“كومة حكي”… أيقونة الكلمة
ابتسام غنيمه
صديقتي…
الشاعرة روليت منصور
يا قبسًا اخترق جدار المسافات الزّمانيّة والمكانيّة، واشتعل ليُلهب الحاضر بوهج المحبّة الصّافية!
يا ضحكة يتردّد صداها على مقاعدَ فرغَتْ منّا… وملأتْ جعبةَ الذّكريات!
أسمع رنين الجرس، يرتفع… يرتفع… معلنًا زمنَ العودة.
عادت روليت من زمن الصّفاء والطّهارة، من زمن الفطرة والبراءة، مُحمَّلة بِعَبَق السّنوات التي استيقظَت من غَفوتها، بِفَوح عبير المشاعر الصّادقة والتّجارب الحياتيّة العامّة، لتنشرَ أريجها بأحرف قُدَّت من مقلع محكيَّتنا، ومن جمال عربيَّتنا، مُتحدّيةً الغربة، محافظة على تراثها، على شرقيّتها التي بَقيت متشبّثةً بها فكرًا وتفكيرًا، وعلى لغتها التي نشرتها عِلمًا وبوّأتها الصّدارةَ في كلامها، وعلى لبنانيّتها قيمًا وحياةً عائليّة واجتماعيّة.
روليت، الفتاة المشاغبة، والمرأة المناضلة، والزّوجة الصّالحة، والأمّ الفاضلة، كتبت الكلمة/ الواقع، فرقصَت الأحرف وتمايلَت وارتفعَت بها الأصواتُ مغنّية، تطلُّ اليوم، تضمّ إلى صدرها عصارةَ قلبها وفكرها، مولودًا بِكرًا، وُلد من رحم الكلمة الحرّة، وارتدى حلّة “كَومِة حكي”.
وجوه كثيرة تطالعنا في الدّيوان، يعرض كلّ منها نموذجًا بشريًّا قد نصادفه في حياتنا اليوميّة، تنفح فيه روحَ الشّعر الآتي من وادي عبقر، فتدبّ فيه الحياة، وتنطق الكلمات بقصّة وعبرة. فالشّاعرة تكاد لا تترك موضوعًا إلّا وتعالجه، على نحو الأنانيّة، والكذب، والتّلاعب بعواطف النّساء، وهجر الحبيب، والخيانة، والغدر، والاغتياب، والكلمة التي تخرج من اللّسان ساعة الغضب ثمّ نندم عليها، وتلاشي المبادئ عند الكثيرين، إلخ… فضلًا عن المشاعر التي تنتاب كلّ إنسان من حبّ وغضب ورضا الوالدين وعواطف الأمومة الصّادقة بما تتضمّن من حبّ وحنان ولوم وعتاب…
كما أنّها تسلّط قلمها على وسائل التّواصل الاجتماعيّ وما قد تسبّبه من آفات اجتماعيّة قد يعجز الغدُ عن القضاء عليها.
واللّافت في ديوانها العرض المفصّل لحياة المغترب اللّبنانيّ في مطوّلة “عَ الغربة بيحسدونا”، حيث تعكس الصّورة الحقيقيّة لما يعانيه عكس ما يعتقد البعض، وتقيم مقارنة بين الأمس واليوم، بين المجتمع الشّرقيّ والمجتمع الغربيّ.
فالشّاعرة تبوح… تروي… تعاتب… تلوم… تصفع الوجدان…
على غرار ابن المقفّع، تعالج معظم مواضيعها في قوالب قصصيّة تأسر القارئ بعيدًا عن الوعظ والإرشاد، ونُصب عينيها هدف: الدّرس. فقد علّمَتنا الكثير:
علّمتنا أن نواجهَ الخوفَ الكامن في أعماقنا ونسعى إلى تحقيق أهدافنا.
علّمتنا أنّه سيُكال لنا بالكيل الذي كِلنا به لسوانا، إذ لا بدّ أن يلقى المرء جزاء أعماله: “مستحيل عَ حدا تدوس/ لدقنك ما يرجع الموس”.
علّمتنا أنّ الصّراحة والعتاب الذي هو “صابون القلوب” كما يقول المثل أفضل من السّكوت والهرب.
علّمتنا أن نفهم أهلنا وتصرّفاتهم المبنيّة على الخوف علينا.
علّمتنا أنّ قيمة الحبّ هي “بْحُبّ الله وحدو ندوب”.
أيقظَت وَعيَ الفتاة في حقيقة الحبّ.
لامسَت مشاعرنا الحقيقيّة عندما نعجز عن أن ننسى الإساءة “صفحَه صعبِه نقلبها”.
ولأنّها امرأة، وَمن أدرى بشعاب مكّة أكثر من أهلها كما يقول المثل، أرادت أن تعلّم الرّجل كيف يتعامل مع النّساء.
ولئن كان هذا الدّيوان/ المعلّم يصوّر نماذج بشريّة نصادفها في معظم المجتمعات، وليس وليد تجربة خاصّة، إنّما حالة تستحضرها وتعيشها بكلّ مشاعرها، وتكتب عنها، وتستخلص العِبَر، فهو يعكس شخصيّة الشّاعرة وفكرها ورؤيتها للحياة؛ فنراها تلوذ بضحكتها الدّائمة “حيَّكت ضحكاتي دروع” لتخفيَ ضعفها وحزنها وهمومها ومشاكلها. كما أنّها تتميّز بالطّيبة “قلبي طَيِّب”، والوفاء إذ نجدها تدعو قليل الأصل إلى تعلّم الوفاء منها: “بلكي من أخلاقي قدرت/ تاخد بالوفا شهادي”. وهي جريئة وقويّة، جبل لا تهزّه الرّياح، وعزيزة النّفس أبيّة: “بِتباهى بعزِّة نفسي”.
وفضلًا عن ذلك، تبدو متمرّدة ثائرة، لكأنّها الدّفق الآتي من الماضي ليغمرَ الحاضر ويجرفه… ويبني للمستقبل، في رحلة البحث عن الإنسان الجديد.
فنراها تثور على الذي يهرب من مشاكله بدل أن يواجهَها ويعالجها، وعلى الذي غدر بها فتخلَّت عن كلّ ما يذكّرها به كي تصمت الماضي الذي تقول فيه: “شلَحتو دفنتو كيف ما كان”. ولمّا كانت قد دفعت ثمن علاقاتها ببعض النّاس من عمرها وتجاربها فقد باعت “بالبلاش” جميع النّماذج البشريّة المفتقدة إلى الأخلاق الحميدة، وفي ذلك دليل على قلّة أهمّيّتهم وقيمتهم لأنّهم لا يتمتّعون بالقِيَم الإنسانيّة. كما ونلاحظ ثورة على الكلمات التي يستعملها البعض بشكل عفويّ في محاولة لتهدئة الآخر، في حين أنّها تزيد من غضبه، مثل: “مَعليش، إهدا، روق…”.
كما تدعو إلى حبّ الذّات: “حِبّ حالك أوعا تحبّ/ حدا أكتر من حالك”، ما يجعلنا نعتقد أنّ النّرجسيّة طاغية عند الشّاعرة، لا سيّما وأنّها تكثر من استعمال ضمير المتكلّم المفرد، فنلاحظ مثلًا في قصيدة “بالماضي” تواتر الأنا: “أنا لْ جيت من مبارح… أنا كلّ المطارح… أنا اللي تسلّقت جبال… لكن أنا ألف لا… أنا الماضي تركتو يروح… أنا بلّشت من الأوّل… أنا صرت ببكرا الجايي”. غير أنّ نرجسيّتها طبيعيّة موجودة في كلّ فرد منّا، وقد وظّفتها في سبيل بناء سليم للشّخصيّة وولادة جديدة.
وتركّز روليت على أهمّيّة التّجارب في مسيرة الإنسان الحياتيّة، وعليه بالتّالي أن يتعلّم منها ويتغيّر كي لا يقع في الخطأ مجدّدًا، ولأنّها ذاقت مرّها في الماضي: “من كتر ما أكلت كفوف”، وتعلّمت الكثير من مدرسة الحياة، تغيّرت “أنا لْ جيت من مبارح/ ولولاها ما كنت اليوم”، ووُلدت امرأة جديدة مصقولة المشاعر، مسلّحة بالوعي والحكمة. لذلك تستوقفنا في الدّيوان بعض المحطّات التّأمّليّة الفلسفيّة تتمحور مثلًا حول حقيقة الإنسان والوجود ومعرفة الذّات كما نجد في قصيدة “عم يبرم فيّي” حيث تقول: “عم دوّر ع حالي مين/ كذبِه بهالأرض تخمين”، وفي قصيدة “مين أنا” حيث تصوّر الصّراع بين العقل والقلب. وتتناول في موضع آخر موضوع الوقت الذي يعبر سريعًا لحظات السّعادة، ولكنّه يلقي رحاله عندنا ساعة الحزن والمشاكل كأنّه يتمتّع بعذابنا: “دقيقَه بالوجع ساعَه/ وساعَه بالفرحَه دقيقَه”.
كما تتكلّم بلسان الإنسان الذي يشعر بالوحدة، وهي مشاعر تعكس حقيقةً قد تكون عاشتها الشّاعرة بحكم قساوة الغربة، فنستشفّ فراغًا كبيرًا يملأ أعماقها ويخفي وجعًا أكبر: “فراغي لْ محفور جوّا/ مبروز بوجع مخفي”. إنّها ضائعة في الكون، يحيط بها الفراغ، تبحث عن العواطف الصّادقة: الحنان عند “بيّاع الحنّيِّه”، والوفاء، والحبّ… وهي أمور يكاد يفقدها عالمنا: “لمّا بتفتِّش تفتيش/ عَ مشاعر عم بيبيخوا/ والحاضر يبقى تهميش/ دمعك تسمع صريخو/ مستحيل تكفّي تعيش/ بدوا خالص تاريخو”.
فنلاحظ أنّها ضمّخت عبير كلماتها بجمال الصّورة، وهل أقوى من الصّراخ للتّعبير عن شدّة البكاء؟! وليست الصّورة حكرًا على هذه القصيدة، بل هي تتناثر في الكتاب ندًى يبلّل أقاحيه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قولها مخاطبة الوقت: “منحسّ دعساتك هِديِت”، أو مخاطبة الموجة: “متل الطفلِه لَ إمّا/ بتعودي عَ البحر بشوق”، وكذلك قولها: “جبت من مبارح بكرا”، وغيرها الكثير.
وقد تبنّت في معظم قصائدها الإيقاع السّريع الذي يعبّر عن نفسيّتها الثّائرة والرّافضة، وهو ليس أمرًا سهلًا كما يعتقد البعض، لأنّه على الشّاعر أن يوجز الكثير من الأفكار في أقلّ عدد من الكلمات. ونوّعت في عدد من القصائد بين الأبيات الطّويلة والقصيرة، وذلك وفق التّجربة التي تعيش والحالة النّفسيّة التي تنقلها إلى القارئ، فإذا أخذنا قصيدة “تلقّست” مثلًا، نلاحظ أنّ الأبيات طويلة في المقطع الأوّل حيث يظهر عتابها ووصف معاملتها للحبيب، لتستمرّ طويلة في المقطع الثاني مع توزيع أقلّ لبعض الكلمات على الأسطر، وذلك بسبب تطوّر حالتها النّفسيّة، ما يجعلنا نلاحظ بداية انقلابها. وتستمرّ الحالة نفسها في المقطع الثّالث، لكنّ بوادر الغضب تبدأ بالظّهور وذلك من خلال توزيع الكلمات وتكسّرها على الأسطر:
“أصلًا أنا خلص
تعبت…
ملّيت!
ملّيت منّك…
ملّيت من سكوتي!”.
لتفجّر غضبها وقرارها بالفراق في المقاطع المتبقّية متبنّية الإيقاع السّريع.
كما نلاحظ ظاهرة التّكرار في مواضع عديدة، سواء كان تكرار سطر أو أكثر، وذلك أشبه بلازمة تضفي جوًّا موسيقيًّا على المقطوعة. وفي هذا الإطار لا يسعنا إلّا التّوقّف عند قصيدة “يا كاسر بخاطر إمّ” حيث تقول: “لمّا بتتوجّع بتنادي:/ آخ يا إمّي!/ وتكتر حولك الأعادي/ بتنده: إمّي! (https://swagatgrocery.com/) / لمّا الدنيي تغدر فيك/ لمّا نفسك بتعاديك/ وما حدا بيعرف شو فيك/ بتصرخ: إمّي!”. وهنا أترك للقارئ أن يلتقط بأذنيه أثر تكرار هذه الكلمة في نفسه.
روليت تلعب بالقوافي، بالكلمات، بالنّغمات، تقلّبها، تداعبها، تتفاخر في قصيدة “الكلمه” التي أعتبرها من أهضم القصائد وأنزّهها عن تمجيد الذّات، وأشدّ على يدها مبتسمة وأنا أرى أنّها شغلت آلهة جبل بارناس فتفرّغ الوحيُ لها: “كرمالي الوحي تفضّى”. تبني بيت القصيد بمعانيها الثّمينة، وسطورها مداميك البناء. لا يهمّها إن كسرت الأبيات وأطاحت بالعروض، لأنّها متميّزة متفرّدة همّها أن تعليَ البنيان. وقد لامست جميع العناصر التي تساهم في عمليّة الإبداع، فإذا بها تشعل الصّورة. ذلك أنّها تعرف أثر الكلمة في النّفوس: فهي قادرة على أن تدمّر كما أنّها قادرة على البناء، لذلك لا تريد من الدّنيا سواها: “بِقبل كلّ الدني تروح/ ويبقالي منها الكلمِه”.
صَدقتِ صديقتي، فالكلمة التي أملاها قلبك وخطَّها يراعُك ستبقى رغم أنف العمر الهارب. ستبقى إرثًا لأولادك وأحفادك وللأجيال اللّاحقة، مدرسة في القِيَم وفي أصول الحياة الاجتماعيّة، فقد وَلجتِ باب الخلود يوم أبصر “كَومة حكي” النّور.
مبارك لك مولودك البكر!