سجلوا عندكم

إدمون ربّاط ونقد تاريخ لبنان المُعاصِر

Views: 58

د. مسعود ضاهر*

هو من مواليد مدينة حلب في العام 1904. نشأ متشبّعاً بالأفكار القوميّة العربيّة الرّافضة لسياسة تجزئة بلاد الشام والدول العربيّة. عايَشَ فترة الانتداب، وجَمَعَ الكثير من المعلومات والمُراسلات التي وثَّقها في دراساتٍ صَدرت باللّغة الفرنسيّة. نَشَرَ كُتباً عدّة في المجالَيْن التاريخيّ والحقوقيّ أبرزها: “التكوين التاريخيّ للبنان السياسيّ والدستوريّ”، و”الدستور اللّبناني” و”الوسيط في القانون الدستوري”.

تركَ الكثير من الاستشارات القانونيّة والدراسات والمحاضرات والمقابلات الإعلاميّة. لخَّصَ موقفَه من نشأة دولة لبنان الكبير ومشكلاتها المُزمنة في حوارٍ وافٍ وجميل مع جوزيف بدوي نُشر في العدد 213 من مجلّة “الأفكار“، الصادرة في بيروت بتاريخ 21 تمّوز/ يوليو 1986. كان العنوان مثيراً: “أخطر حوار مع المؤرّخ والقانوني الكبير إدمون ربّاط: القوميّة العربيّة ستبقى فاعلة”.

عَرفتهُ عن كثبٍ حين أعددتُ أطروحة الدكتوراه في التاريخ في جامعة السوربون، تناولتُ فيها تاريخ لبنان الاجتماعي في مرحلة الانتداب الفرنسي. كان قد أَعدّ أطروحته في السوربون ونَشرها بالفرنسيّة “التطوّر السياسي لسوريا تحت الانتداب الفرنسي“. ونَشَرَ بالفرنسيّة كتاباً آخر بعنوان: “الدول السوريّة المتّحدة“. كان ودوداً جدّاً وعلّمني القواعد العلميّة الواجب اعتمادها في كتابة تاريخ لبنان المُعاصِر. تابعتُ منشوراته ومُحاضراته، وتأثَّرتُ كثيراً بمنهجه العلميّ المعمّق في دراسة التاريخ. وكنتُ سعيداً جدّاً حين مَنحني في حواره مع جوزيف بدوي صفة “صاحب المؤلّفات القيِّمة”. تميَّزت أعماله بالدقّة، ودراساته بالموضوعيّة والابتعاد عن الشعارات الطنّانة. كان حجّة معترفاً بها دوليّاً في الاستشارات الحقوقيّة، بخاصّة في قضايا سوريا ولبنان والمشكلات الحقوقيّة العربيّة. لذا كان للحوار معه عن تاريخ لبنان أهميّة استثنائيّة لأنّه جاء متكاملاً ونُشر قبل سنواتٍ قليلة من وفاته في العام 1991.

تضمّن الحوار تحليلاً مكثّفاً للإصلاحات الأربعة لإخراج لبنان من أزماته البنيويّة، وهي: التعدّديّة والفدراليّة، والتوافقيّة، والعَلْمَنة. بالإضافة إلى مقولاتٍ نظريّة مهمّة لحلّ تلك الأزمات.

 

“وُلدت دولةُ لبنان الكبير في العام 1920 في إطار دولةٍ مبنيّة على مجموعة من الطوارئ؛ ما جَعَلَ من الطوائفيّة سِمَةً ملازمة وعضويّة لوجود لبنان وصيرورته، على الرّغم من أنّ جبل لبنان في عهد الإمارتَيْن المعنيّة والشهابيّة، لم يرتدِ حلّته الطائفيّة، إلّا بسقوط الأسرة الشهابيّة في العام 1842، وإحلال نظام القائمقاميّتَيْن مكانها؛ ما أدّى إلى صداماتٍ دمويّة بين الدروز والموارنة، أعقبتها أحداثُ العام 1860 المُخجلة. وبعد تدخُّلٍ أوروبيٍّ كثيف فُرِضَ نظام المتصرفيّة في العام 1861 على جبل لبنان، مع إبقائه في نطاق الدولة العثمانيّة وسيادتها”.

بني النظام الإداري الذي فرضته الدولُ الأوروبيّة بكليّته على النظام الطائفي. مع تحديد دَور كلّ من الطوائف الستّ (الموارنة، الدروز، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، السنّة، الشيعة) في الحياة العامّة والوظائف ومجلس الإدارة، “مع إعطاء الرجحان للموارنة”.

كان التحوّل من المتصرفيّة أو لبنان الصغير إلى لبنان الكبير من خلال خمسة قرارات أصدرها المفوّض السامي الفرنسي الجنرال غورو في 31 آب/ أغسطس في العام 1920، وأوّل أيلول/ سبتمبر من العام 1920. وقد أعلن فيها ضمّ الساحل من صور إلى طرابلس، وضمّ الأقضية الأربعة، أي بعلبك والبقاع وراشيّا وحاصبيّا إلى دولة لبنان الكبير، من دون أيّ استفتاءٍ للسكّان. “لكنّ معظم الأهالي استمرّوا في مقاومتهم لدولة لبنان الكبير لغاية 1943، عندما تمّ التوافُق بين اللّبنانيّين على أساس ما سُمّي بالميثاق الوطني، وهو في الواقع ميثاق طائفي بين بشارة الخوري ورياض الصلح”.

شدَّد ربّاط على أنّ دولة لبنان الكبير وُلدت بضغطٍ مسيحيّ، على الرّغم من مُمانَعةٍ إسلاميّة استمرّت حتّى العام 1943. وصُنّفت لاحقاً بأنّها كانت تجربة غير موفّقة؛ فاضطرّت القوى المسيحيّة التي ساندتها قبل انفجار الحرب اللّبنانيّة في العام 1975 إلى التخلّي عنها، فصدر كتيّب عن منشورات جامعة الروح القدس في الكسليك في العام 1976 تحت عنوان: “دولة لبنان الكبير.. مأساة نصف قرن“.

وبدلاً من أن يجهد صانعو الاستقلال أنفسهم بتحويل الدولة اللّبنانيّة من دولةٍ طوائفيّة إلى دولةٍ مدنيّة عصريّة تحوّلوا بتأثير من مصالحهم وطوائفهم إلى توطيد النظام الطائفيّ وجعْله الأساس للحُكم والحكومة والإدارة والقضاء وسائر نواحي الحياة العامّة.

يتّصف النظام الطوائفي بأنّه يجعل المواطن أسير طائفة معيّنة من الطوائف اللّبنانيّة “بحيث لا يستطيع اللّبناني أن يكون مواطناً، ولا يستطيع أن يولد ويتأهّل ويموت ويُمارس موجباته وحقوقه السياسيّة، إلّا عبر طائفة معيّنة. ما يجعله، في حال رفضه الانتماء إلى إحدى هذه الطوائف، شخصاً مجرَّداً من المواطنيّة اللّبنانيّة، ومن الأهليّة المدنيّة، ومُنعدماً من كلّ حياة سياسيّة. ويتحدّثون بعد ذلك عن الديموقراطيّة في لبنان. وقد تناسوا أنّ الديمقراطيّة الحقّة مبنيَّة على دعامتَيْن جوهريّتَيْن هُما: الحريّة والمُساواة”. لكنّ المعطيات التي أحاطت بالعام 1920 وإنشاء دولة لبنان الكبير من طَرَفِ السلطة الفرنسيّة المُنتدَبة زالت من الوجود، لكي تحلّ محلّها معطياتٌ جديدة باتت مرتبطة بالتكوين الدوليّ الخاصّ للشرق الأوسط بعد الحرب العالَميّة الثانية؛ فرعاية الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفياتي لم تعُد تسمح بإجراءِ أيّ تبديل في خارطة الشرق الأوسط. “والتفكير باحتمال تفكيك الدولة اللّبنانيّة لا يبدو متجاوباً مع سياسة الدول الكبرى، ولاسيّما أنّ اللّبنانيّين جميعاً أضحوا متمسّكين بوحدة لبنان وكيانه، أرضاً وشعباً ومؤسّسات حسب المعزوفة التي يردّدها كلّ يوم رجالُ السياسة في لبنان”.

مع ذلك، يبقى الخطر الأساس كامناً في سياسة إسرائيل المعروفة والهادفة إلى تحويل لبنان إلى دويلاتٍ طائفيّة. ويبقى شبحُ التقسيم قائماً إلى أن يتمّ التوافُق بين اللّبنانيّين على حلٍّ ناجح ودائم لوجودهم في دولة واحدة. “ما يعني أنّ الحرب ستبقى مستمرّة إلى أن يتمّ هذا التوافُق بملء إرادتهم أو بفرْضِ حلٍّ عليهم من جانب قوى خارجيّة”.

بعدما تعدّدت مشروعات الحلّ للأزمة اللّبنانيّة وتبلْورتْ بأشكالٍ متنوّعة، تناولَ إدمون ربّاط المُقترحات الأربعة المُتداولة، وهي: التعدّديّة، والفدراليّة، وإلغاء الطائفيّة السياسيّة، والعَلْمَنة.

أوّلاً: التعدّديّة،وهي تعدّديّة طوائفيّة أُعطيت صفة الميثاقيّة. وتعني الاتّفاق بين الوحدات المُختلفة القائمة في المُجتمع اللّبنانيّ المتعدّد اللّغات والمذاهب والأعراق، وتقاسم وظائف الدولة في ما بينها. لكنّ أنصار نظريّة التعدّديّة التوافقيّة على النمط السويسري تجاهلوا أنّ سويسرا، وسواها في هذا المجال، تتمتّع بقوانين مدنيّة واحدة، ولاسيّما لجهة العائلة والميراث. وأنّ المواطنين فيها يتمتّعون بحريّة مذهبيّة أو دينيّة مطلقة تقرّ لكلّ مواطن بحريّة الانتماء إلى أيّ مذهب أو دين. وهُم مواطنون يتمتّعون بالمُساواة المُطلقة، من حيث تولّي الوظائف السياسيّة والإداريّة.

ثانياً: الفدراليّة، وهي نوعان: الاتّحاد الفدرالي والاتّحاد الكونفدرالي. هناك نماذج منها في دولٍ عدّة. لكنّ أيّاً من شروط الفدراليّة لا تنطبق على الدولة اللّبنانيّة القائمة على التعدّديّة الطوائفيّة التوافقيّة.

ثالثاً: إلغاء الطائفيّة السياسيّة، وهو شعار سياسيّ هاجسه جعْل اللّبنانيّين في جميع الطوائف متساوين في الحقوق والواجبات، لأنّهم في نظامهم الحالي غير متساوين في الحقوق والواجبات.

رابعاً: العلمانيّة،وهي مُقتبَسة عن الغرب الأوروبي؛فلهتاريخ حافل بالنضال في أوروبا، وصولاً لفصل الدّين عن الدولة؛ وشروط اعتمادها غير متوفّرة في لبنان “لأنّ تطبيق قوانين الأحوال الشخصيّة الخاصّة بكلّ طائفة، جَعلتِ الدولة اللّبنانيّة دولة طائفيّة، وليس دولة دينيّة، وهذا بيت الداء”. لذلك لا بدّ من تكثيف المساعي، أوّلاً لتحرير المواطن اللّبنانيّ من الانتماء إلى طائفة معيّنة لكي يحيا كمواطنٍ لبناني يتوفَّر له الإطار المدنيّ، بموجب قوانين عصريّة للأحوال الشخصيّة. على أن تكون تلك القوانين اختياريّة في البداية، لكي يصبح المواطن اللّبناني حرّاً في أن ينتمي إلى طائفة ما أو يتحرّر من كلّ طائفة.

بقي أن نُشير إلى حريّة المُعتقد التي تُعتبر جوهر حقوق الإنسان المعلنة في شرعة حقوق الإنسان العالَميّة، الصادرة في 10 كانون الأوّل/ ديسمبر 1948. “هذه الحريّة في صميم تاريخ لبنان وسائر البلاد العربيّة. والتعليم والثقافة مُعترَف بهما لكلّ طائفة أو جماعة في لبنان، وإتباع مناهج تعليميّة خاصّة، وباللّغة التي تشاء”.

في هذا المجال يُعلن إدمون ربّاط أنّه من القائلين إنّ الإنسان العربيّ في عصرنا، لا يستطيع أن يدّعي الثقافة إذا كانت ثقافته منحصرة باللّغة العربيّة وتراثها الأدبيّ، على الرّغم من عظمته وضخامته؛ ذلك لأنّ الحضارة العالَميّة بأشكالها المُختلفة، من تكنولوجيا وفلسفة وعِلم وأدب وغيرها، أصبحت بكلّيّتها مُستقاة من الثقافة الغربيّة؛ الأمر الذي يحتّم على العربيّ أن يُتقِن لغة غربيّة من اللّغات الكبرى. وذلك كي يستعين بها في تحصيل العلوم التي يحتاج إليها. (radiomusical.com) “أمّا أن يضحّي اللّبنانيّ بلغته العربيّة، وهي لغة وطنه، ولاسيّما أنّ لأجداده قسطاً وافراً في حفظها وإنمائها والتحرّي عن كنوزها، وذلك بحجّة الحريّة الثقافيّة والتعدّديّة الحضاريّة، فهذا من شأنه أن يمزّق لبنان إلى شراذم ثقافيّة متناحرة”.

ويشير في نقده للتيّارات الأصوليّة الإسلاميّة بالقول: “بدلاً من أن تنتهج التيّارات الإسلاميّة الأصوليّة نهجَ اليابان في اقتباس التكنولوجيا الغربيّة وتطويرها والتقدّم في مَيادينها المتعدّدة جدّاً إلى درجة منافسة الولايات المتّحدة الأميركيّة وسائر الدول الصناعيّة المتقدّمة، وذلك مع المحافظة على ميراث الماضي المجيد، ارتدّت جماعاتنا الأصوليّة إلى الماضي البعيد، بحجّة الرجوع إلى الإسلام الصحيح. لكنّ النجدة ضدّ الزحف الغربيّ سوف لن تأتي إلينا إذا ما بقينا مُتقاعسين عن اكتساب مغانم الحضارة الغربيّة، مُكتفين بالدعوة لإحياء تعاليم السلف وتقاليده؛ إذ إنّها وحدها، على الرّغم من جمالها، سوف لا تنقذنا من براثن الاستعمار بألوانه الجديدة التي هي أشدّ خطراً ممّا كان عليه الاستعمار الغربيّ في الماضي”.

ختاماً، إدمون ربّاط مؤرّخ وحقوقيّ بارز على المستويَيْن المحلّي والدوليّ. وهو عميق الانتماء للعروبة الحضاريّة والآفاق الإنسانيّة الرحبة. تركَ تراثاً ثقافيّاً غزيراً باللّغتَيْن العربيّة والفرنسيّة، وتناولَ بالتحليل المعمَّق أبرز القضايا اللّبنانيّة والسوريّة والعربيّة، مع اقتراحاتٍ عمليّة لحلّها. قدَّم الكثير من الاستشارات الحقوقيّة، وحاضرَ في العديد من الجامعات العربيّة والدوليّة.. ومارَسَ العمل السياسيّ النخبويّ من باب التثقيف العِلميّ ونشْر الثقافة العربيّة والإنسانيّة الجامعة.

***

*مؤرِّخ وباحِث من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *