ليالي
د. جان توما
تسكنُهُ الوحدةُ . يدخُلُ اللوحةَ، يَمْلَأُ المكانَ. من أخذَ الطريقَ، ومحا الدربَ؟. من جعلَ النهرَ ينضَبُ؟ ومنعَ العصافيرَ من الوقوفِ على أفنانِ الأشجار؟
من رفعَ بينَهُ وبينَ بابِ البيتِ ألفَ جَلّ؟ كان أبريقُ ماء الفخّاريّ يكفيهم، يشربون منه بِنَهَم، وما كان يفرغ. ما بالهم اليوم لا يكفيهم نهر الرّماد، ولم تَعُدِ الجموعُ تشبعُ من الأرغفةِ الخمسةِ وسَمَكَتَي البَرَكَة؟!
لماذا هذا المدى بينَهُ وبينَ الدار؟ كيف دارَ العمرُ، ومضى كلٌّ في سبيلِهِ؟ كيفَ يصيرُ المرءُ غريبًا في محيطِهِ؟ هل تغيّرَ هو؟ أو دارَ المحيطُ وتبدَّلَ؟ كيف يصيرُ ما بينَهُ وبينَ الدارِ مساحةَ ودِّ، لا ساحةَ غُربةٍ؟ لو استطاعَ لأودعَ حجارةَ البيتِ قلبَهُ، ومحا عن شقوقِ الحيطانِ رسائلَ حبّ ِالطفولةِ، وشيطنةِ الصبيانِ، وخربشاتِ المراهقة.
نزلَ البيتُ على ورقٍ. صارَ من دفاترِ العمرِ الذي راح. خربطتْ تكاليفُ الحياةِ تراصُفَ الحصى، وضاعَتْ أحرفُ المحبّينَ. فَقَدَ العاشقون أبجديّةَ لغةِ العيون. أَعْمَتِ الدروبَ ظروفُ الدنيا، لكنّ قناديلَ البراءةِ الأولى أنارَتِ السُبُلَ، إذ أودعوا قلوبَهم حبّات بَرَكةِ العفويةِ التي كانت في الشرايين من بقايا ثمارِ ذاكَ الزمنِ الجميلِ .
أيُّ حكاياتٍ جَرَتْ هنا؟ من كتبَ بعصيرِ العنبِ مسرى حياةِ العليقِ على السور؟ ونظّمَ قصائدَ حبّاتِ الزعرور؟ ولملمَ صغائرَ البلوط، يفرّغُ حشوتَها، يضعُ عودًا فيها، يرفعُهُ غليونًا، ينفخُ فيه علّها تنجلي كما يسوقُ المشهدُ الريفيُّ قافلةَ الحنينْ، في ليالي وَجَعِ شوقِ السنين.
***
*اللوحة للفنان زياد غالب