سجلوا عندكم

سقراط مسألة الجدل: المعرفة من دون عدالة هي مهارة لا حكمة

Views: 65

وفيق غريزي

شكّل سقراط علامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي. فهو على مستوى الفلسفة اليونانية يؤرخ به قبل سقراط وبعد سقراط، وهو على مستوى الفكر العالمي احد اكبر الحكماء القدماء الذين لم يتركوا اثارا مكتوبة تعرفنا بهم، ومع ذلك يبقى لغزا محيّرا لا ندري ان كنا نعرف عنه القليل أو الكثير، وهو اذ صرف النظر لاسباب، عن مباحث الكون والعلم الطبيعي، واعتبر مذهبه، من هذه الناحية، بعض القصور، فانه كان قد غرس في نفوس تلاميذه ومريديه التأمل في معنى الحياة، وقدّم منحى في التفكير له صفة الفرادة، نعني به، تجربته الشخصية، ومنهجه التوليدي.

ولكي نفهم عمق المسألة والصراع الذي شغل حيّزا فيها، ولكي ندرك جيّدا المحتوى النظري لتعاليم سقراط، يجب أن نضعه من جديد في سياقه الاجتماعي والسياسي، في المناخ الايديولوجي والروحي لبلاد اليونان آنذاك، من هنا يتحدد الاطار والبنية لكتاب (نيوكاريس كيسيديس) “سقراط ومسألة الجدل”، بعيدا عن الادعاء في نشر تقويمات لا يرقى اليها الشك، أو انه يحمل حلا قاطعا للمسألة السقراطية، فالمؤلف متمسك بابراز الفكرة العامة، المعنى والمبنى لتعاليم سقراط.

 

لغز سقراط 

معظم الباحثين الذين اعتقدوا بامكانية اعادة تشكيل الشخصية التاريخية لسقراط، اختلفوا في تقويمهم للمصادر. ولقد كان قبل كل شيء معرفة أي من افلاطون واكسينوفان وجب اعتباره مقاربا لليقين. ولكن يعتقد المؤلف بأنه كان واضحا أن ليس بالامكان أن يبقى أسير هذه القضية التفاضلية. فقد دعت الضرورة القيام بدراسة دقيقة لكل الشهادات في سقراط وصولا حتى عصرنا الحاضر؛ ولنتذكر انه منذ قرن عمل كثير في هذا الاتجاه، غير أن هذا العمل الفائق الأهمية ولا شك، ولكن المحكوم بمنهجية ارتكزت على تحليل فيلولوجي للنصوص، وفحصها نقديا، ومقاربتها مع غيرها لاثبات مصداقيتها، وما كان يقصد ابراز ثمة علاقة بين المصادر والظروف الاجتماعية والروحية للعصر الذي عاش فيه سقراط، فالتوجه نحو تحليل اصولي محض للمصادر التي تناولت سقراط يؤدي الى نتائج غير متوقعة تماما. ومشكلة سقراط، حسب رأي الموًلف تصبح اكثر تعقيدا وتشوشا، فبعض الباحثين، مستندين إلى تحليل فيلولوجي للنصوص، خلقوا منه شخصية اسطورية وخرافية، فقد انكروا القيمة التاريخية لكل الشهادات الوازنة في سقراط دون استثناء وفي المرتبة الأولى تلك التي لافلاطون واكسينوفان وارسطو …

يؤكد المؤلف أنه هو ذا الحل لمسألة سقراط الذي كان اقترحه، على سبيل المثال   “اي ديبرييل”، وفي عداد الموالين الاكثر راديكالية لهذه النظرية، ونذكر “اوجيكون”، الذي يقول: “كما اننا لا نشك ابدا في ضخامة الأدب الذي كرّسه الاقدمون في سقراط، يستحيل عمليا أن نعيد تشكيل صورته التاريخية، والنتيجة تفرض أنه منذ البداية، ما كان لهذا الأدب أن يقصد اطلاقا ابراز سقراط في التاريخ، والذي تحدّث عنه إنما هو سقراط آخر، إنه وهم شعري مبتدع من مخيلة العديد من الشعراء مع هذه الحرية التي هي حصرًا للشعراء “. إن الأدب السقراطي ليس سيرة تاريخية، وإنما هو وهم شعري، وعلينا أن نعتبره كما هو.

 

كل محاولة للبرهنة على أن سقراط الحقيقي، ومن علم فعلا، تصطدم بالخلافات التي يصطرع مؤلفو الأدب السقراطي في اتونها، فكل منهم تخصص لمهمة هي اعادة تعريف للغاية التي كان هدف اليها، أو الوقوف على سر سقراط التاريخي، وإنما لتعميم نظرياته الخاصة قبل أي اعتبار، ثم أن اعادة تشكيل تصورات احدهم الذي كان قد اقتصر على الدعاية الشفهية لهذه التصورات، هي مغايرة محفوفة بالخطر، ولن تودي بالتأكيد الى نتائج حاسمة. اما ارسطو فقد رأى أن هناك ميزتين لسقراط يجب التسليم بهما صراحة، اذا اردنا أن نكون اوفياء له: انه عرف كيف يخلق المنطق الاستقرائي ويعطي التعريفات العامة، مع التأكيد على أن سقراط، بخلاف افلاطون، ما كان ليقر بان المثل تستطيع أن تنفصل عن الاشياء.

سقراط والديمقراطية

يشير المؤلف الى أن سقراط كان يرى في عدم المساس بالقوانين وفي اذاعتها الأساس لتطور الدولة ولانتظام عمل مؤسساتها. اما بيركليس قائد الشعب في اثينا فقد كان ينظر الى عدم المساس بقوانين الدولة وطاعة الحكام كمدماك من مداميك الديمقراطية، أن هذا الموقف لسقراط، ليس فيه أي عداء للديمقراطية، كذلك مفهومه للارستقراطية. فبحسب شهادة اكسينوفان، كان سقراط يفهم الارستقراطية على انها فقط النظام الذي يكون الرجال المدعوون فيه الى الحكم مختارين من بين المواطنين الذين يحترمون القوانين. كان من الطبيعي جدا، ألا يرى سقراط في الاستبداد الا اعتباطية وجورا، سلطة مفروضة على الشعب في ازدراء للقوانين وبمشيئة الحكام وحدها “كل شيء يثبت أن سقراط كان يولي اهمية قاطعة، ليس لشكل الحكم باستثناء الاستبداد الذي يشجبه بجرأة، وانما لاحترام القوانين الصارم ولاهلية قيادة الدولة”…

 

لقد انتقد سقراط رمي القرعة بالنسبة الى الحكام، فمنذ القدم حتى يومنا هذا، كان هذا النقد يذكر ولم يزل كحجة رئيسة في تأييد مقولة لا ديمقراطية سقراط. وثمة اتهامات قاسية توجّه ضد سقراط ومنها يحض سقراط على انكار القوانين القائمه، قائلا انه “لمن الحماقة انتقاء الحكام بواسطة حبة فول، في حين أن احدا لا يريد أن يعتمد على الصدفة في اختيار ربان سفينة، أو مهندس، او عازف ناي، او أي رجل من هولاء الرجال، والذي قد تكون اخطاؤه اقل سوءًا بكثير من اخطاء هؤلاء الذين يحكمون الدولة. مثل هذه الاقوال تحث الشباب على احتقار النظام القائم، وتدفع بهم الى العنف”. 

وفي افكاره المتعلقة بممارسة الحكم، كان سقراط سابقا لعصره، لذلك كان غير مفهوم بالنسبة إلى عدد كبير من مواطنيه، وحتى عرضة لعداوتهم بالرغم من كونه لم يرتكب أي جريمة، ولم يكن عليه اي مأخذ على الصعد العسكرية والدينية والسياسية. وعرف سقراط كيف يسمو فوق الأحكام المسبقة لعصره حول مسألة الرق، وكان الرق بالنسبة اليه مقولة اخلاقية وليست قانونية او عرفية. 

 

فلسفة سقراط ومنهجه 

ذات يوم، وهو عائد إلى دلفي، حيث معبد ابولون، سيتجرا شيرينون، الذي كان في صباه صديق سقراط وتلميذه، على سؤال العرّافة (أي وسيط الوحي): “هل بين الرجال من هو اكثر حكمة من سقراط؟” و”ماذا يعني الاله بهذا الجواب: ليس هناك من احد”. إنه لمن الصعوبة بمكان الحكم في يومنا هذا على صحة هذه القصة. (https://nyicff.org) ولكن ليس لنا أي حق في ألا نرى فيها إلا خرافة او اسطورة. ويقول المؤلف: “فمن المؤكد أن افلاطون في دفاعه عن سقراط مخاطبا هيئة المحكمة، كان يقدر هذه الحادثة الخطيرة لتبرئة الفيلسوف، لأن شيرينون، المدافع الأصولي عن الديمقراطية، كان قد نفي من اثينا من قبل الاوليغارشية، قبل فترة وجيزة من نهاية الحرب البلوبونيزية، وكان اسمه يضمن موضوعية شهادته امام انظار متهمي سقراط، كما امام محاكميه”. قد يكون هناك تهوّر خطير من جانب افلاطون حين يسوق اكذوبة واضحة للعيان، وهو يختلق من بين كل النصوص هذه الحادثة من جانب شيرينون. لقد اعتبر سقراط بخلاف محافظي عصره كارسطوفان، أن الوسيلة الفضلى لتوطيد المجتمع وتدعيم اسسه الاخلاقية والروحية ليست باطراح التقاليد والنظم القديمة من نقد السوفسطائيين، وانما في البحث عن معرفة “الاشياء والانسانية”، وفي سبر العالم الداخلي للانسان والعودة الى جوهر افعاله وسلوكه. ويعتبر سقراط أن الذي يدرس ما يتعلق بالانسان انما يقصد أن يجعل في المتناول كل ما سيتعلمه إن كان بالنسبة إليه او بالنسبة إلى الاخرين.. 

 

ويعتقد المؤلف بأن فلسفة سقراط معرفة وعمل، نظرية وممارسة، تشكّل كلا واحدا، فالمعرفة تحدد قيمة الاعمال، والاعمال تحدد قيمة المعرفة، من هنا تأكيده أن المعارف الحقيقية والحكمة الصحيحة (الفلسفة) سهل تحقيقها على الانسان، وهي مفصولة عن الاعمال الحقة وعن المظاهر الاخرى للفضيلة، ولا يكون بامكاننا أن نسمي فيلسوفا الانسان الذي وهو يتقن المعارف والحكمة لا يمارس الفضيلة في الحياة التي يعيش. يقول سقراط: “بالنتيجة فكل معرفة دون العدالة والفضائل الاخرى، ليست الا مهارة، لا حكمة”. ومن ثم، فان احدى مميزات أي فلسفة حقيقية أو فيلسوف حق، هي بحسب سقراط تكمن في التعرف على وحدة المعرفة والفضيلة، اذن، ودوما بحسب سقراط، فالفلسفة لا تقتصر على النشاط النظري البحت، بل هي تستتبع ايضا نشاطا عمليا: سيرة حسنة واعمالا صالحة هي موجز ما يتوصل اليه سقراط اكسينوفان. وباختصار الحكمة هي الفضيلة او هي كذلك معرفة الخير التي تتضمن الاحساس بالخير؛ ومن هذا المنطلق يبحث عن الاعمال الصالحة ويحيد عن السيئات. 

يرى المؤلف انه بالنسبة الى سقراط، الاختيار المعقول والسلوك الحسن، لا يتحققان إلا من خلال معرفة الخير والشر، ومعرفة النفس وموقعها ومصيرها في العالم.

 إن قيمة معرفة الخير والشر الجيد والرديء، تكمن في فعالية هذه المعرفة ونتيجتها الفورية وفي تأثيرها الحاسم على الانسان، ومعرفته التي موضوعها الفضيلة، ويقول سقراط في هذا الصدد: “يمكن أن تنظم سلوك الانسان الى درجة تعلمه ما هو الخير وما هو الشر، ولا شيء اطلاقا يجبره على فعل شيء اخر، الا بما تأمره به هذه المعرفة”. فموضوع الفلسفة ودورها الاساس وهدفها الرئيس، هو كما يقول سقراط، في معرفة طبيعة الانسان المصدر الأول لاعماله وسلوكه، لطريقته في العيش والتفكير.

 

سقراط ونظرية الخير والروح

في مسألة معرفة ما هو الخير، وكلام الخير الأعلى بالنسبة الى الانسان، نتعرف على ما نسميه المنفعية الاخلاقية لدى سقراط، ونأخذ كذلك باختيار النصوص التي قدّمت مادة للتحدث عن منفعية براغماتية الاخلاقية. لنبحث من ثم كيف تتوافقان مع نظرية الخير وفي الفضيلة، مع المبادىء الاساسية لتعاليمه الاخلاقية بشكل عام. يذكر المؤلف أن في جمهورية افلاطون يطالب تراشيماك سقراط برد واضح وصريح على سؤاله: “ما هي العدالة، حذار من الزعم أنها تكمن في أنه ينبغي أن يقدم النافع والمنطقي والمريح أو الملائم. اشرح انت، بكل وضوح وتحديد، لأنني لا احتمل أن اسمعك تهذر”. رافضا التعريف السقراطي للعدالة، كتعريف فيه غاية المفارقة. ويؤكد في سياق المناقشة أن العدالة أو العادل هو الذي يلائم  الأقوى. بما يجيب سقراط ؟ “انني عرفت واياك أن العدل هو نوع من الملائم ولكن حتى يضاف للتو؛ ملائم الأقوى بالنسبة إلي، فهذا ما اجهله ” 

يمكن القول إن أي اختلاف من حيث المبدأ لا يباعد ترشيماك عن سقراط، ذلك أن الأول كما الثاني، مفهومه للعدالة نفعي، وفضلا عن ذلك فصيغة العدالة هي ما يلائم الانسان، ليست المثال الوحيد للمنفعية الأخلاقية التي نجدها لدى سقراط والتي تقرّبه من السوفسطائيين.

 

في محاورة مينون لافلاطون، كان سقراط قد ساوى بين النافع والخير للبرهنة إن كانت الفضيلة تجعل من الناس صالحين، واذا ما وجب على الخير أن يكون نافعا، من زاوية أن كل خير آت من ناس صالحين هو نافع، قول المؤلف: “نجد اراء مماثلة، تكون الفضيلة ومقالها من يضع خيرا ويكون هذا الخير نافعا “. عند افلاطون في بروتاغوراس، يؤكد سقراط أن جميع الاشياء الجميلة تعتبر كذلك فقط بسبب منفعيتها، والوجهة التي تستخدم خلالها، أو الفترة التي تحدثها.

الحكمة اعظم الفضائل، كان سقراط يقومها ليس فقط في المعرفة، وانما ايضا في ممارسة الفضيلة، وفي اختيار الخير، ومفهوم الروح عند سقراط، يتأثر بقوة باخلاقياته. ويعتبر سقراط أن ثمة علاقة قائمة بين الروح والنشاطات العقلية، هي ضمانة العقل والفكر معا. ويؤكد المؤلف أن سقراط، في الواقع كان الفيلسوف الاغريقي الأول الذي عرض بوضوح مسألة العلاقات بين الروح والجسد “فقبله استغرقت هذه المسألة بشكل خاص الفيثاغوريين والاورميين، إلا أن هؤلاء كانوا قد ادرجوها في دائرة الدين بدلا من الفلسفة. ومع سقراط فقط، بدأت الفلسفة، من وجهة نظر مثالية، تعالج علاقات الروح والجسد، وعندما دعا سقراط للاهتمام بالروح، كانت الغاية التي تتبعها الحكمة النشاط العقلي، والجهد الاخلاقي، وليس القداسة….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *