زياد سعاده غلب الموت وانبعث مشروع فيلسوف عبر كتابه “البارابسيكولوجيا والإنسان”
د. مصطفى الحلوة
– أمّا قبل…تكثّفَ زياد سعاده عمرًا، حين لم يرتضِ عمرَهُ كرَّ أيّام وعدَّ سنين! وتكثَّفَهُ زمنُ العبقرية، واستعجلهُ الرحيل، وهو في فوران عطائه الفلسفي!
فيا أُمَّهُ المؤمنةَ، التقيَّةَ، النقيَّةَ، الصابرةَ المصابرة، لا تبْكِهِ، ويا شقيقَهُ وشقيقاتِه، ويا زوجتَه، ويا كلَّ عارفيه وقادريه، لا تحزنوا، فزياد انهزم منه الجسد، لكنّه باقٍ روحًا، ينبعثُ اليومَ في كتاب، ينبعث في ما أبدعَ فكرُه وما خطّتْ يدُه، “فالخطُّ يبقى زمانًا بعدَ كاتبه/وصاحبُ الخطِّ تحت الأرض مدفونُ!”
– وإذا كان جرسُ سيّدة زغرتا قد دقَّ حزنًا، يومَ رحيله، فإنَّ هذا الجرسَ وأجراسَ طرابلس تدقُّ فرحًا، هذه العشيّةَ، وهي تحتفي بمولوده الفلسفي الأوّل، وأعظِمْ به من مولود!
– “البارابسيكولوجيا والإنسان”.. إنّه باكورة أعماله البحثيّة، بل رأسُ جبلِ الجليد، لِما خلّفَ زياد من كتابات، بالعربية والفرنسية، ولسوف تُبصرُ النورَ كتاباتٌ أخرى، لا زالت طيَّ أدراج مكتبته، وعندها تتكامل مشهديّةُ عبقريته فصولًا، ولنغدُوَ بإزاء “مشروع فيلسوف”، نذر حياتَه وفكرَه لعلم البارابسيكولوجيا، متربّعًا على واحدة من قممه!
– لقد أتانا زياد بكتاب، لا تتعدّى صفحاته المائتين، يـوزنُ بميزان الذهب. فهذه الصفحات جميعُها، عيارُها أربعةٌ وعشرون قيراطًا فكريًّا ذهبًا، ممّا بوّأهُ سُدَّةَ الخلود!
– ببصيرة ثاقبة، رأى باحثُنا أنّ البارابسيكولوجيا، علمَ المستقبل، الذي يتّخذ من الظواهر الخارقة موضوعًا له، هو علمٌ لا تبلغُهُ إلّا صفوةٌ نادرةٌ من الأفراد، ذوي العمق الصوفي الروحي، حيث يتجاوز الإنسان فرديّته الضيّقة، كي ينفتح على اللامتناهي، كما التعالي، بإزاء هذه الفرديّة المحتبَسة، ضمن إشكالية الزمان والمكان!
– لقد كان لباحثنا أن يُوقِنَ أنّ من الأهمية بمكان حدوثَ إدراك، خارج نطاق الحواس المُبتذَلة. كما أيقن أيضًا أنّ علمَ النفس لم يستطع الخروج من الدائرة التجريبيّة الضيّقة إلى فِناءات الدائرة الميتافيزيقية، للقبض على حقيقة الانسان، ككلّ متكامل. من هنا، فإنّ البارابسيكولوجيا تأتي لتُكمّل علم النفس الكلاسيكي، وتردَّ الاعتبار إلى الظواهر النفسية الخارقة.
– لقد رفض الكاتب سعاده الركونَ إلى العقل الجزئي الأداتي، الرازح تحت وطأة التفكير التقليدي المبرمج، الذي يجلب للإنسان الاطمئنان والراحة الخاملة. هكذا يمّمَ شَطرَ البارابسيكولوجيا، ضالّتِه، حيث يجدُ لديها الخبرَ اليقين! راح يُصيخُ إليها السمعَ ويتملى منّ تجلّياتها!
– وفي تسفيه العقل، يلفتُ باحثنا إلى نسبية أحكامه والنتائج التي يخلص إليها، على رُغم التوسُّع الذي طرأ على الأفق الإدراكي. وبالمقابل، فهو يأتينا بأطروحة “العقل الأسمى”، الذي تكمن فيه الطاقات والامكانيات الروحية، التي تتجلّى، من وقت لآخر، كظواهر بارابسيكولوجية خارقة. هذا “العقل الأسمى” يُتيح للإنسان المتناهي الانفتاح على “العقل المطلق” اللامتناهي. وإذْ يتّحد العقل الجزئي بالعقل الكلّي، فمن شأن ذلك إزالةُ التعارض بين المعرفة والوجود.
– وفي رأينا، لم يكن زياد سعاده، بهذا الموقف، من العقل الأداتي، خارج السؤال الإشكالي التاريخي، الذي لطالما تداوله المشتغلون بالفكر، وحتى بالعلوم الصِرفة، وهو الآتي: هل من العقلانية اتخاذ العقل مرجِعيّةً مُطلقة؟ وهنا يحضُرنا قول إنشتاين: “إنّ العقل البشري، مهما بلغ من عظيم التدريب وسموّ التفكير، عاجزٌ عن الإحاطة بالكون”. كما لنا أن نستلَّ من إبن خلدون، في مقدّمته: “لا تطمعْ أن تزن به(العقل) أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوّة وحقائق الصفات الالهية، وكلّ ما وراء طوره، فإنّ ذلك طمعٌ في مُحال!”
– ولقد ثبت علميًّا، في السنوات الأخيرة، أنّ للقلب جهازًا عصبيًّا مستقلًّا، فيه ما يزيد على أربعين ألف خليّة عصبيّة، تُخزّن الكثير من المعلومات. كما أنّ له دورًا في إدارة الجسم، بشكل منفصل عن الدماغ!
…عبر هذه المعمعة، ينتهي زياد إلى أنّ الفلسفة الحديثة والمعاصرة لن تتوصّل إلى كشف بعض حقيقة الانسان، لاقتصارها على البُعد الأفقي Dimension horizontale، مُغفِلةً الثقل الوجودي، المتمثّل بالبُعد العمودي Dimension verticale، الذي يُتيح النفاذ، في حركة تعمُّقية، إلى الآخر الروحي الباطني.
– ولقد كان لزياد أن يخوض معركة أخرى، على جبهتين، في مواجهته التهمتين اللتين تُرمى بهما البارابسيكولوجيا، أولاهما تهمة التشكيك بصحة هذا العلم، الذي يرى إليه البعض علمًا زائفًا، لا يهتم إلّا بالهلوسات والخزعبلات. وعن ثانية التهمتين، ففحواها أنّه علمٌ إلحادي، وكذا الأمر مع المشتغلين به!
– في الردّ على التهمة الأولى، يذهب باحثنا إلى أنّ الكثير من جامعات الغرب قد خصّص فرعًا للبارابسيكولوجيا، ولم تكن لتنشأ هذه الفروع، لو كان الاعتقاد السائد، لدى هذه الجامعات، بأنّ البارابسيكولوجيا ‘لا تعدو أن تكون ممارسات دجليّة وألعاب خفّة!”
– ولقد توسّعنا، من جانبنا، في المسألة، فتبيّن لنا، في ما تبيّن، أنّ بحلول العام 1969، تمّ الاعتراف بالجمعية البارابسيكولوجية، من قِبل “الجمعية الأميركية للعلوم”، وأصبح علمًا يُدرّس في الجامعات الغربية.
– وعن التهمة الثانية، يكفي الاستشهاد بكلمات لزياد، هي بمنزلة اعتراف لا يمكن دحضُه، مسفّهًا هذه التهمة المزعومة:”إنّ النظرية البارابسيكولوجية تظلّ أعجز من أن تكشف النقاب عن حقيقة الانسان، إن لم تأخذ في الاعتبار انتماءه الإلهي، الذي تحجبه، ولو إلى حين، صدمة التجربة التجسُّديّة”. ومن زياد أيضًا نُـضيف شهادةً ما بعدها شهادة: “إن انفصل أحدٌ عن الله، ماذا يستطيع فعله، إلًا أن يذبُل ويموت! فالحياة اتحادٌ مع الله، والموت انفصال عنه. إنّ السعادة في الله فقط!”
– ختامًا، نحطُّ الرحال عند سؤال، هو بيت قصيدنا: هل زياد سعاده فيلسوف أم “مشروع فيلسوف”؟
“كان زياد، حسبما يذهب النقيب أنطوان السبعلاني، في حالة من التفكير الفلسفي الدائم. وقد يكون اختصاصه في الفلسفةزاده شغفًا مجنونًا، في البحث عن الحقيقة!”
لقد كان لنا، من موقعنا، كمشتغلين في الفلسفة، أن نستحضر المعايير، التي يجب توفّرها في الفيلسوف، وذلك عبرَ منظورين: منظور نظريته الفلسفية الشمولية المتماسكة، ومن منظور سلوكه العملاني الخُلُقي، حيث يكون انسجامٌ، بل تماهٍ بين القول والفعل والتصرّف! وإذْ طابقنا هذه المعايير على باحثنا، بعد طول نظر، ومن موقع الموضوعية، فقد تحصّل لنا أنّ زياد سعاده، ونقولها بالفم الملآن، هو فيلسوف، بكل المقاييس. وإذا لم يرتضِه البعضُ فيلسوفًا، فهو -أقلّهُ- ‘مشروع فيلسوف”! ويكفي زياد مجدًا فلسفيًا أنّه أثار عاصفة بارابسيكولوجية، لا زالت أصداؤها تتردّد، منذ رحيله! ويكفيه أنّه ألقى حجرًا في مياه الفلسفات الحديثة والمعاصرة الراكدة! ولا بأس عليه، سواءٌ أاصاب ام أخطأ، فالفلسفة لا تبحث عن إجابات حاسمة، بل هي علم التساؤل، الذي لا ينتهي إلّا بانتهاء هذه الدنيا!
– ختامًا، ليس لي إلّا أن أتوجّه إلى الوالدة الجليلة السيدة نزهة، أم وليد، القابضة على جمر إيمانها، فبلغت من العمر عتيًّا، لا حُبًّا بطول العمر، ولكن لتعيش اليوم هذه اللحظة التاريخية، وتكحّل عينيها برؤية فلذة كبدها، متجسّدًا في كتاب، ولكي تحتفي مع هذا الجمع الذي جاء من زغرتا الزاوية، ومن طرابلس، ومن عكار، ومن مختلف المناطق اللبنانية، ليتحقّقوا من أنّ زيادًا، لا زال حيًّا، وملءَ السمع والبصر!
ولا يسعني إلّا أن اشدّ على يد شقيقة زياد السيدة عايدة سعاده معوّض، وعلى يد الزوجة الإعلامية هدى شديد، أيقونة الحبّ والتفاني، ومثال الوفاء اللامتناهي، كما على يد الأديبة إبتسام غنيمة. فقد كُنّ ثلاثتهنّ وراء هذا الإنجاز الفكري الفلسفي، الذي يُشكّل إضافةً نوعيّة لمكتبتنا العربية، ومرجِعًا لكلّ سالك سبيل البارابسيكولوجيا.
***
*كلمة د. مصطفى الحلوة في ندوة حول كتاب المفكّر الراحل زياد سعاده “البارابسيكولوجيا والإنسان” مركز الصفدي الثقافي/السبت 13 أيار 2023.
*هذه المداخلة هي موجز لمراجعة أكاديمية، سوف يضمها كتاب، تُجمع فيه كلمات الندوة في “مركز الصفدي الثقافي”، وكلمات الندوة، التي أُقيمت في زغرتا، منذ عدّة أشهر، إثر صدور كتاب “البارابسيكولوجيا والإنسان”.