قراءةٌ في “من الحركات الى حرب لبنان (1975- 1990)” للدكتور ديمه دو كليرك
الدكتور جورج شبلي
إنّ كتابةَ التّاريخِ مهمّةٌ ليسَت يسيرةً، مهما حاولَ المُؤرِّخُ تنزيهَ ذاتِهِ عن التّأثيرات، وما أكثرَها، ومهما كرَّسَ لمركزِ الحياديّةِ سلطاناً في خطواتِ قلمِه. وقد نبَّه ابنُ خلدون، في ” المقدّمة “، الى مغالطِ المؤرّخين وحذَّرَهم من الوقوعِ في فَخِّها. أمّا الصّعوبةُ في التأريخِ فتشقُّ طريقَها الى المضامينِ، بنسبةٍ موصوفة، فالعودةُ الى الزّمنِ السّالِفِ البعيد، يمكنُ أن تكونَ قراءةُ الأحداثِ وحيثيّاتِها، فيهِ، قراءةً موضوعيّةً تعودُ لِمُساهمةِ كُرورِ الزمنِ وكَمِّ الدراساتِ في جلاءِ حقيقتِها، بينما الخَوضُ في مجرياتٍ قريبةِ العهد، دونَها مزالِقُ وافرةٌ، مردُّها، خصوصاً، الى تَشَيُّعِ النَّقَلَةِ الذين يبالغون في تجسيمِ حسناتِ مَنْ في صفِّهم، والتّغاضي عن سيّئاتِ هؤلاء، والعكسُ صحيحٌ في ما خصَّ الخُصوم، وكذلك، الى عدمِ التأكّدِ من الدقّةِ في المرويّات، فتُؤخَذُ على أنّها حقيقةٌ لا غشَّ فيها…
في الذّاتِ اللبنانيّةِ رِئةٌ للحريّات، وبُرجٌ مُتَجَذِّرٌ في قلبِ التاريخ، كما وردَ في ” نشيدِ الإنشاد “، لِذا، لم تَكنْ هذه الذّاتُ، يوماً، جزءاً مسلوخاً عن مقاطعةٍ ولها أن تستردَّها، ولم تكنِ الرِّئةُ مساحةً رومنسيّةً نحملُها في أشعارِنا، ونشتاقُ إليها، فبينَ الذّاتِ والرِّئةِ رابطةٌ كيانيّةٌ لها وجودٌ حُرّ، ولها ما تُؤمِنُ به.
الدكتور ديمه دو كليرك، توقّفَت، في مداخلتِها ” من الحركات الى حربِ لبنان بين 1975 و 1990 “، والواردة في كتاب ” 1860 تاريخ وذاكرة نزاع “، عندَ مكانةِ هذا اللُّبنان، لحمايةِ حقيقتِهِ كوطن. ولم تَمِلْ الى اعتبارِهِ جَيباً مَرقوعاً في رداءِ الزّمن، كما الإنحطاط، بالرَّغمِ من إشارتِها الى الآثارِ البَشعةِ التي قوَّضَت فيه، منذ 1840، وخلالَ الحرب الآنفة، دعائمَ القِيَم. كما أنّها لم تَمِلْ الى أَسطرتِهِ، والأَسطرةُ عقيدةُ المدينةِ الفاسدة، بالرَّغم من مُبادرِتها اعتبارَهُ كنزاً يُثري ذاتَه، والآخرين، بالمشاركةِ المُتفاعِلةِ مع التّراثِ الإنسانيّ الحَيّ. واستناداً، كانتِ الموضوعيّةُ مع ديمه، وهي المُنتمِيَةُ الى عصبةِ العقل، عاليةَ الجودةِ، تُسهِمُ في رَفعِ معدَّلِ المصداقيّةِ على مَدى صفحاتِ الفَصلِ برمَّتِها.
في الحرب، إنّ قَلْبَ المقاييسِ غيرُ قابِلٍ للإختزال، لأنّ سلوكيّاتِ القِتالِ ثُقوبٌ سوداءُ لا مُزاحِمَ لها في ثقافةِ الموت. وبالرَّغمِ من أنّ المُؤَرِّخةَ المثقَّفةَ لم تُصَوِّنْ نفسَها عن الإشارةِ الى كلِّ المعاصي التي طَوَّلَت شَقوةَ النّاس، وقنَّعَتهم بالظّلمِ عاراً، ولم تتهاونْ في مَدِّ إصبعِ الإتّهامِ الى مَنْ تراكمَت أنشطتُهم للشرِّ، والقتلِ، وانتهاكِ الحُرمات، غيرَ أنّها فرشَت لكلامِ الحقِّ في مَتْنِ كلامِها الذي جاءَ وثيقةً قويةَ الصلاحيّة، وإِنْ خُتِمَت بحِبْرٍ أحمر.
ديمه دو كليرك الآتِيَةُ من القلق، استَوفَت عقودَ المعرفة التي تُنعِمُ على العقلِ بالصحّة، وعقودُ المعرفةِ ليسَت متوفِّرةً لكلِّ مَنْ طلبَها، وقرأَت أحداثَ الحربِ بعَقلٍ يَقِظ، وقد ثَقُلَت عليها نكبةُ الوطنِ بالطُّغاةِ، والقَتَلَة، وكيفَ مرَّغوا جسدَهُ بالوحلِ الممزوجِ بالدمّ، وبالحَرامِ المُرّ. ولا رَدَّ لِما أَسمَتهُ ديمه عصرَ الذّنوب، وهي مُصيبة، فقد حوَّلَ هذا العصرُ الوطنَ الى أَشَدِّ الأمكنةِ بؤساً، ورداءَةَ وقائع، وتلطيخَ كرامات.
لقد عمدَتِ المؤلِّفةُ الى اعتمادِ تقسيمٍ وافٍ لمراحلِ الحربِ في لبنان، قدَّمَت له بإضاءةٍ واضحةٍ للأسبابِ الموجبةِ التي لم يكنْ بدٌّ، لها، من إشعالِ بلادِ الجَبَلِ بمواجهاتٍ انسحبَت على مناطقَ واسعةٍ عُرِفَت بخطوطِ التَّماس. وتوطَّنَ الوطنُ في النّار، وطالَت مرحلةُ الجَولات، وعملَ الأقربونَ والأبعدونَ على إنضاجِ الأرضِ لتصبحَ مهيَّأةً للفتنة. وكأنّ الجبلَ عادَ الى عهدِ السّلطنة، فعمدَ المُلَوَّنونَ بالتّآمرِ الى تكتيّةٍ ناجحة، بِدَفقِ الآمالِ والأموالِ للبعض، وبتوزيعِ الإتّهامِ بارتكابِ الخطايا العظيمةِ على البعضِ الآخر، كلُّ ذلك ليدوِّيَ الهَرجُ الخلافيُّ، وتستيقظَ الأحقادُ وشهواتُ الإنتقام.
إنّ حربَ الجبلِ شوَّهت صورةَ لبنانَ كَكُلّ، وقوَّضَتِ العلاقةَ بين المُتشاركين في الوطنِ، لا سيّما المسيحيّون والدّروز، لتُصبحَ كابوساً، لأنّ المنطقةَ تَمَوضَعَت بين فَكَّي كمّاشة : العنفِ والحقد. والواقعُ أنّ المعادلةَ في منظومةِ الحرب هي، على الإطلاق، المعادلةُ التي يشكِّلُ فيها القتلُ الحدَّ الأوّل.
الدكتور ديمه لم تنكُثْ بالصِّدقِ فتُقَصِّر، فهي تعرفُ، تماماً، أنّ التاريخَ كالمَرج، كلّما تفتَّحَت فيهِ زهرةٌ فاحَ عَبَق، ومع ذلك، ففي المرجِ ذُبولٌ ينبغي الإحتراسُ منه، لئلّا يشوِّهَ المصداقيّة. إنّ اللّافتَ في مداخلةِ ديمه ليسَ السَّرد، بمعنى تثبيت الأحداثِ وتتاليها في الزّمن، بقَدرِ ما كان التّبريرَ بالشَّرح، والتّلميحَ الى العِبرة، وقد أَلبَسَتهما ديمه ثوباً واحداً. وهذا ما يميّزُها عن كثيرينَ سردوا الظّروفَ على هواهم، وتاهوا عن إيضاحِ غوامضِها، فسقطَ عنهم معرفةُ الكثيرِ. إنّ ديمه استنطقتِ المُجريات، وعرضَتِ الأخبارَ من دونِ الإكتفاءِ بشاهدٍ واحد، وقاربَت أغراضَها بجودةِ العقل، وطعَّمتِ التاريخَ بالجغرافية، فمن غيرِ الممكنِ استجلاءُ حقيقةٍ تاريخيّةٍ بمَعزِلٍ عن محيطِها، وأهلُ الجبلِ مطبوعونَ بشخصيةٍ صلبةٍ متقشِّفةٍ مستقيمة، متلحِّفةٍ برداءِ الكِبَر، لا تهادنُ في عناوينَ تُسري على وجودِ الفردِ قيمتَه.
أمّا العِبرةُ فتعودُ الى حِرصِ ديمه على وَصلِ ما انقطعَ من قديمِ الوطن، لتؤكّدَ على أنّ الناسَ الذين ارتَضَوا عَيشاً مشترَكاً مستمرّاً في ما بينهم، جاءَتِ النّزاعاتُ المتعاقبةُ لتحوِّلَ واقعَ عَيشِهم مُرّاً، لكنّ هذه المنازعاتِ لم تكنْ عوارضَ مرضٍ حقيقيٍّ عميق، بقَدرِ ما كانت ظواهرَ مرحليّةً تَطفو ثمَّ تَهمدُ كلّما برزَت مصلحة، أو اقتحمَها تحريضٌ غريب. لِذا، فالعلاجُ غيرُ المُقَنَّعِ للتوتّرِ الذي فرضَ نفسَه، ولمّا يزلْ، على شرائحِ النّسيجِ الوطنيّ، هو الوحدةُ في الحكمةِ والتّسامح.
إنّ التوقّدَ في خاطرِ الدكتور ديمه اللّبنانيّةِ الهوى، جعلَها غزيرةَ الملاءمةِ لمَناقبِ الحقيقة، تحرصُ على قِيمتِها، وملتزمةً بعلومِ التاريخِ التي تُبعِدُ عن الإلتواءِ في تَصَفُّحِ الأحداث، وفي الوصولِ الى أسبابِها وغاياتِها المشرورةِ فيها، وبذلك، استوفَت نعمةَ العقلِ الذي يحملُ، دائماً، قَلبَين، واحداً لنفسِهِ، ووحداً ليسامحَ بهِ الدّهر.