“احتفال بالحزن…”قراءة الشاعرة التونسية الدكتورة مفيدة الجلاصي النقدية لقصيدة الشاعر محمد وهبة “وفاء الحزن”
الدكتورة مفيدة الجلاصي
1 _التقديم :
“وفاء، الحزن” قصيدة نثرية للشاعر اللبناني “محمد وهبة” ويمكن ان نصنفها في في اطار الشعر الرومانسي بطابعها الوجداني الذي غلب عليها ان شكلا او مضمونا في تركيب العنوان ودلالته :“وفاء الحزن”.
ورد العنوان في تركيب إضافي تكون من :
_ مضاف وهو” وفاء،: مصدر من فعل” وفى” وهو أصل الصدق وكل صدق فيه وفاء، وهو أيضا الإخلاص والاعتراف بالجميل والمحافظة على العهد والوعد وهو نقيض” الغدر، “
_ مضاف إليه : الحزن وهو مصدر من فعل حزن نقيض، فرح والحزن ألم نفسي او ما يعتري النفس من شعور بالبؤس والعجز والأسى والكابة والياس والغم وهي مشاعر سلبية لما لها من تأثيرات على نفسية الفرد إذ تجعله قليل النشاط منفعلا عاطفيا وانطوائيا ولذلك قد يصاحب الحزن أحيانا بالبكاء.
ان هذا العنوان “وفاء الحزن” الذي تخيره الشاعر وهو عتبتنا للقصيدة يشي بعدة دلالات اهمها ما تضمنه من طرافة في المعنى من حيث ما يحمله من أبعاد فنية ومضمونية بكل ما يستبطنه من رمزية موحية بمعان يقصدها الشاعر مرتبطة بعملية التلقي للقصيدة في عملية التفاعل القرائي والفهم التأويلي الذي يدفعنا للتأمل العلاقة بين مادة العنوان وخبايا النص في مستوى الدال والمدلول بكل ما يوحي به سيميائيا في وظيفته الايحائية والتأثيرية ومن رمنا البحث في القصيدة محاولين تقديم قراءة نقدية بالتأمل في مرامي الشاعر والولوج إلى عوالمه وفضاءاته واستجلاء،معالمها علنا نظفر بالعض مما تنطوي، عليه من سمات مخصوصة متصلة بذات الشاعر نفسه ومن هنا اطلقنا على مقاربتنا النقدية عنوانا هو ” احتفال بالحزن”.
2_ الشاعر ” محمد وهبة” والاحتفال بالحزن في قصيدته “وفاء الحزن”
ينخرط الشاعر منذ بداية القصيدة في نوع من الخطاب المباشر لمخاطب بدا غريبا وعحيبا أشار اليه بنوع من المخاتلة التلميحية في قوله : كم انت / صديقي وسرعان ما يتحول التلميح إلى تصريح تمثل في تحديد هذا الصديق.. إنه ليس،بذلك الإنسان او الشخص الذي، نعتبره صديقا وإنما هو كما يشير اليه قائلا :
أيها الحزن الوفي / تسكن ضلوعي
انه الصديق او الخل الصادق الوفي وقد استوطن الضلوع والجسد بل انه ذلك الذي تغلغل فيه ليصبح ملازما له في الحل والترحال وهو القائل : تعرفني جيدا / أكثر من نفسي / وأكثر من ذلك كما يقول :
تسلك دربي / بثقة وحرفة /
وكان بالشاعر يمجد الحزن الذي تمكن منه برغم ما يسببه له من معاناة وهو الذي كما يقول :
تخنق قلبي / بأنفاسك السوداء
وكأن بالشاعر ينخرط في بكائية حولها إلى احتفاء بالحزن الذي يمتلك من المقدرة على أن يستوطن داخله وينفث فيها من من أنفاسه السوداء التي كما قال : تجرح مزاجي / ينكد خنجرك بحقد نبرتك.
تلك هي مشاعر الرومانسي التي يبوح بها شاعرنا بطابعها الوجداني وهو،يطلق العنان لعواطفه الجياشة في طبيعتها الخاصة به ليرسم لنا صورة من ذاته في عالمه النفسي وهو عالم يفوق العالم الطبيعي المألوف في تجرده وماديته فيه تتبدى الأشياء على غير المعهود لانه عالم يضبطه وفق ادراكه وفهمه المخصوصين به وقد عبر عن ذلك الكاتب الرومانسي الألماني “، نوفاليس، في قوله” إن الشعر تمثيل للشعور ولعالم النفس في مجموعه وكلما كان الشعر، فرديا وذا طابع محلي وصبغة حاضرة ذاتية كان أقرب إلى صميم الشعر “( انظر :” p. Van Tieghem “Mouvement Romantique).
وإنا هنا نتساءل هل يمكننا القول ان الشاعر يستعذبب الحزن وعو الذي، يستقبل أفكاره :عند كل مفترق / على مدار الساعة /
هذا الحزن الذي صار كما قال مخاطبا اياه :” خاويتني كظلي / حتى صفوة التعب / حتى عجز الحيلة / ومرض القدوة
ومن منطلق نفساني علمي يتبادر إلينا تساؤل اخر وهو لماذا الشاعر يستعذب هذا الحزن؟ اهو نوع من السادية التي سيطرت عليه لفترة ام تراها حالة عرضية تنتهي بانتهاء أسبابها؟ كل هذا يدعمه بقوله :
كم انت حنون الوصال / أصبحت فردا /من أفراد العائلة /
إن هذه الحالة نفسية التي وقع فيها الشاعر في نظرنا لا تعكس إلا ما يعيشه من عدم توازن القوى العاطفية لذلك نراه يعبر عن ذاته الحزينة بطريقة يتجاوز فيها المعلوم إلى المجهول لأنه ينفذ إلى تمثيل ما لا يستطاع تمثيله او تقبله في الواقع المنطقي والى رؤية الأشياء، من منظوره الخاص بواسطة خياله الخلاق الذي يصور له الأشياء على غير المألوف بكل ما يمتلكه من رعافة الحس وشبوب العواطف وهذا ما عبر عنه الدكتور الناقد محمد غنيمي هلال في كتابه “الرومانتيكية” حين قال :”لم يكن الرومانتيكي عادة بالمرح ولا بابمتفائل وإنما كان فريسة ألم مرير، بسبب الجفوة بينه وبين مجتمع لا يقدر ما فيه من نيل الإحساس ونتيجة انهيار اماله الواسعة”.
ومن هنا كان الحزن طابع الرومانسيين ولعله هو السبب في عزلتهم الروحية والنفور من المجموعة او المجتمع كما نستشف، رهافة الحس التي جعلت الشاعر” محمد وهبة ” يجعل من الحزن صديقا له يبثه لواعج نفسه وهو الذي كما يقول” قتلتني من شدة وفائك / وإصرار اهتمامك “.
إنه الحزن الذي احترف مرافقته وهنا يتغير الخطاب وكأننا بالشاعر يستفيق من غفوته ويراجع نفسه في لحظة من الوعي عندما يستدرك قائلا :” لكن يا صديقي / الوفاء في الحزن / جريمة وفناء / تلويث عمر /بل ظلام قلتم.
ويستمر، في تعداد مساوئ الحزن الذي ” يقتل رغبة الحياة” كما قال
بل انه استسلام كلي /وأكثر من ذلك فالحزن” صلاة الموت
انه إذا الفناء والنهاية
هكذا تظل نفس الشاعر وقد نالها الاضطراب فمن تمجيد للحزن إلى مقت وكره ليصرح بقرار نهائي وهو ان هذا الحزن إنما هو ظلام يضيع الدروب لينتهي إلى نوع من الطمأنينة حين يصلي متضرعا فيقول : أدعو، فيها واتضرع /
ويصبح أقصى حلمه الذي يتمنى تحقيقه :” كي يعم الهدوء / الروح والجسد/
وهكذا تنغلق القصيدة بشعور يكتنف الشاعر من الأمل في عالم يستعيد فيه توازنه الروحي والجسدي
الخاتمة :
ان دراستنا لقصيدة “وفاء الحزن” للشاعر المبدع “محمد وهبة” جعلتنا نقف على مفارقة بدت لنا جلية منذ، العنوان الذي،كما أشرنا انفا تضمن نوعا من المخاتلة المعتمدة، في الإيهام بأن الحزن وفي،للشاعر،وهذا ما أكد عليه في كل ثنايا القصيدة وهو الذي لازمه ملازمة الصديق الوفي وكل هذا كان انطلاقا من تجربته الذاتية القاسية في الحياة والتي جعلته يرى في الحزن لذة برغم ما فيه من ألم لذلك كان الرومانسي كما بين “شاتوبريان Chateaubriand له من القدرة على أن يقاسي شؤون وشجون الحياة ما لا يقدر عليه الإنسان العادي ولذلك ينعته بالعبقري لأن نفسه الكبيرة تحوي، من الآلام اكثر، من النفس الصغيرة بل إن حزنه في طبيعته العجيبة يحمل فيه بعض الأدواء ولذلك فهو يتفرد عن سائر الناس بهذا الشقاء، بإحساسه وهو حزين بنوع من الرضا كما أنه يدرك ان الالم ليس عاطفة عابرة مالها إلى الفناء كالسرور”.
وهنا وجدنا شاعرنا بكل هذا التوهج الذاتي والوعي بقيمة منزلته في الوجود مهما كانت القطيعة مع العالم الخارجي،وكأنه يوجه دعوة بما لديه من بصيرة وتبصر إلى ضرورة تحمل هذا الوجود بآلامه في تسام عن الشكوى والشعور بالضعف بل في اعتداد برغم مما يعانيه من أحزان وعذابات وهنا نستحضر ما قاله :”بيرون” ” قد يمكن تحمل الوجود وقد تتخذ الجذور العميقة للحياة والآلام مقاما وطيدا في القلوب المحزونة المتجردة”، هكذا كان الخطاب الشعري في قصيدة شاعرنا “محمد وهبة” الذي اتسم بالطابع الرومانسي الجلي وقد جعلنا نجوب مناطقها البعيدة لنستكشف المعاني والدلالات التي تاخذ بعدها الذاتي، والإنساني حيث يظل فيها الإنسان قطب الرحى ومحور الاهتمام بل هو جوهر الوجود حيث يظل الوعي بالذات في، شتى تقلباتها العقلية والفكرية والحسية المادية هو الأساس لادراك الكنه الوجودي يجوب فيه بملكة الخيال الخلاق الذي اطلق له العنان اشباعا لآماله غير المحدودة بعد أن ضاق ذرعا بعالم المادة والحقيقة والواقع المحدود.
***
وفاءُ الحزنِ
محمد وهبه
كم أنتَ
صديقي
أيُّها الحزنُ الوفيُّ
تسكنُ ضلوعي
تعرفُني جيداً
أكثرَ من نفسي
تسلكُ دربي
بثقةٍ وحرفةٍ
تخنقُ قلبي
بأنفاسِكَ السوداءِ
تجرحُ مزاجي
بنكدِ خنجركَ
بحقدِ نبرتِكَ
تستقبلُ أفكاري
عندَ كلِّ مفترقٍ
على مدارِ الساعةِ
تلوّنُها بلونِك
خاويتني كظلّي
حتى صفوةِ التعبِ
حتى عجزِ الحيلةِ
ومرضِ القدرةِ
كم أنتَ
حنونُ الوصالِ
أصبحتَ فرداً
من أفرادِ العائلةِ
حافظتَ على صلةِ الرحمِ
قتلتني
من شدةِ وفائِكَ
وإصرارِ اهتمامِكَ
لازمتَ صداقتي
واحترفتَ مرافقتي
لكن يا صديقي
الوفاءُ في الحزنِ
جريمةٌ وفناءٌ
تلويثُ عمرٍ
بل ظلامٌ قاتمٌ
يضيّعُ الدروبَ
يقتلُ رغبةَ الحياةِ
استسلامٌ كلّيٌّ
صلاةُ الموتِ
أدعو فيها وأتضرّعُ
كي يحصلَ
كي يعمَّ الهدوءُ
الروحَ والجسدَ