سجلوا عندكم

 الملعب الأخضر

Views: 1137

زياد كاج

   عرفت الملعب الأخضر يوم كنت في الرابعة عشرة. كنت أقصده نازلاً من بيتنا في شارع الصنوبرة، مروراً بشارع “جاندارك”، مرتدياً ثيابًا رياضية وحاملاً كرة حمراء، قاصداً ملعب كرة السلة في الملعب الأخضر في الجامعة الأميركية في بيروت.

   على أرض هذا الملعب إكتسبت مهارات اللعبة مع شلة من خيرة شباب وشابات رأس بيروت.

على أرض هذا الملعب كانت لي صداقات ومعارف، وقصص حب قصيرة وماراثونية أفلاطونية صارت سرابًا.

على أرض هذا الملعب شاهدت أفضل لاعبي البلد القدامى: عبد الحفيظ الوتار، محمد بكري، “أبو حديد”، أحمد الجلبي وكثرًا غيرهم.

على أرض هذا الملعب خضنا مباريات مع عمالقة “المارينز” الذين كانوا يحرسون السفارة الأميركية.

   علي أرض هذا الملعب تعلمت التسديد من بُعد فوصلت الى مستوى الاحتراف.

كانوا يصفونني “بالهداف اللئيم” لأن طابتي كانت تنطلق كقذيفة مدفع هاون لتدخل السلّة من دون أن تلمس الدائرة الحديدية. نشأت بيني والسلة المعلّقة في الهواء علاقة انحفرت عميقاً في عقلي. صرت اُطرب لصوت الشبكة البيضاء بعد تسديدة موفّقة. نسيت البحر القريب فتعلّمت السباحة متأخراً بعد عدة حوادث غرق انتهت إحداها بكمية كبيرة من شوك “التوتياء” في قدميّ العاريتين.

 

   رحم الله أبو مروان أورفالي أبن عين المريسة، وهو الموظف القديم والمعمّر الرياضي الفذّ الذي كان يشاركنا اللعب ويفخر بتسديداته البعيدة.

لم تكن كرة السلة في أواسط السبعينات منتشرة كما اليوم. كانت المباريات تقام بين منتخبات الجامعات والمدراس والجمهور جداً محدود. أبو مروان، حارس الملعب الأخضر الذي كان يمنع كل من يتجرأ ويدوس على الحشيش الأخضر الطبيعي ويشرف على ماكينات السقاية، كان أول من لفت انتباهي الى ضرورة السباحة بشكل عمودي لإتقان فن العوم. صفارته تطن في ذاكرتي على صخور مسبح الجامعة وفي الملعب الأخضر.

    مرت سنوات وعشت خبرات وتجارب طويلة كموظف في الجامعة. وها أنا اليوم أجلس على كرسي بلاستيكي أبيض، الى جانبي زوجتي وجمهور غفير من أهالي الطلاب والطالبات من كافة أطياف المجتمع في حفل تخرج مهيب لسنة 2023 بحضور رئيس الجامعة، الدكتور فضلو خوري، والهيئة التعليمية وشخصيات عالمية معروفة قررت الجامعة منحها الدكتوراة الفخرية كتقليد سنوي. الملعب تحول ليلاً الى مكان احتفالي مهيب وسط إضاءة طاغية ومحترفة وثلاث شاشات عملاقة توفر للجالس في الصفوف الخلفية وضوحًا في الرؤية. نحن أهالي الطلاب وكوننا من موظفي  المؤسسة وادارييها خُصصت لنا أماكن خاصة ومميزة على أرض الملعب لجهة البحر من دون تمييز.

 ماذا تغير؟ وما الفرق بين البارحة واليوم؟

   صحيح أن الحشيش صار “مصّنعاً” وغير طبيعي. لا رائحة له وللتراب التي كنّا نشمها خلال دوران نوافير المياه التي كان المرحوم أبو مروان يغير مكانها كي يرتوي كل جزء من الملعب.

وصحيح أيضاً أن أمور عظيمة وتحديات فظيعة قد مرت على البلد والجامعة منذ سنوات. بدأت بجائحة الكورونا، ثم تلاها الانهيار المالي العام وانفضاح المنظومة الفاسدة الحاكمة وإفلاسها سياسياً وأخلاقياً، ثم إنفجار “4 آب” المخيف والمزلزل، ثم الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا ووصلت ارتداداته الى البلد..

لكن الجامعة صمدت واستمرت وكافحت. وها هي اليوم تبدو—كما كانت—صرحاً علمياً منيعاً يُنتج ويخرّج أرقى وأذكى العقول الشابة.

   ما ميز 9 و 10 حزيران من هذا العام ( أنا دخلت الجامعة موظفاً في حزيران 1985)، هو تخرج ابني جاد وابنتي ميرا مع بقية الطلاب والطالبات.

 

حين لفظ عريف الاحتفال اسميهما..حبست الدمع، وغار قلبي، وصار الملعب الأخضر يكبر ويكبر. بدا لي كأنه العالم كله.

عاد بي الزمن 45 سنة الى الوراء! ها هما يصعدان الى المنصة الحمراء ويستلمان شهادتهما من رئيس الجامعة أمام جمهور غفير..

“ستكون لهما حياة أفضل”. وأنا من الجيل الذي حُرم من حفل التخرج في الجامعة اللبنانية في أوائل الثمانينات لأن الأحزاب “الظلامية” اعتبرت يومها أن ثوب التخرج—الذي يرتديه اولادهم وبناتهم— كنسي!!

   الكرة اليوم في أيدي جاد وميرا والغد لهما. وسلّة كرة السلّة هي اليوم سلّة حياتهما. 

شكراً للملعب الأخضر المعطاء والكريم، الذي طالما ركضت ومشيت حول دائرته البيضاوية صيفاً وشتاءً.

 الحياة كُرة تدور..ولكل زمان دورة ورجال. ولكل جيل سلّته وحظوظه.

   مبروك أحبائي جاد وميرا..وشكراً للجامعة الأميركية في بيروت.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *