج)، بالإضافة إلى اعتماد استثمارات بقيمة 2,9 مليار جنيه خلال العام المالي الجاري (1,3 مليار جنيه لقنا، و1,6 مليار جنيه لسوهاج).
  • تنمية سيناء: تمّ تخصيص 7,6 مليار جنيه لصالح مشروعات التنمية في سيناء ضمن الخطّة الاستثماريّة للعام المالي 2020/ 2021، وتمّ تنفيذ العديد من المشروعات في مجالات الإسكان والطُّرق، والمياه والصرف الصحّي، والتعليم، والصحّة، وغيرها.

من ناحيةٍ أخرى، امتدّت الاستراتيجيّة المصريّة لتشمل التنمية والاستثمار في البشر؛ فخلال العام 2020 تمّ تنفيذ عدد من المشروعات والمُبادرات التنمويّة الهادفة إلى دمْج ثقافة المُواطنة، وقبول التنوُّع الديني والثقافي فـي البرامج التنمويّة المُختلفة في المناطق الأكثر فقراً والأكثر عرضة لخطر التطرُّف، والأحداث الطائفيّة والإرهاب، ومن هذه المُبادرات؛ مُبادرة “اعرف المنيا” لزيارة المواقع الثقافيّة والسياحيّة الفرعونيّة، والمسيحيّة، والإسلاميّة في محافظة المنيا، وذلك لتعريف شباب القرى المُستهدَفة على الهويّة المصريّة، ما يُسهِم في ترسيخ ثقافة التعدّديّة، وقبول الآخر.

في الختام، يُمكن القول إنّ إعلان الأُمم المتّحدة “أهداف التنمية المُستدامة 2030” نابعٌ من فشل الحلّ الأمني في مُواجهة ظاهرة الإرهاب، وأنّه لا سبيل أمام المُجتمع الدولي لمواجهة تلك الظاهرة سوى التنمية. فالسبب وراء انتشار ظاهرة العنف والإرهاب هو تعثُّر عجلة التنمية النّاتج عن تخاذُل الأنظمة السياسيّة، وعدم قدرتها على التغلُّب على العوامل المُعيقة لتحقيقها كالفقر والجهل، وعدم الاستقرار السياسي؛ حيث أدّى تفشي تلك العوامل إلى تنامي شعور المُواطنين بغياب الأمل في التقدُّم والتطوُّر، ومن ثمَّ تآكل الثقة بينهم وبين حكوماتهم.

إنّ اتّساع الفجوة بين المُواطنين والدولة يُمكنه أن يُعزِّز من انتشار العنف والإرهاب؛ حيث سيُصبح الأفراد أكثر عرضةً للتجنيد من قِبَلِ التنظيمات المُتطرّفة، بل وصل الأمر في بعض الدول التي تفشّى فيها العنف إلى ازدهارِ اقتصاداتٍ مُوازية قد تُسهِم في تمويل وتوليد المزيد من الصراعات في المستقبل.

قدَّمت التجربة التنمويّة المصريّة نموذجاً يُحتذى به في مُواجهة الإرهاب؛ حيث نَجحت – إلى حدٍّ كبير – في إعادة الثقة بين المُواطن والدولة من خلال تنمية الشعور بالأمان المُجتمعي في المناطق الأكثر احتياجاً، وعرضةً لخطر التنظيمات المتطرّفة، الأمر الذي ساعدَ على خلْق ظهيرٍ شعبي للنظام السياسي الحالي في حربه ضدّ الإرهاب، على الرّغم من كلّ التحدّيات التي يُواجها المُواطن المصري في الوقت الرّاهن.

***

*باحث في العلوم السياسيّة من مصر

*مؤسسة الفكر لعربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *