سجلوا عندكم

ما ينفع الناس ويمكث في الأرض

Views: 492

فيصل طالب        

(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)

 

أيّها الأصدقاء

صديقي وجيه فانوس.. أيّها الغائب الحاضر.                                  

 

كيف لصهيل الأصالة أن يصمت في موكب الخيل العاديات، وقد أتاحت له مضاميرالبحث والكتابة أن يعبر المفازات، ويغالبَ العقبات، فيحاور الريح، ويرشدَ إلى وميض برق وإرهاص مطر، من غير أن يشكو بعبرة وتحمحم؛ فهو يحزن ولا يبوح، يتألم ولا ينوح؛ إذ كم من دمعة في الروح لا تدري بها الأهداب؟!

كيف تعجّلتَ يا صديقي الترجّل عن جواد لم يكْبُ يوماً في ميادين العطاء، وقد أسرجتَه وهمزتَه في دروب الوَعْر، ليجتاز الجسر المعلّق بين كهوف الخيبات ورحاب الأمل، ولو كان ما بينهما بحرمن القهر والعبث والهذيان؟!

كيف هجرتَ ناصية الكلام، وأنت الذي أمضيتَ أيّامك تلملم شتات الحروف، وتكتب قصيدة العمر، وتجمع بقايا الوقت، ثائراً على الضمور والانكفاء، متحداً بالحياة كاتحاد الغمام بالمطر، ومنداحاً فيها كاندياح الماء في الأرض العطشى؟!

كيف استسلمتْ روحُك الوثّابة لرواحك الأخير؟ وطبعك المرِحُ الرغيد الذي تمرّس بقدرة التجاوز والاحتواء، كيف انهزم أمام الموت في المنازلة الأخيرة؟ ألم تقل لي غير مرّة إنّك مقاوم شرس تقاتل بمثقّف الكلمة، ودِرْع الحبّ ماءِ الحياة وإكسيرِها؟ أمّا بيروتك الحبيبة فكيف غَفَلَتْ عنك، وأنت تغمض عينيك وتخلد إلى النوم، وهي التي ما اعتادت أن تغمض جفنيها عن مبدع معطاء، لأنّ بيروت عندما تغيب عن العين يغيب معها العمرُ، كما تقول الشاعرة سعاد الصباح؟! 

هل مللتَ هذا الزمان يا صديقي، وسئمتَ من تمدّد القلق، وتثاؤب الضجر، واستكانة النبض العاثر في حفرة التردّي، ومواجهة الذبول المتربّص بنضارة الأزهار، والأسر المتوعّد لحريّة الفراشات، والبَكَم المهدّد لتغريد العصافير؟ هل أتعبك الوقوفُ على حدود الانتظار، ورسمُ بكائيات الوجع المنتحب على الجدران المتهالكة للأحلام الضائعة؟ أم استشعرتَ أنّ زورق الوعد الذي أبحرت فيه طويلاً لم يعد صالحاً للسفر؟ هل وجدتَ يا صديقي أن اللُّهاث وراء طيف الترياق المداوي لإدمان النكوص والانكسار هو وهم وسراب؟ ألم تعدْ مهتمّاً بحفر آبار الرجاء في صحراء القنوط، وإحياء أطلال السواقي في بساتين الأماني؟ أَلأنّ الزمان صار قاحطاً غائضاً في أغوار النكران والتخلّي، فيه يكثر النفاق، ويستشري الشقاق، ويتقزّم العمالقة، وتتعملق الأقزام، ويسود الرويبضة، ويُظلم أهل الفضل والمعرفة؟

أيّها الأصدقاء

من تمرّس بالعطاء لا يغيب، بل إنّ غيابه ينبض حتماً بحضوره، لأنّ أصدق تجليّات الحضور وأعمقها هو في الغياب؛ لكأنّ الحضور الواقعي لا يقارن ب”الحضور الغيابي”، ولأنّ ما يميّز الكبار من الهامشيين هو تلك المفارقة اللافتة: الهامشيون أطياف بَهَتٍ في حضورهم، والكبار حقائق زهْوٍ في غيابهم؛ لكأنّهم عندما يغيبون يولدون من جديد، لكن هذه المرّة من رحم  الزمان!  

فيا صديقي وجيه.. كم يعزّ علينا رحيل من هم بشهادتهم قائمون، الذين ما  انكفأوا، ولا نكثوا، وأدّوا الأمانة، وما بدّلوا تبديلا. يكفيك ذخراً لمرضاة الله والسكن في فسيح جنانه أنّك أحجمتَ عن الزبد الذي يذهب جُفاءً، وأقدمتَ على ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.                                       

رَحِمَك الله.                

***

*كلمة ألقيت في ذكرى مرور أسبوع على وفاة د. وجيه فانوس.

الرابطة الثقافية- طرابلس

٢٣-٧-٢٠٢٢

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *