التعليم في لبنان: مفتاح الاقتصاد الرقميّ
د. نديم منصوري*
شهد الاقتصاد العالميّ تحوّلاتٍ مُتسارعة ترافقاً مع سرعة وتيرة الاستخدام المُتزايد لتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، ولا سيّما ما بعد انتشار جائحة كورونا. إلّا أنّ هذه التحوّلات تختلف وتيرتها ما بين بلدٍ وآخر، ما يُسهِم في اتّساع الفجوة الرقميّة المخيِّبة لآمالِ الجيل الرقميّ الشبابيّ المتّصل بالتكنولوجيا الرقميّة.
من المُفترض أنّه بحلول العام 2025، سيشكِّل الاقتصادُ الرقميّ العالَميّ 25٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ العالميّ، بينما يبلغ الناتج المحلّيّ الإجماليّ للاقتصاد الرقميّ في لبنان 0.03٪ فقط!
وبالنّظر إلى الأزمة الاقتصاديّة الحادّة التي يعيشها المجتمع اللّبناني، يُمكن للاقتصاد الرقمي أن يكون أحد أهمّ مفاتيح الحلّ للأزمة، من خلال إنتاج وتصدير المزيد من الصناعات الرقميّة، والاعتماد بشكل أقلّ على المنصّات الأجنبيّة، والاستفادة القصوى من المواهب والقدرات اللّبنانيّة المحليّة والمُنتشرة في العالَم. يُمكن أن يساعد ذلك في دعْم الاقتصاد اللّبناني وإيصال إنتاجه إلى معدّلاتٍ تُقارب الـ 20٪ بحلول العام 2030.
من أبرز القطاعات التي يُمكن للبنان أن يلعب دَوراً رياديّاً فيها هو قطاع تكنولوجيا التعليم والابتكار. يحتلّ لبنان المرتبة 18 عالَميّاً من حيث جودة نظام التعليم العالي والرّابع لجودة تعليم الرياضيّات والعلوم. إضافة إلى الثقة التي تتمتّع بها الجامعات والمدارس الخاصّة ضمن الوسط العربي، نظراً للتاريخ النّاصع لها في إنتاج الكثير من العقول اللّبنانيّة والعربيّة. إلّا أنّ قطاع تكنولوجيا التعليم والابتكار يحتاج إلى استراتيجيّاتٍ رؤيويّة وتشريعاتٍ مُواكِبة ومناهج محدّثة وتعبئة مستمرّة للموارد البشريّة واستثمارات عالية في البحث والتطوير. في المقابل لا يشهد هذا القطاع آليّات عمليّة لدعْمه، بل قوبلَ بتقصيرٍ فاضح على المستوى التشريعي والحكومي!
يحاول هذا المقال استعراض التحدّيات التي يعيشها حاليّاً هذا القطاع، واقتراح بعض المُبادرات المُساعِدة على تعزيز الاقتصاد الرقمي من بوّابته التربويّة في ظلّ ما يمرّ به لبنان من أزمةٍ اقتصاديّةٍ حادّة.
- التحدّي الأوّل: تشريع التعلُّم من بعد في لبنان
ترتَّب عن الانتشار السريع لفيروس “كورونا”، الاعتمادُ على التكنولوجيا الرقميّة كطريقةٍ بديلة لاستمرار التعليم في لبنان، كما في جميع دول العالَم. فَرَضَ هذا الواقع تحديّاً قانونيّاً، تمَّت معالجته بصورةٍ استثنائيّة من خلال موافقة مجلس الوزراء اللّبناني في جلسته المُنعقدة في 25/ 06/ 2020 على “اعتماد التعليم الرقمي من بُعد تحت الظرف الاستثنائي”، إلّا أنّ هذا الإجراء لا يضع عمليّة التعليم من بُعد ضمن إطارها القانوني الصحيح.
في المقابل هناك اقتراحُ قانونٍ يرمي إلى إضافة فقرة إلى المادّة الخامسة من القانون رقم 285/ 2014 الأحكام العامّة للتعليم العالي وتنظيم التعليم العالي الخاصّ. والمشكلة أنّه لم يتمّ التعاطي مع هذا الاقتراح بالجديّة اللّازمة، وما زال أمر تشريع التعليم الرقمي في لبنان معلَّقاً.
نشير إلى أنّ هذا التعليق أو مُقاومة التغيير، سيؤثِّران في مَسار التعليم برمّته في لبنان، وسيشكّلان ضربةً قاسية لهذا القطاع؛ حيث لا يعقل أن تُهيمن الذهنيّة التقليديّة أو القاصرة، لتتجاهل العوائد الاقتصاديّة أو الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا التشريع الذي يفتح المجال لاستعادة لبنان دَوره في المنطقة على الساحة التربويّة.
- التحدّي الثاني: البنية التحتيّة والجاهزيّة الشبكيّة
يُعتبر توصيف واقع الجاهزيّة الشبكيّة بمكوّناتها المختلفة – حاسبات وشبكات اتّصال وإنترنت وكهرباء – مدخلاً للتحقُّق من الخدمات اللّوجستيّة المتوفّرة لضمان نجاح مهامّ قطاع تكنولوجيا التربية والابتكار. وبطبيعة الحال فإنّ عدم الجاهزيّة الشبكيّة يُشير إلى ارباك الحكومة في التعامل مع الوسيط الرقمي وتأمينه بشكلٍ متكافئٍ وعادلٍ لجميع المواطنين، بخاصّة أنّ الإنترنت باتَ حقّاً أساسيّاً من حقوق الإنسان وفق مقرّرات مجلس حقوق الإنسان التّابع للأُمم المتّحدة، والذي “يدعو جميع الدول إلى تعزيز وتيسير الوصول إلى الإنترنت والتعاون الدولي الرامي إلى تطوير وسائط الإعلام ومَرافق المعلومات والاتّصالات في جميع البلدان”.
يعتمد تحديد الجاهزيّة الشبكيّة في أيّ بلدٍ في العالَم على أربعة مُعطياتٍ فرعيّة هي: البيئة، الجاهزيّة، الاستخدام، التأثير. وقد حدَّدَ لكلّ معطى من هذه المعطيات مؤشّرات لا بدّ من توافرها ليُحقِّق البلدُ جاهزيّتَهُ الشبكيّة. بذلك حدَّد للبيئة وجوب توافُر البيئة التنظيميّة والسياسيّة (9 مؤشّرات)؛ والبيئة التجاريّة والابتكار (9 مؤشّرات)؛ وحدَّد للجاهزيّة وجوب توافر البنية التحتيّة (4 مؤشّرات)؛ والمهارات (4 مؤشّرات)؛ ولمعطى الاستخدام حدَّده بـ الاستخدام الفردي للإنترنت (7 مؤشّرات)؛ والاستخدام التجاري (6 مؤشرّات)، والاستخدام الحكومي (3 مؤشّرات). وأخيراً حجْم التأثير الاقتصادي (4 مؤشّرات)، والتأثير الاجتماعي (4 مؤشّرات).
المشكلة الكبرى أنّ معظم هذه المؤشّرات يشوبها الكثير من العقبات، التي تفضح السياسات الحكوميّة المتعاقبة المبنيّة على الهدر والفساد، التي لم تعمل وفق رؤية استراتيجيّة تساعد القطاعات الاقتصاديّة في مسارها العملي. وبالتالي يصبح أمر تعزيز الحوكمة الرقميّة أمراً أساسيّاً لاستبدال سياسات الهدر والفساد بسياسات الإصلاح والمُحاسَبة.
- التحدّي الثالث: الاعتماد الكبير على المنصّات التعليميّة الأجنبيّة
يُعتبر قطاعُ تكنولوجيا التعليم والابتكار من أهمّ القطاعات الاقتصاديّة لكونه يؤثِّر حكماً في أداء مجمل القطاعات الأخرى. هو أيضاً قطاعٌ اقتصادي قائم بذاته باعتباره سوقاً متميّزاً يستهلك المُنتجات والتقنيّات والمحتوى والأصول الفكريّة لتمكين عمله، وقد بَرزت ساحته بشكلٍ كبير بعد جائحة كورونا كونه بات القطاع الذي يسمح باستمرار التعليم من دون انقطاع. لكنّ المُفارَقة أنّ الرؤية التربويّة لم تعمل على الاستفادة من الطّاقات العلميّة والتربويّة والتكنولوجيّة المحليّة، بل اعتمدت على المنصّات التعليميّة الأجنبيّة، ما يشكِّل ضرراً كبيراً على هذه الصناعة، وإقصاءً للمُبادرات الشابّة والشركات الناشئة التي تمتلك الحلول المُناسبة. إنّ أخْذ القرار في الاعتماد على المنصّات التعليميّة المحليّة هو خطوة أساسيّة في إنعاش هذا القطاع، كما يُمثِّل تحوُّلاً منهجيّاً بعيد الأجل في توليد الفُرص التجاريّة والاقتصاديّة ودعْم الطّاقات العلميّة الواعدة. وبالفعل تقدّمت العديد من المنظّمات والجمعيّات اللّبنانيّة المُختصّة في الاقتصاد الرقمي بتوصياتٍ تَدعم اقتراحَ مشروع قانون يمنع اعتماد المنصّات التعليميّة الأجنبيّة إذا كان مُتاحاً أمثالها من المنصّات المحليّة. يُشجِّع هذا الأمر البرمجيّات المحليّة والمحتويات الرقميّة التعليميّة، وبالتالي تعزيز الاقتصاد الرقمي.
- التحدّي الرّابع: عدم وجود برامج ميكرو ماستر Micro Masters خاصّة في مجال التكنولوجيا الناشئة
إنّ تطوير قطاع تكنولوجيا التربية والابتكار في لبنان يحتاج فعلاً إلى خطواتٍ عمليّة لمُواكَبة ما يجري في المنطقة والعالَم. لا بدّ من الاستفادة القصوى من جائحة كورونا التي وَضعت التعليمَ الرقمي ضمن المَسارات التعليميّة حيّز التنفيذ. وبالتالي فإنّ العمل على اعتماد الماجستير المصغَّر Micro Master في الجامعات والمعاهد اللّبنانيّة أمر حيويّ للغاية.
إنّ الماجستير المصغّر هو برنامج دراسي يتكوّن من مجموعة دَورات/ مساقات تعليميّة للخرّيجين في تخصُّصٍ علمي محدَّد لتطوير الحياة العمليّة أو المهنيّة للمُتعلِّم. يُمكن للطلّاب التقدُّم للجامعة التي تَعرض المساق للحصول على شهادةٍ مُعتمَدة. يتمّ اعتماد الماجستير المصغّر Micro Master من قِبَلِ العديد من الجامعات العالَميّة الشهيرة (مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT وجامعة كمبريدج Cambridge وجامعة ستانفورد Stanford وجامعة بوسطن Boston وغيرها الكثير). وتُسهم هذه الشهادات إلى حدّ بعيد في إيجاد فُرص عمل مباشرة بعد نَيلها، كونها تُحاكي متطلّبات السوق.
إنّ إيجاد هذا النَّوع من الشهادات في الجامعات اللّبنانيّة سيُعطي دفْعاً لقطاع تكنولوجيا التربية والابتكار، وسيَفتح باب التنافُس، وسيَمنح الطلّاب شهاداتٍ علميّة تَفتح لهم أبواب العمل في الداخل والخارج.
- التحدّي الخامس: عدم الاستفادة من المنصّات الرقميّة لتعليم اللّغة العربيّة
لا يغيب عن أحد أهميّة اللّغة العربيّة على المستويات الحضاريّة والثقافيّة والعالَميّة، فهي اللّغة الرّابعة في العالَم وينطق بها أكثر من 450 مليون نسمة حول العالَم. ومن اللّافت أنّ العديد من الدول العالَميّة أَوْلَت اللّغةَ العربيّة اهتماماً خاصّاً لتعليمها في مدارسها وجامعاتها الحكوميّة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، مشروع قانون لتدريس اللّغة العربيّة في مؤسّساتٍ حكوميّة فرنسيّة علمانيّة من طرفِ مُختصّين في اللّغة بشكلٍ مُحترِف، أو في بريطانيا التي تعمل حكومتها على الاهتمام بتعليم اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها، أو اهتمام الولايات المتّحدة بتعلُّم مواطنيها اللّغة العربيّة منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. ناهيك بالجاليات اللّبنانيّة المُنتشِرة في العالَم التي تشكِّل اللّغةُ العربيّة لديها الرابط الأساسي مع البلد الأُمّ، وحيث يحرص معظم الآباء على الحفاظ على نقل اللّسان العربي بين الأجيال المُتعاقبة.
يشكِّل كلّ ما ورد أعلاه، فرصةً لقطاع تكنولوجيا التعليم لتكون اللّغة العربيّة أحد أبرز مُنتجاته. وهي تشكِّل سوقاً عالَميّاً للناطقين وغير الناطقين بها على حدّ سواء. يحتاج الأمر إلى دعْمِ المنصّات الرقميّة التي تعلِّم اللّغةَ العربيّة والالتفات إلى هذا السوق الكبير ذي الأبعاد الحضاريّة والاقتصاديّة.
- التحدّي السادس: إهمال الابتكارات ضمن رؤية مُستدامَة
سجَّل لبنان المرتبة 87 عالَميّاً ضمن مؤشِّر الابتكار العالَمي في العام 2020. يعود سبب هذا التصنيف المُنخفض إلى العديد من العوامل المُتراكمة مثل عدم وجود إصلاحات قانونيّة، عدم وجود استراتيجيّة واضحة، الافتقار إلى مركزيّة تسجيل الابتكار، التمويل المُنخفِض، عدم وضْع الابتكار ضمن الأولويّات… إضافة إلى تشتُّت المُبادرات القائمة وعدم إدراجها ضمن خطّة مُستدامة.
إنّ تعزيز الابتكار ودعْم ريادات الأعمال من شأنه أن يُعزِّز مجمل القطاعات المُعتمِدة على تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، وبالتالي فإنّ دعْم الابتكار يُسهِم في الحفاظ على العقول النيّرة والحدّ من هجْرتها.
في هذا الجانب لا بدّ من تسليط الضوء على دَور الجامعة اللّبنانيّة الوطنيّة كمؤسّسة رائدة في مجال الابتكار والبحث والتطوير. وقد كَشفت الجامعة اللّبنانيّة خلال أزمة فيروس كورونا عن مدى قدرتها في التعامُل مع الأزمات، وفي إيجاد الحلول الابتكاريّة، ما يدلّ على الكمّ الكبير من القدرات الشبابيّة والأكاديميّة المُتوافرة. وبالتالي لا يُمكن أن يُحقِّق الابتكار إنجازاته من دون الحفاظ على الشراكة ما بين الأكاديميّين والقطاعَيْن العامّ والخاصّ، إضافة إلى المراكز البحثيّة وحاضنات الأعمال. ذلك كلّه يحتاج إلى استراتيجيّةٍ وطنيّة للابتكار تَدعم من خلالها مُجمل القطاعات الاقتصاديّة.
في الختام، يُشكِّل دعْم قطاع تكنولوجيا التعليم والابتكار خطوةً استراتيجيّة لخلْقِ جيلٍ رقميّ متمكّن من المهارات الأساسيّة التي تخوّله الدخول إلى سوق العمل من جهة، والتي تمنحه القدرةَ على التأقْلُم مع البيئة الرقميّة المستجدَّة من جهة أخرى.
نحن بحاجةٍ فعليّة إلى رؤية مُتكاملة تبدأ بإقرار المناهج الحديثة القادرة على تعزيز المجال المعرفي والاجتماعي والفردي والوجداني للتلميذ اللّبناني، وتنتهي بخطّةٍ رشيدة قائمة على مبدأ الحَوْكَمة، لمُحارَبة أيّ شكلٍ من أشكال الفساد في أروقة التربية.
***
*أستاذ عِلم الاجتماع في الجامعة اللّبنانيّة
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق