اليوم العالمي للصحافة
الدكتور جورج شبلي
في زمنِ البلبلةِ والضَّياع، ما أحوجَنا الى مُناخِ القِيَمِ تنشرُها الصحافةُ البهيّةُ، والجديّةُ، والمُثقَلَةُ بالثّقافةِ، وعمقِ الرؤيةِ، ووضوحِ المَرامي، ما أحوجَنا الى صحافةٍ تنمازُ بسياسةِ العقل، هاجسُها زيادةُ الخيرِ لإِنقاصِ الشرّ، وتدميرُ الباطلِ لإحياءِ الحقّ، وهكذا، تنبثقُ من إيقاعاتِها قيامة.
لطالما كان للصحافةِ الأصيلةِ حضورٌ نابضٌ يتوقُ الى مجتمعٍ فاضلٍ لا تُديرُهُ وحوش، إنّما رُسُلُ فكرٍ، وصفاء. ولمّا كان أكثرُ مجتمعاتِ الدّنيا، يتسرّبُ من بُؤَرِ العنفِ، والفوضى، والفساد، بسببِ حُكمٍ أَعوَج، أو غيابِ السلطة، ما يسوقُ الناسَ الى التألّمِ والتظلّم، لم يكنْ بالمرصادِ إلّا أقلامٌ سليمةُ الطَّبعِ، حرَّةُ النّقد، بعيدةٌ عن التّزييفِ، والتّزليف، تُتقِنُ التّوصيفَ المجرَّدَ، والتّوجيهَ الرّشيدَ، وتلتزمُ الجرأةَ، والاتّزانَ، مذهباً وطريقاً. إنّ الصحافةَ هي ذاكرةُ الأحداثِ، والأسرارِ، والوقائعِ، والتّواريخِ، لذلك، فأيُّ تشويهٍ للحقائقِ، وتعطيلٍ للصّدق، لأيِّ سببٍ ومصلحةٍ واستغلال، لن يمرَّ، وستواجهُهُ كلماتٌ تغضبُ، وحروفٌ تثورُ، وريشةٌتنفجرُ تَشَدُّداً، وحِبرٌ يبني وَعياًبنبرةٍ واثقة. ولم تزهدِ الصحافةُ في المواجهة، وقد دفعت ثمناً من لَحمِها، فباتَ جبينُها شامخاً لأنه كثيرُ الجراح، فلو عُصِرَت صفحاتُها لَجَرى منها دَم.
كثيرونَ اعتبروا الصحافةَ راوية، أو مجرّدَ عدسةٍ تنقلُ ما ترى، وهذا ليسَ بعيداً عن توصيفِ بعضِ العملِ الصّحفي، لكنّه لا ينصفهُ، ويسجنُهُ في نطاقٍ بَخسٍ، وهذا من أكبرِ الأخطاء. فالصحافةُ الحرّةُ التي تختبرُ الوقائعَ، على اختلافِها، لا تُعبِّرُ عنها فحَسب، وتحملُها الى النّاس، بل تعملُ فيها بحثاً، وتحقيقاً، ودراسةً، وتُخضعُها لنقدٍ منهجيٍّ، لتقفَ على مفاتيحِها، وتوضحَ ما تستبطنُ في ثناياها، وتعلِّقَ علىمضامينِها وأهدافِها، وتتخّذُ منها موقفاً رزيناً، وتعرضُ حلولاً ناجعة… كلُّ هذا يكسرُ قالبَ الروايةِ في الصحافة، أو قالبَ مفهومِها الكلاسيكي الضيّق، ويمدُّها بديناميكيّةِ المنطقِ النّقديّ، المُوَجِّه، فأسلوبُ الصحافةِ ليس أسلوباً تقريريّاً، فقط، إنّما هو يتجاوزُ هذا “السّجنَ ” المحدود، الى عِلميّةٍ حيويّةٍ منفتحةٍ تجعلُ عمليّةَ الفَهمِ، تصلُ الى منتهاها لدى المُتلَقّي.
لسنا نُنكِرُ على بعضِ الأقلامِ تَعَصُّباً، وتزمُّتاً، وسوقيّةً، وهَذَياناً… فمجالُ الكتابةِ الصحفيّةِ لا يقودُ، كلُّهُ، الى الترقّي. فالمؤثِّراتُ كثيرةٌ، منها الذاتيّةُ، ومنها الخارجةُ عن الذّات، ويصحُّ، في هذا المجالِ، ما أشارَ إليه “ابن خلدون” في مسألةِ أخطاءِ المؤرِّخين، من تَشَيُّعٍ لجهةٍ سياسيّةٍ أو دينيّة يُبعِدُ عن التحيُّدِ والتجرّد، ومن تزلُّفٍ لأصحابِ المناصبِ والسلطةِ جَلباً لمنفعة، فتُجَسَّمُ حسناتٌ مُتَخَيَّلٌ أكثرُها، ويُبالَغُ في سيّئاتٍ لخصومِ هؤلاء… كلُّ ذلك يُبعِدُ النَّقلَ عن العقل، والصحافةَ عن العِلم، ويجعلُ الصحفيَّ أَشبهَ بالحَكَواتي، ليس إلّا.
يمكنُ لأَحدِهم أن يتّهمَنا بأنّنا، إذ نفرضُ شروطاً على الصحافة، نُقَيِّدُالحريّةَ الصحفيّة، ونقضي على طلاقةِ مجالاتِها. إنّ محطّتَنا، في مقاربةِ هذه المهنةِ الرّسالة،ليسَت حجزَ الصحافةِ في عالَمِ المُثُل، بل هي مخصَّصَةٌ لمفهومِ العملِ الصّحفيّ، وإدراكِ القيِّمين عليه أنّ الحريّةَ في الكتابةِ لا تعني التفلّت، والفوضى، ودَكَّ أسسِ القِيَمِ، ومقاييسِ المُمكِنِ والمقبول… ساعتذاك، تُخفِضُ الصحافةُ جناحَيها للباطل، لتصبحَ جسداً ميتاً. إنّ الحريّةَ المُصَوّنةَ بالعقلِ، والأخلاق، تملأُ مصابيحَ الصحافةِ بالزّيتِ الكريم، وتُفسِحُ للحقيقةِمَفسحاً في ظلِّها، ويطلُّ عليها الصّدقُ بيومِها الأبيض. أمّا الهاجسُ المُتَمِّمُ لقَلَقِنا، ففي استسلامِ أكثرِ العامِلين في الصحافة، لوباءِ سوءِ السّلوكِ، وانتهاكِ الحُرُمات، واعتمادِ البذاءةِ في الكتابةِ…ما يحوِّلُ الصحافةَ سفينةً على أرضٍ يابسة.
إنّ الحقَّ في التّعبير مكفولٌ بالدّستور، وهو بَندٌ أساسيٌّ في شرعة حقوق الإنسان،وهذا يعني، تماماً، اعترافاً دوليّاً بتَلازُمِ هذا الحقّ مع قيمةِ الإنسان، وكرامتِهِ، وحريّتِهِ. لكنّ الدّساتيرَ، والقانونَ الدوليَّ، وفي ضوءِ تكرارِ انتهاكِ الأصولِ، وفي مقدّمها أنّ حريّةَ أحدِنا تتوقّفُ عندَ حدودِ حريّةِ غيرِه، اضطُرَّت الى وضعِ قيودٍ مُلزِمَةٍ تُفيدُ بأنّ الحريّةَ ليسَت مُطلَقَة،وبالتالي، فإنّ هذا القرارَ ليسَ قَمعاً للحريّةِ، أو تَضييقاً عليها، بِقَدرِ ما يحافظُ على نُبلِها.
وإذا كانتِ الصورةُ، عندَنا، قاتمة، بإفراغِ حريّةِ الصحافةِ من معناها، ووضعِ الأقلامِ الحرَّةِ تحتَ المقصلة، بقرارٍ تُمليهِ فوَّهةُ الفوقيّةِ، والإستقواء، والتسلّط، وفَرضِ الرأيِ المُعَلَّب، فأيُّ قيمةٍ، بعدُ، للحريةِ في بلدٍيرفعُ صحافِيّوهُالمُدَجَّنونَأيديَهم للموافقة، والإذعان، ويتحسَّسُ الأقلّون، منهم، رِقابَهم ليتأكّدوا من بقائِها فوقَ أكتافِهم ؟؟؟