زياد أبو عبسي… الباحث، المُمثل، والمُخرج “العاشق للمسرح الشكسبيري”
المحامي معوض رياض الحجل
تَعرّفَ قسمٌ كبير من الجمهور الفني وعلى مدى عقود على أبداع المُمثل والمُخرج الراحل زياد فهد أبو عبسي(1956-2018) من خلال شخصية “أبو الزلف الثائر المُتمرد” في “مسرحية شي فاشل”، و”إدوار الخائف من الآخر” في “مسرحية فيلم أميركي طويل” …ولكن ما قد لا يعرفهُ الكثيرون أنهُ أيضاً باحثٌ عميق في تاريخ المسرح وعاشقٌ كبير لروائع وليام شكسبير، ومولعٌ بقراءة كيركغارد وجان بول سارتر.
أضحكت أدوار زياد المسرحية بعض الجمهور وأبكت الكثيرين. رَسّخَ حضوره الاستثنائي من خلال شخصياته الكوميديّة العبثيّة التي لا تتكرر ثم شخصياتهِ الدرامية، أما شخصيته على مسرح الحياة فقد تميّزت بالجديّة والرصانة.
البدايات
ولدَ زياد أبو عبسي في مدينة صيدا عام 1956، لعائلةٍ من بلدة راشيا الفخّار. حُبّ المطالعة، خصوصاً الكتب والمجلات الفلسفية، وشغف المسرح، رافقهُ منذ أن كان “ابن 14” ينزل بالباص من صيدا الى ساحة رياض الصلح حيث يشتري مُسرعاً الكتب من بائع يراعيه في السعر بسبب صغر سنّه.
شغفهُ بالمسرح بدأ بالظهور منذ انضمامهِ وهو على مقاعد الدراسة الى الفرق الكشفية حيث كان يؤدي مشاهد مسرحية عفوية بالتعاون مع رفاقه بالكشافة.
التحقَ زياد في العام 1974 بقسم المُحاسبة في “الجامعة اللبنانية الأميركية “، لأنّ مجموعه في البكالوريا قسم ثانٍ خوّلهُ ذلك، ولأنّه أختصاص جامعي مطلوب في سوق العمل يُتيحُ لهُ إيجاد فرصة عمل مُحترمة تكسبهُ للمال، لكنّ الأرقام والمُحاسبة لم تمنع صُعودهِ على خشبة المسرح وأحترافهِ التمثيل. على مسرح الجامعة، تعرّفَ زياد أبو عبسي إلى أدباء وكتّاب كثر، منهم الأديبة اللبنانية الراحلة روز غريّب (1909-1996)، وشَاركَ في مسرحية من تأليفها بعنوان “فينيانوس بالضيعة”.
التعاون الفني الابداعي مع زياد الرحباني
حركة الشاب العشريني واليساري الهوى زياد أبو عبسي المُميزة في المسرح الجامعي دَفعَت بأستاذتهِ صفية سعادة عام 1977 إلى أصطحابهِ للقاء زياد الرحباني، الذي كان نجمهُ الابداعي المسرحي والموسيقي قد بدأ يلمع في تلك المرحلة من تاريخ لبنان. ذلكَ اللقاء المُثمر خَلقَ تعاوناً فنياً وصداقةً طويلة الأمد بين الرجلين حتى رحيل أبو عبسي في العام 2018، كانت أولى ثمارهِ المسرحية أداء أبو عبسي بنجاح دور “هارولد” في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” عام 1978.
في العام نفسهِ، التحقَ أبو عبسي بكلِ اندفاع بقسمِ المسرح في الجامعة ذاتها. هناك، قامَ بتظهير تجربتهِ الكتابية الأولى عام 1979، فولدت مسرحية “الشمع”. شَاركَ في جميع أعمال زياد الرحباني المسرحية منذُ عام 1978: “فيلم أميركي طويل” 1980، و”شي فاشل” 1983، إلى “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” 1993 و”لولا فسحة الأمل” 1994. كما شَاركَ في البرنامج الاذاعي “العقل زينة” الذي كان يُبث على اذاعة “صوت الشعب” في منتصف ثمانينيّات القرن العشرين. البرنامج الاذاعي عبارة عن حوارات ثنائية لا تخلو من السخرية من استمرار الحرب والمآسي وأنهيار العملة الوطنية… وقد شاركَ إلى جانب زياد أبو عبسي كل من زياد الرحباني، سلمى، عباس شاهين وكارمن لبس.
أما في مجال السينما فكانَ لهُ دور في فيلم ” هلق لوين “(2011) للمُخرجة اللبنانية نادين لبكي. كما شاركَ في بطولة مسلسل “عشر عبيد زغار” 2014.
شخصية ادوار في مسرحية “فيلم اميركي طويل”
“تجري أحداث هذه المسرحية في شهر تشرين الأول 1980، أو تشرين الأول 1979، أو تشرين الأول 1978، حيث لم يتغيّر إجمالاً الوضع السياسي النفسي العام”. تلكَ كانت الجملة الأولى في مسرحيّة “فيلم أميركي طويل” التي قُدّمت على خشبة “مسرح جان دارك” الحمرا. وفيها يؤدّي الراحل جوزف صقر أغنية زياد الرحباني الشهيرة: “يا زمان الطائفيّة”، ومنها: “شوف الليرة ما أحلاها/ بتقطع من هوني لهونيك”.
يؤدي الراحل زياد أبو عبسي دور مريض نفسي يُعاني من جراءِ الحرب الاهلية العبثية وتداعياتها النفسية من رهاب وخوف غير مُبرر من الشريك في الوطن من خلال تردادهِ عبارة “محمودات بدُّن يقتلونا كلنا”. وقد أدى زياد الدور المسرحي بشكلٍ مُحترف جداً ومُقنع إذ أدخلَ الجمهور في دهاليز عقل “ادوار” الخائف كل الوقت والمرعوب من “المحمودات” لدرجة الهلوسة. ما زالَ هذا الدور الرائع لزياد أبو عبسي راسخ في ذاكرة ووجدان اللبنانيين، جميع اللبنانيين من دون أستثناء، عاكساً طريقة التفكير المريضة التي كانت سائدة في تلك المرحلة، وربما ما زالت. قالَ الامور كما هي، من دون ترددٍ أو خوف، ولهذا أحبَ الجمهور أداءه وعَشقَ المسرحية التي لاقت نجاحاً باهراً لواقعيتها وجرأتها بعيداً عن النصوص المسرحية المُعلّبة من دون أي طعم أو لون.
شخصية ” أبو الزلف” في مسرحية “شي فاشل”
على عكس المسرحيات السابقة، خَصصَ زياد الرحباني مسرحية “شي فاشل”(1983) للسخرية من التراث الموروث من الأجداد ومن المدرسة الرحبانية بالتحديد. لأجل ايصال كامل الرسالة، يلجأ إلى خلقِ مشهدٍ مسرحي لا معقول في مسرحية واقعية هو مشهد يقومُ بهِ “أبو الزلف” (زياد أبو عبسي) بالذات لتخريب مشروع مسرحية رومنسية تزيّف الواقع اللبناني. مشهد مسرحي يُلخص الفكرة الرئيسية للعمل والرسالة التي أرادَ زياد أيصالها وتُعد بمثابة طلقة الرحمة على “جبال المجد” عندما يقومُ “أبو الزلف” بتحدي المُخرج ” نور” أن يذهب معهُ إلى ضيعة لبنانية واقعية في الجبل.
“أبو الزلف” يهزأ بشدة كبيرة من زيف صورة ضيعة “جبال المجد” للمُخرج نور ومثاليتها المصطنعة وأنفصالها كلياًعن واقع القرية اللبنانية الفعلي. حيث يقولُ “أبو الزلف” بسخرية أنهُ تم أستبدال جرن الكبة بــــ” المولينكس” ولا أحد لديه الوقت للجرن، وأبو الزلف لا يلبس الشروال بل أسسَ شركة لبيع “الجينز” من زبائنها “المير بشير”. ثم يصف “أبو الزلف” المُخرج بالكذب والانتهازية لأنهُ يتحدث عن “الغريب” في المسرحية تاركاً المجال للجمهور في بيروت الغربية لتأويله بأنهُ “العدو الاسرائيلي” وللجمهور في بيروت الشرقية لتأويله بأنهُ الفلسطيني، علماً أن المُخرج بالذات لا يتردد في أخذ “بونات بنزين” من الاخوة الفلسطينيين ولا في كتابةِ نشيدٍ حزبي مدفوع الأجر… القصة إذاً عن مسرحية داخل المسرحية وهي الشيء الفاشل. أما الغريب فكلٌّ يفهمه بطريقتهِ فتارة هو العدو الاسرائيلي وتارةً أخرى هم الاخوة الفلسطينيين.
من خلالِ هذه المسرحية لمعَ نجم زياد أبو عبسي كمسرحي مُحترف من الطراز الرفيع من حيث الحضور والاداء والصوت الجهوري، والدليل أن الاذاعات اللبنانية، نزولاً عند رغبة المُستمعين المُتكررة، ما زالت حتى تاريخهِ تذيعُ بشكل مُتكرر مقاطع من مسرحية “شي فاشل” ومنها مشهد ” ابو الزلف” الشهير. من خلال هذا المشهد نُدرك أن زياد الرحباني ينتقدُ بشكلٍ لاذع الرؤية الاجتماعية الطوبوية للأخوين رحباني وتصورهم للقرية اللبنانية وعلاقاتها الاجتماعية ولعلاقات أهلها بالطبيعة، تصوراً مثالياً للبنان “أخضر حلو” أنفجرَ في الواقع في 13 نيسان العام 1975 ولم ينته الا في اواخر العام 1990 ويهزأ من مفرداتها ورؤيتها للواقع اللبناني، لذلكَ كرسَ لهُ مسرحية “شي فاشل”.
إلى جانب تلك المُشاركات، كانت لهُ تجارب مسرحية ناجحة مع مُخرجين آخرين، مثل يعقوب الشدراوي في “جبران والقاعدة” عام1981 ، وربيع مروة في “المفتاح” عام 1996 ، وفيصل فرحات في “سقوط عويس آغا” عام 1981، وأخرى تلفزيونية مع المُخرج رفيق حجار.
العمل المسرحي الجامعي
بَعدَ مسرح زياد الرحباني العبثي والكوميدي في آن، توجّه أبو عبسي نحو العمل المسرحي في الإطار الجامعي، الذي أنكبَ عليه دون هوادة منذ عام 1986، حين بدأ تدريس مادة المسرح في الجامعة اللبنانية الأميركية.
التحقَ زياد، بموازاة مسيرتهِ المسرحية، بقسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1982. وتَابعَ الدراسة في معاهد الولايات المُتحدة الاميركية، حيث التحقَ بجامعة هيوستن، ابتداءً من عام 1983 لدراسةِ الفلسفة والمسرح، وحاز على شهادة الماجستير. بعدها بثلاث سنوات، قبل أن يعود إلى التدريس في بيروت .هنا، أنطلقَ أبو عبسي في المغامرة، ليكتشف أن المسرح التراجيدي ما زال يستقطب المشاهدين من خارج الحرم الجامعي:
“الحائكون “لـــــ Gherhart Hauptman(63 شخصية على المسرح)، “الأشباح » لهنريك إبسن 1989و”روميليوس العظيم” لفريديريش دورنمات في العام 1990. قدّم أيضاً في العام 1991 مسرحية “رجع نعيم راح” من تأليفه وإخراجهِ، وشاركَ فيها في التمثيل أيضاً.
في العام 1992 حَصلَ أبو عبسي، على منحة بحث مُتقدم من مؤسسة Fullbright ، سَافرَ على أثرها إلى الولايات المتحدة الاميركية مُجدداً ليتعمّق أكثر في المسرح الشكسبيري. وبعد عودتهِ إلى لبنان تفرّغ لتقديم أعمال شكسبير على مسرح الجامعة: “كما يحلو لك “، و”الليلة الثانية عشرة “، و “زوجات ويندسور الفرحات “، و”ريتشارد الثالث ” و”ماكبث”. عمل مديراً للبرامج الإذاعية في «صوت الشعب »، وشارك في أفلام سينمائية وبرامج تلفزيونية عدة، وكتب في الصفحات الثقافية لبعض الصحف. في الواقع، إن الدراسات المُعمقة التي قامَ بها زياد ابو عبسي لسنوات في مجال المسرح والفلسفة وفلسفة المسرح، التي كان يعشق تدريسها، سمحت لهُ وشجعته بكل ثقة للعودة الى الجذور والقواعد التي بُنيَ عليها المسرح والمشاركة في نشرها وتدريس مبادئها لاجيال وأجيال من المسرحيين والكتاب بعدما تابع لسنوات الاسلوب المُعتمد في اعمال مسرحية ذات طراز لبناني من حيث النص والاداء مثل مسرح شوشو ونزار ميقاتي والاخوين رحباني…
الرحيل المفاجىء بعد صراعٍ مع المرض
فقد رَحلَ زياد عن هذا العالم المُتوحش، الفاقد للقيم الانسانية ،المُتنكر والمهمل تماماً لاهمية المسرح والابداع في تاريخ الشعوب وتطورها، وحيداً، حزيناً على ضياع وطنٍ أعطاهُ الكثير من وقتهِ وجهدهِ وابداعهِ وليكتشف مع الوقت أن جهوده ذهبت سدى مع بقاء لبنان هناك في العام 1983، اذ لم يتطور شيء منذ ذاك التاريخ.
في العام 2022 ما زالت ” عجقة سير عالفاضي… شوفوا شو بدكن تعملوا”. عاش زياد بصمت بعيداً عن الاضواء والتكريمات ورَحلَ بصمتٍ وهدوء تاركاً لنا ادواراً مسرحية خالدة لا يغطيها غبار الايام ولا التطور التكنولوجي ولا وسائل التواصل الاجتماعي التي شكلت كلها الوسيلة الفضلى لانتشار مسرحيات زياد الرحباني في الرحاب الاوسع، أي كل اقاصي الارض.
في ذاك اليوم الخريفي من العام 2018 تجّمع كل الاصدقاء والاحباء والرفاق حول نعش زياد ليلقوا النظرة الاخيرة على عاشق المسرح الشيكسبيري لربما يستفيق “أبو الزلف” ويصرخ للمرة الاخيرة بوجهِ الجميع بصوتهِ الجهوري ” شو بدكن فينا…”