زلفا شمعون … سيدة أولى نهضت بالفن والفنانين
جوزف أبي ضاهر
مشرقة مثل فجر، متواضعة مثل بنفسجة، رقيقة مثل نسمة… هكذا وصفت، وإذا أضيف، قيل: إنها أميرة الحضور، و«الملاك الحارس» لبيتها ومجتمعها، بعيدًا عن الأضواء والترويج الاعلامي.
اسمها: زلفا شمعون، السيدة الأولى قبل دخولها القصر الرئاسي، وبعد خرجها منه، هي التي وقّعت بحبها «سجل» الجمال اللبناني، فازدهرت الفنون التشكيلية والمسرحية، وفتحت أبواب بعلبك للمهرجانات… وأعطت بيدها اليمنى خيرًا، حرصت ألا تعرف به يدها اليسرى.
***
صورة زلفا نقولا تابت مذ أطلّت على الحياة العامّة، وهي في السابعة عشرة من عمره، حدد الرئيس كميل شمعون ملامحها، في كتاب أهداه لها، وصدر بالفرنسية سنة 1963 (دار غاليمار ـ باريس) قال:
«كانت تجمع الى النعومة الأساسية شجاعة لا حدّ لها، وافتخارًا على بساطة ورباطة جأش أمام المصاعب. هذه الخصال لم تخنها أبدًا، أو بالأحرى لم تخطئ أبدًا بالنسبة لي، بالرغم من بعض أخطائي الكبيرة التي كنت مسؤولاً عنها، وبالرغم من حياتي السياسية المضطربة.
… وفي 30 كانون الأول 1930، وسط نهار ممطر (ويقال أن المطر يجلب الحظ) تزوجنا. كان الاحتفال بسيطًا وحميمًا، حضره لفيف من الأهل والأصدقاء. كنت أرتدي طقمًا رماديًا فاتحًا، أما هي فكانت ذات بياض طهري، في ثوب إكليلها الطويل».
***
عاشت مع الرئيس شمعون سحابة 41 سنة، قاسمته همومه من دون تذمّر، وشاركته الأخطار والمتاعب، وما تخلّت يومًا عن تواضع الكبار.
تروي ساميه دمشقية (رفيقتها أيام الدراسة) انها يوم تسلم زوجها سفارة لبنان في لندن (1945) «كانت تصنع الشاي بنفسها، وتحمله في الساعة الخامسة من بعد ظهر كل يوم الى موظفي السفارة. وكانت لفرط حبها للأطفال، وشدة اندفاعها لمساعدة الغير، تصرّ على أن ترعى أولاد الموظفين بالمناوبة، خلال ذهابهم الى حفلة، أو مسرحية، وكانت خير حاضنة للأطفال ريثما يعود ذووهم. ولم تبدل عادتها هذه حتى أصبحت رئيسة. فكانت تخيط أجمل الأثواب لبنات صديقاتها» (الحياة 16 آب 1971).
***
سعت زلفا شمعون المأخوذة بالجمال الى مساعدة كل الذين يدخلون حديقته، وهي المغرمة بالهندسة الداخلية للبيوت، وكم من موهبة في هذا المجال احتضنتها، ووفرت لها الامكانات للدراسة… ومنذ دخولها قصر الرئاسة وسعت اهتمامها بالفنون على اختلافها.
يقول ميشال بصبوص في محاضرة ألقاها في أنطلياس (1973): «كانت زلفا شمعون وراء كل حركة فنية، وكان لها الفضل الكبير في توعية الجمهور لحضور المعارض، والاستماع الى الموسيقى، واعداد مهرجانات بعلبك… وغيرها من الحركات الفنية». وكانت تُقدَم باسمها جائزة ثانية بعد جائزة الرئيس شمعون من وزارة التربية للفنانين المميزين في معرضهم السنوي في الأونسكو.
بصبوص الذي سهلت له زلفا شمعون الدراسة في باريس سنة 1954 (بعد دارسة أولى سنة 1951)، ورافقت معارضه، ومكنته من الانطلاقة، روى أمامي كيف زارته «السيدة زلفا» في محترفه قال: «كان ذلك اليوم فريدًا في حياتي، جمع الحزن الكبير، والفرح الكبير، ووشمني بحب هذه السيدة التي لن أنساها ما حييت.
في ليلة الميلاد (1953) وكنت أسكن في شبه بيت ـ محترف (بيروت قرب زهرة الاحسان) شعرت بضيق في النفس… أعيش وحيدًا، لا صديقة تشاركني فرح العيد، وليس في جيبي ما يوفر لي السهر خارجًا، فهمت على وجهي في الشوارع المزيّنة، أحرق الوقت، ودخان سيجارتي يحرقني، ويمشي أمامي ظلا يذكّرني: «أنتَ المنسي الوحيد في هذا العالم».
حين انتصف الليل وقرعت الأجراس معلنة بدء الاحتفالات الدينية، عدت، مكسورًا الى بيتي الأضيق من ذاتي. وفوجئت: أمام الباب ورود في توليفة أنيقة، وبطاقة تحمل اسمًا بالأجنبية، اقتربت منها محاولاً اقناع ذاتي انها ليست لي، وقد أخطأ واضعها بالعنوان والاسم و… فتحت المغلف الأبيض الصغير، ويدي مرتبكة، واحاسيسي ومشاعري… وركعت أمام الورد يسبقني دمعي في قراءة معايدة من اللبنانية الأولى وتمنياتها لي بالنجاح والسعادة.
بكيت كما لم أبكِ من قبل، وفرحت كما لم أفرح من قبل… دخلت فرحي، وسكنت أحلامي، ونمت كما لم أنم من قبل.
صباح العيد، عرفت من أصدقاء أن السيدة زلفا زارتني في بيتي المتواضع، أنا الكنت منسيًا ضائعًا، ووجدت ذاتي في محبة هذه المرأة الأم».
***
لم يتوقف اهتمام السيدة زلفا عند حدّ، فكانت والرئيس والسيدة صونيا فرنجيه من منشطي الحركة الفنية في راشانا، ومن أوّل المتبرعين لإنشاء مسرح فيها، قُدمت عليه أعمالاً لبنانية وفرنسية وايطالية… وتألقت راشانا بالنحت والمسرح وحضور الرئيس وزوجته في طليعة المشاركين.
***
سعت الى اطلاق مهرجانات بعلبك، متضمنة الى جانب احياء التراث اللبناني برنامجًا للفنون العالمية. وحوّلت الطابق العلوي من قصر القنطاري (الرئاسي) الى مشغل للخياطة، فأعدت جميع الملابس الفولكلورية في بيتها، وكانت تخيط معظمها بيديها الزنبقتين، وهي طالما اهتمت بإعداد ملابسها بنفسها، وتذكر صديقاتها أناقتها، وحين تسألها احداهن: «ما أجمل تايورك» تجيب: «كان طقمًا عتيقًا لكميل فحوّلته لي».
هذا الاهتمام بالاشغال اليدوية، جعلها تؤسس غير مشغل يدوي للفتيات (في دير القمر وقرى مجاورة) وتحثهن على عمل يبرز أناقتهن وأنوثتهن، ويوفر لهن اكتفاء ذاتيًا.
***
حب زلفا شمعون للفنون والجمال، زاد من حبها لكل طبقات المجتمع، وهي لم تفرّق يومًا في تعامل بين مسؤول كبير ومواطن متواضع، لا بل التفتت الى من حرمتهم الحياة بعض نعمها وحاولت التعويض عليهم. أسست «الجمعية اللبنانية لإغاثة الضرير»، وفي أوّل سفرة لها برفقة الرئيس الى أميركا اللاتينية، ومع أولى هدايا المغتربين لها قالت لهم: «أشكركم، ولكن أرجو أن تتكرموا وتحولوا الهدايا مساعدات الى جمعية المكفوفين في لبنان!.. وكانت رفضت بعناد أن تحمل مدرسة إغاثة الضرير في بعبدا اسمها. ويوم الاحتفال بوضع الحجر الأساس لها (9/ 10/ 1958) قالت: «لا أريد أن يتأثر هذا المشروع بخلافة الرؤساء وخلافاتهم»…
بعد انتهاء ولاية الرئيس شمعون، استمرت السيدة زلفا في دعم الجمعية، وجمع الأموال لتطويرها الى أن اقترب المرض منها، وبدأت تتغير ملامح وجهها، لكن ابتسامتها ظلّت مشرقة وظلّت متمسكة بإيمانها وصبرها وتواضعها وأناقتها، وحين يتصل بها أحدهم للاستفسار عنها تقول: «كتر خير الله، ولكن قلبي يعتصر عندما أرى في المستشفى شبانًا وصبايا مهددين. أنا عشت، وهم لم يروا شيئًا بعد».
***
… وتوقف الكلام، والناس في الاحتفال بعيد انتقال السيدة العذراء: غابت زلفا شمعون، اسدلت الستارة بهدوء على وهج الاسم، ليظل وشمًا في الذاكرة والقلب، وتاريخ هذا الوطن، وفي سجل جمالاته وفنونه.
***
في الذكرى الأولى لغيابها نشرت «الريفو دو ليبان» رسالة بالفرنسية، وجهها الرئيس شمعون الى «رفيقة العمر»، صيغت بأسلوب أدبي عاطفي، استهلت باستشهاد من الكونت دو ليل، وختمت بأبيات لأفرد دو موسيه.
في الرسالة كشف أن السيدة زلفا كانت أوصت بأن تسلّم جثتها الى أحد المعاهد العلمية للافادة منها في مجال البحوث، ثم أن تحرق وينثر رمادها. ولكن الرئيس خالف هذه الوصية، يقول:
«… هل عرفتِ؟ لقد خالفت إرادتك مرتين وأطلب منك سماحًا. في الوثيقة التي دفعتها إلي في رويال مارسدن هوسبيتال في لندن، كانت وصيّتك (عشية الجراحة الكبيرة). طلبت أن تسلم جثتك الى الطب لمنفعة العلم، ثم أن تحرق وأن ينثر رمادك.
إنها لاحدى السمات البارزة في خلقك، وفيها ألاقي من جديد الكائن الرائع الذي عرفت. أن يكون فكرك اتجه الى تقدّم العلم والى إسعاد الأجيال الآتية في اللحظة الحاسمة التي كنتِ فيها بين الحياة والموت. فطوال السنوات الأربعين لزواجنا، كنتِ دائمًا للآخرين ولم تكوني يومًا لنفسك. كنتِ في استمرار ملكًا لزوجك، لبيتك، لأولادك، لأحفادك، لدارك، وكل صغيرة فيها هي من وحيك، لحديقتك الواسعة، وكل شجرة فيها وكل زهرة نبتت أو نمت بفضل عنايتك (…).
«أن تُحرقي»! أن يُنثر رمادك! أن تغيبي في ذروة التألق! تلك كانت إرادتك الأخيرة. والعكس من جانبك كان سيثير عجبي. في حياتك كنت تتحسسين الجمال وتتعبدين له في آن. خلال حفلة موسيقية كنت تكتشفين عفويًا أجمل الموسيقى. وفي معرض فني كنت تتوجهين بلا تردد نحو أجمل لوح، أو أجمل منحوتة. حرصك على النظافة الخلقية، كما حرصك على النظافة الجسدية، كانا فوق كل حرص. وهكذا دفعك التفكير في أن وجهك سيشوه وأن جسدك سيتعفن (…) فضلت النار المطهرة، النار الآكلة التي تستطيع أن تقيك الانحلال الرهيب.
ولكن هل كنت حقًا في حاجة الى هذه النار والى هذا التألق؟
ألم تجتازي، خلال مرضك الطويل الذي تحملته بتسليم بطولي، وفي الآلام التي صبرت عليها بشجاعة تفوق قدرة الانسان، الامتحان المطهر الذي صهر منك الروح وحوّل الجسد الى قشرة شفافة لا أرضية؟
ألم تطبع حياتك، من الحدّ الى الحدّ، تلك الرفعة التي منها سمفونيات المؤلفين الكبار؟
لقد خالفت إرادتك لأنني كنت أشعر أنك، إذ تحرق جثتك، تدخلين نهائيًا في العدم وفي النسيان، وهذا أكثر هولاً. أردت أن أخلّد ذكراك، أن تكون لي محجة ولأولادك ولأحفادك ولأصدقائك وللآلاف الذين ساروا في موكبك. أردت الزهور البيضاء التي كم أحببتها أن تتفتح على قبرك من فصل الى فصل، ومن سنة الى سنة، الى دهر الداهرين».
***
مرّ زمن، ومرّت وجوه كثيرة، وتناثرت ذكريات ويبست… وذكراك ما تزال في النغم واللون والريشة والمنحوتة والحركة المسرحية تنبعث عطرًا، يا مشرقة مثل فجر، ومتواضعة مثل بنفسجة، ورقيقة مثل نسمة صيف مذهّب باسمك في دفاتر حقول الخير والجمال.