ريمون جبارة…زهرةُ الخريف (في ذكرى رحيلِه)

Views: 519

د.  جورج شبلي

ما الذي كانَ يقع، لو ظلّتْ كِفاياتُ ريمون جبارة مَستورة، ولم يظفرْ بِلسانِ صِدقٍ في الآخرين ؟

أجناسُ الكلامِ ثلاثة، اللغةُ والشكلُ والصّمت. وفي جميعِها، كانت إحاطةُ ريمون جبارة في الطّبقةِ العاليةِ جودةً في التعبير، ودقّةً في الرّصف، وبلاغةً في الإخراج. فاللغةُ معه، لم تكن مقصورةً على مَلِكٍ دونَ سوقة، ولا على لسانٍ دونَ لسان، فالوضوحُ فيها لا يعتريهِ ضَعفٌ ولا التواء، لذلك كانت أحسنَ موقعاً وأطيبَ مُستمَعاً، لأنها كالعِقدِ المنظومِ الذي جعلَ كلَّ خرزةٍ منه الى ما يَليقُ بها. والشكلُ معه لا يَحوطُهُ لَبس، ومن الصّعبِ أن يُدركَ المتلقّي أنّ هناك شكلاً يتجاوزُ تذوّقُه إلفةَ شكلِ جبارة، بتلوّناتِه وإدهاشاتِه وإشاراتِه الدّالةِ على أكثرِ مُراده. أما الصمتُ فكان إبانةً عن حدودِ البلاغةِ ولم يكن همهمةَ أَعجام، وهذا إقرارٌ بإعجازِ جبارة في التأمّل، وفي استخراجِ نُعوتِ الحياةِ من العُري.

 

لم يُبدِ ريمون جبارة “ذَكَرُ النّحل”، وجهَ المودّةِ حاجزاً دونَ شرِّ الناس وسَخطِهم، فهو لم يَزدْهم كيلا يُنقِصوه، ولم يقصدْ رضاهم ليحذرَ كَيدَهم ويكونَ منه في مَأمن.إنّ المنهجَ الغالبَ في نتاجاتِه هو المواجهةُ الكثيرةُ في القولِ اليسير، ولو قَرَّبَتْهُ من يومِه، فطولُ السلامةِ اعتدال، وهو ما له من عيشِه إلاّ لذّةُ الحقيقةِ المتطرّفة، ولو ازدلفَت به الى الموت. كان يَعلمُ أنّ كلَّ أكلةٍ فيها غَصَص، فلم يتردّدْ في أنْ يُزيلَ عن كلِّ أمرِ غطاءَه، فهل من أمرٍ عندَه مَختوم، أو من موقفٍ لديه فاتِر؟ لقد عوتبَ مراراً، واستمرَّ في عصيانِه فلم يُقَبِّلْ تفّاحَ خدِّ أَحَد، ولم يَذُبْ كَمَداً لأنه وُجِّهَ الى الليونةِ المِدرارِفلم يَمتثلْ.

ريمون جبارة “صانعُ الأحلام”، جذّابٌ في الجمعِ بينَ القوّةِ والسهولةِ في صنائعِه، بين التُّقى والفجور، بين ذواتِ الضَّبعِ وذواتِ الحَمَل، لذلك لم تكن أيّامُ القدرةِ عندَه قصيرة.فالمَدارُ الذي أقحمَ نفسَه فيه، مدارَ الإنسان، تغلبُ عليه الفطنة، وهي عسيرةٌ شاقّةٌ تنوءُ بها عزائمُ الآحاد،ما لم تستقلَّ مسلكَ إجادةِ هذا العلمِ الكثيرِ الأجزاء. وكانَ جبارة يعرفُ تماماً إلامَ يَرمي، فجاءَت فاتحةُ بحوثِه تُعنى بِتدوينِ أصولِ المسألةِ الإنسانيةِ وبتحقيقِ فروعِها، كما بتحديدِ الأهدافِ التي اصطَلَحَ مع نفسِه على بلوغِها.

وإن كانتِ المواضيعُ التي قاربَها معلومةً بالطّبعِ ولم تُضجرْه، غيرَ أنه استقلَّ فيها عن نظائرِهِ أيَّما استقلال، لأنه عالجَها وهو طافحُ السُّكرِ وبطباعٍ مرحة، وأحياناً ببعضِ السذاجةِ المُحبَّبة، فاتّهمَهُ البعضُ بالبعدِ عن الإحتراف. أما سببُ ذلك فمردُّهُ الى أنّ جبارة لم يكنْ وافِداً حديثاً على الفنِّ المسرحي، ولا على الكتابة، ولا على أرضِ الحياة، فقد كان من الأوائلِ الذين وَطَّأوا الواقعَ في الكلمةِ وعلى الخشبة، من دونِ المرورِ بقواعدِ بيروقراطيّةِ الإبتكارِ الفنّيِ التي تُؤَطِّرُ كيفيّاتِ التعبير.

 

وقد يقعُ البيانُ بغيرِ الفُصحى، ومَنْ ذهبَ الى غيرِ هذا المَذهب، وقعَ في خطأٍ لو يَعلمُ شَنيع. فالعاميةُ التي تجافاها الإستعمالُ في بعضِ الحقباتِ ليسَت أخسَّ مَراتبِ البيان،فمعاجمُها مع جبارة إبانةٌ مُخلصةٌ لِما كان يذهبُ اليه الناسُ في يومياتِهم، ومن دونِ احتمالِ النّقيض. لقد نزلَ روحُ العاميّةِ الأمينُ على قلبِه، وأينَ لغيرِ العاميةِ من السِّعةِ ما لها، فأَنْطَقَ لسانَ جبارة في مشاهدَ حَفظَتْ ما تفرَّقَ في أحشاءِ المجتمعِ من تثقيلِ عِبَرٍ تُفرِجُ وتُحْرِج. وبقليلِ تأمّل، نعرفُ أنّ هذه المشاهدَ ما هي سوى تسطيرٍ لما يقعُ للناسِ من المعقول، وأيضاً من غيرِ ما يألفون.

الملاحةُ في كلامِ ريمون جبارة زوابعُ في ضِحكة. فأسلوبُه ظَروفٌ يُناصبُ الخصومةَ لِعِلمِ النّحوِ في اشتقاقِ العُبوسِ المفرطِ ونَحتِ الحَزم. وكأنّ عباراتِه وَقْعُ المِضرابِ على الأوتار، يزدحمُ لها انشراحُ النفوسِ ولو اصطكَّتْ لها بعضُ الرُّكَب. لقد عمدَ في “آلو ستّي”، وبلمحاتٍ عِجال، الى تبويبِ ما مرَّ بخاطرِهِ من ألوانِ المناسباتِ التي قطَّعَت أوصالَ واقعِنا الذّاهلِ عنِ الحق،فلم يعمدْ الى شكوى الزمانِ بل قاربَ الوقائعَ جرياً على أسلوبِ الذكاءِ الإجتماعي، فبدا أنه يكتبُ لنفسِهِ قبلَ كلِّ شيءٍ ليَرضى، وليُرضيَ بالتالي أنفُسَ الآخرين.

إنّ عقيدةَ المَسرحةِ الحرّةِ هي الوضعُ الذي أرادَ جبارة باختيارِه أن يضعَ الممثّلَ والمُشاهِدَ معاً، في حالٍ مستقيمةٍ من الوجهةِ الواقعية.وإذا قلَّ أنصارُ هذه العقيدة، بين المُخرِجينَ البراغماتيينَ الذين رأَوا فيها إلحاداً في أصولِ الإخراج، إلاّ أنها لم تكنْ مَصدودةً عمَّن يناصرُها. فجبارة لا يُطبِّقُ نظريّاتٍ إخراجيةً لا تنتسبُ الى منهجِ الطّبعية، لأنه لا يعتبرُ المسرحَ مجرّدَ مُحاكاةٍ باردةٍ للحياة، بل هو أعظمُ بكثيرٍ حتى من الحياةِ نفسِها. لكنّ التفلّتَ من القواعدِ يَجري معه على قاعدة، وهي الإلتزامُ بِسحرِ المسرحِ الحرِّالمبدعِ على غيرِ إسفافٍ وزَيَغ. وهكذا تأهّبَ لمقابلةِ المُرتابينَ في قيمةِ مذهبِه.

 

 ريمون جبارة مُؤَدْلَجٌ وطنياً، فولاؤُه للمسرحِ كان انعكاساً بديهياً لولائِه لوطنِه، هذا الذي لمّا تزلِ “المؤامرةُ مستمرّةً” في نهشِه. ولبنانُ لم يكنْ معَ جبارة غيرَ حالةٍ يقينية، وخلاصةِ أساطيرِ الأوّلين، لا يذكرُه إلاّ بحماسة، ولا يعتزُّ إلاّ بالانتسابِ إليه. ومع غيابِ ريمون جبارة في خضمِّ الربيع، نسمعُ الوطنَ يسألُ بِعَتَب: “مَن قطفَ زهرةَ الخريف؟”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *