سجلوا عندكم

إنتاجية النقد في كتاب “إنتاجية الشعر” لـ رحمن غركَان

Views: 411

إبراهيم رسول   

للناقدِ رحمن غركَان طريقة جديدة أضافت للدرس النقدّي الكثير، فهو ناقدٌ معرفيٌ مُجددٌ ومجتهدٌ، وهو قارئٌ نوّعيٌّ للأدب شعرهُ ونثرهُ، إلا أنّه قريبٌ للشعر أكثر وقربه للشعرِ جعلهُ يتميّز بقراءاتهِ النقديّة المهمة، العيناتُ الشعريةُ الإبداعيةُ التي ينتقيها الناقد لمْ تكن عيّناتٍ عشوائيةٍ، فهي تمثلُ المادة الخام التي ستدخل مختبر النقد ليحللها ويشرحها ويفسرها ويبيّن مَدْلولاتها.

قد يصدق قول الشاعر في عيّنات الناقد رحمن غركَان حيث يقول الشاعر:

“قدْ عرفناك باختياركَ إذ كانَ/دليلًا على اللبيبِ اختيارهْ”.

نعم، يصحُ هذا البيت الشعري على اختيارات الناقد، فهو يختار التجارب الإبداعية التي لها الحضور اللافت والمميز والمهم في الشعرية العربية.

الناقدُ في هذا العنوان الجديد الذي يحمل التسلسل الثالث عشر من سلسلتهِ النقدّيّة الجديدة قرأ عينة شعرية لشاعرٍ استثنائيّ وغير نمطي وله الحضور المهم في الشعرية العربية الحالية، إذن، السؤال الأوّل هو عن طبيعة أو مقوّمات العينة التي أخذها الناقد عينةً لدراستهِ الموسومة بإنتاجية الشعر كعنوان رئيس ليذيّله بعنوان أسفله بخطٍ أصغر كأنّه يشرح أو يُفسّر العنوان الأصل فسمّاهُ “ممكنات القصيدة وإفاضات التأويل”، وهي بالأصل قراءة نقديّة في المجموعة الشعرية الموسومة بعنوان فنّيّ “طيورٌ تُحلِّق في المِصيدة” للشاعر جاسم الصحيح الصادرة عن دار صوفيا في الكويت للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة 2021 في الكويت.

في القراءات النقدّيّة التي نقرأها للناقد المهم والمميز الدكتور رحمن غركَان نجده يؤصّل لرؤىً نقديّة جديدة.

 

الناقد الذكي اللامع

إنّ طريقةَ الناقد في نقدهِ تعتمد على العيّنة التي هي المادة الخام في ابتكار المصطلح والنظرية النقدّيّة، فيأتي الناقد للعيّنة فيقرأها غير مرّة بلْ يُعيد قراءتها لعشر مرّات أو أكثر، وطبيعيٌ جدًا أنّ تُولّدَ هذه القراءات إنتاجات نقدّيّة وهو الناقد الذكي اللامع في التقاط هذه الإنتاجات أو قلْ المميزات المهيمنة في المجموعة الشعرية، وقدْ تتبعناه في سلسلتهِ حتّى العدد الثاني عشر فوجدناه يتناول المادة الشعرية فيقرأها مرّات كثيرة ولكن يلحظ بها أنّ ثيمةً مميزةً أو صفة تتميّز بها المادة كلّها فيأخذها إلى مختبرهِ النقدّيّ الواسّع فيتناولها قراءةً ودرسًا وتحليلًا، وهكذا كان في هذه القراءة التي عنون لها بعنوان لافت ومميز سمّاه “إنتاجية الشعر”، هذه الإنتاجية يُقدّم لها بأوّلِ الكتاب بمقدّمة ليعرّفَ القارئ رؤيته النقدّيّة في هذا المصطلح، فيقول: الشعر إنتاج فني خالص، وحضوره الأوّل في أشياء الحياة العاقلة التي تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق، وحضوره الثاني الصادر عن الأوّل والمتمكن منه، في موجودات الحياة وأشيائها الأخرى التي نزعم انحسار العقل عنها؛ إنتاجية الشعر من حيث هو إنتاج، حضور موجود، والإنتاجية من حيث هي؛ تمكّن الشعر، ازدهاره في الحيوات الأخرى، إلتفات الوعي إلى آثار مقرؤيته، تبدّياته الدائمة الاخضرار، تعدده في التلقي، أنسنته الأشياء، وتشييئهِ الإنسان بين يدي إبداع المعنى الشعري… (الكتاب: 9)

هذه البدايةُ الأولى التي يُقدّمها هي النوّاةُ التي نفهمَ من خلالها رؤيته النقدّية في قراءتهِ لهذه العينة، إذن في هذه المادة الخام ثمّة ميزة ابتكرها أو قلْ اكتشفها الناقد بوعيهِ النقدّي الذي يتميّز به.

طريقة علمية

إنتاجية النقد هي ذاتها إنتاجية الناقد، التي هي هنا د. رحمن غركان، هذا الناقد اعتمد طريقة علمية في قراءتهِ للعيّنات الشعرية التي صدرت حديثًا، هذه العيّنات من أوّل شروطها أن تكون جديدة، فهي إما تصلهُ مخطوطة أو بعد طباعتها بوقت قليل، كأنّ هذا الشرط هو لحداثة الدراسىة التي سيتناولها في المجموعة الاستثنائية.

فالقراءةُ بدأت عنده أوّلًا: اختياره للتجربة المهمة غير النمطية وغير التقليدية والمهمة في المشهد الأدبي العام، وثانيًا: قراءتهُ لمرّات عديدة للعينة الأصل ومن هذه القراءات العديدة يستخرج أو يبتكر المصطلح النقدّي الذي سيتناوله، وثالثًا، تناوله هذا المصطلح الذي أصّلَ له من المادة الإبداعية فيشبعهُ حتّى التمام، إذ لا يترك شاردة أو واردة تمسّ موضوعه إلا وأشبعها قراءة وتفصلًا، وهذا النهج تميّز به في كُلّ سلسلته النقدية.

يبتكرُ الناقدُ مصطلحه من ذات العيّنة الإبداعية، فيقدمُ التقديم التنظيري في أوّلِ فصولِ الكتاب ومن بعدها يجيء التطبيق وهذا نهجٌ ثابتٌ مهيمنٌ في نقد الكاتب.

ولعّلَ أبرز المقوّمات التي استند إليها الناقد المفكر في نقدهِ المثمر هذا تتلخص في الآتي، أولًا: قدرة العيّنة الإبداعية على الإنتاجية، ثانيًا: توفرها على عالم تجربة المبدع والنموذج المطبّق هنا هو “الشاعر جاسم الصحيح، ومجموعته الشعرية”.

ثالثًا: لا بدَّ أن يكون الشاعر تجربة ومعني بالإضافة ولهذا يخصّ الناقد هذه المجموعة من شعر جاسم الصحيح، وهو شاعرٌ ملتفت إلى التميّز وغير منحاز إلى التقليد، هذه المقوّمات هي التي اشترطها ابن غركَان في نقده لهذه العيّنة، فإن وجدتْ عيّنة تنطبقُ عليها ذات الشروط فيكون النقد يخصّها ويعنيها، هنا تأصيلٌ نقديٌ نافعٌ، من حيث وجود المادة التطبيقية ومن حيث التنظير النظري، فنقد الدكتور رحمن غركَان يستمد رؤيته من العيّنة الأصل وهنا يكون النقدُ نافعًا كون مادة فيها ماء الحياة التي هي العيّنة التطبيقية وإلا لأصبح النقد عبارة عن تنظير كلامي يموت بلحظةِ كتابتهِ.

ولهذا نجد أنّ النقد صار ينفع الشاعر كثيرًا ويقدم للمتلقي الفائدة أيضًا كونه يشترك مع المتلقي في تذوّق المادة الأصل، وهنا صار الشعر يشكّل من الأهمية ما يجعله عنصر تداول ودرس وتذوّق ومعرفة بين الجمهور، فوظيفة الناقد جعلت منه مادة مهمة ونافعة بلْ ربما تبدو ضرورية في بعض الأحيان، وهنا يسجّل للناقد هذه الميزة التي هي ماءُ المعرفة التي تبث للشعر حيوية وروح ندّيّة. فالإنتاجيةُ في الشعر تأتي بمعنى أنّها خلق وإبداعٌ (الكتاب: 193)، وهكذا لا بدَّ أن تكون العيّنة متجددة ومنفتحة على أبوابٍ التأويل المختلفة، وبهذا، فالمبدعُ يكون مضيفًا ومحاورًا ومستعيدًا ومجددًا، ذلك أن الشاعر الإستثنائي يقول الجملة كاشفًا عن أسلوب لا فت مستدعيًا قراءة أسلوبية فاحصة محللة دالة (الكتاب: 193).

طيورٌ تحلِّق في المِصيدة

مقياس كل منجز إبداعي يرجع إلى إنتاجيته (الكتاب: 19)، من هذه المقولة بدأ الناقد الدكتور رحمن غركان قراءته في المجموعة النوّعية للشاعر العربي المنتج جاسم الصحيح التي عنونها بعنوان فنّي بديع “طيورٌ تحلِّق في المِصيدة”، فإذا كانت الحبة إنتاجها السنبلة، والماء إنتاجيته ازدهارات الحياة، كل الحياة، فتكمن إنتاجية الشعر بتكامل مكوناته الستة ويعني بها الناقد: “المعجم والإيقاع والتراكيب والصور والبناء والمعنى الشعري” (الكتاب: 19)، فإنتاجية الشاعر اتضحت بهذه المكونات الستة التي جعلته يكون شاعرًا إنتاجيًا!

هذه القراءةُ هي مأخوذةٌ من عين المبدع الذي كان شاعرًا استثنائيًا بكلِّ تأكيدٍ، وجاءت قراءة الناقد فاحصة ومفكرة وكاشفة لهذا الجمال الفنّي البديع، فلولا إبداع وعقل الناقد ومرجعياتهِ الثقافية الكثيرة، لما استطاع أنْ يكتشفَ هذا الجمال الفنّي، فالعمليةُ محض إبداع سواء كان عبر الناقد أو الشاعر، فالناقد لمْ يمارسْ سلطة رقابية هدّامة ومنتقدة، بلْ كان يمارس التلقي الإيجابي الذي يتذوّق الجمال فيرشد إليه وينوّه به، وهذا ما وجدناه في هذه القراءة المتميزة من حيث تنظيرها النقدّي ومن حيث تطبيقها الإبداعي، فهي قراءةٌ نافعةٌ وعيّنةٌ ممتعةٌ. 

وطريقةُ الناقدّ د. رحمن غركان في سلسلتهِ الشهرية هي البحث عن اللافت والمميز والاستثنائي، وهذا ما لمسناهُ في كيّفيّة قراءته للعيّنة الأصل، لأنّ القراءة النقدّية ما لمْ تجدْ لها التطبيق الذي يتوافق مع التنظير تحوّلت إلى قراءة ميّتة ولا جدوى من وراءها، وهذا ما نأى به الناقدّ، لأنّ هذه القراءة تناولت إنتاجية المبدع عبر مكوناته الستة، وخلاصة الكلام أنّ الشاعرَ كان استثنائيًا بهذه المكونات الستة، فجاءتْ القراءة تبحث في جمالية هذه المكونات التي تجلّت الإنتاجية فيها بصورٍ كثيرة.

هذا النوعُ من النقدِ هو الذي يحتاجه المبدع والقارئ على حدٍ سواء، أيّ أنّه ليس كلامًا وتنظيرًا فحسب، لأنّ فكرة القراءة قائمة على إنتاجية نقدّيّة لا تقلّ أهمية أيضًا عن إنتاجية المبدع.

 

الإنتاجية المبدعة

الإنتاجية التي عنوّن بها المقالة هذه، هي الإنتاجية المبدعة التي اكتشفت جواهر الإنتاجية الشعرية، هذه الإنتاجية النقدية هي قراءة الناقد للعيّنة الشعرية، فهي كلّ المرجعيات الثقافية والمعرفية والأدبية التي اجتمعت في عقل الناقد ليمارسَ نقده بهذا العمق وهذا التجدد، فالناقدُ يتشابه مع المبدع في ذات الجمال وذات الإبداع، وهذا التوّهج النقديّ جعل من القراءة متسّمة بالفنية مع اتصافها بالمعرفة.

إنتاجية النقد هي الرؤى العميقة في قراءة النص الإبداعي، أو قلْ أنّها شخصية الناقد المجدد الذي يُنظّر على أرضية ليّنة خضراء فيها روح وفيها ماء، هذه التنظيراتُ التي يأتي بها المنتج الناقد هي تنظيراتٌ تُعطي للنص الإبداعي الشيء الكثير من الفائدة والمنفعة والتطوّر، هي إنتاجيةٌ مثمرةٌ في كلّ قراءةٍ تقرأها كونها تعتمد على الوعي المعرفي في القراءة وعلى مرجعيات ثقافية واسعة، فأنت تجد أنّ المعجم النقدّي عند د. رحمن غركان هائل وواسع وكثير! هذه الكثرة لا تُكرر نفسها، بلْ هي كثرة تجدد وكثرة انفتاح على النصوص، ولمّا كانت كذلك تجدها ذات نفع وذات ثمر.

لعّلَ إنتاجية الناقد تبدو هي الأصل إذ لولاها لما عرف المتلقي إنتاجية المبدع، كون الناقد قرأها العيّنة قراءات كثيرة فوجد أنّه لا بدَ أنْ يأتي بقراءةٍ غير نمطية ومتخصصة فجاءت هذه الدراسّة إضافة مهمة للدرس النقدّي.

المحصّلةُ التي نخلص إليها في كتاب إنتاجية الشعر هي: أنّ القراءة كانت جديدة والتنظّير رائعًا والتطبيق على العيّنة كان بديعًا، والقراءة جاءتْ من عين الإبداع، أيّ أنّ النقدَ استعملَ العيّنة الشعرية فجاء النقد على ضوءِها وكأنّ الناقد يعتمد على التطبيق، وهنا تبدو شخصية الناقد بأنّها كاشفة للجمال ومُرشِدة إليه، ولولا الكم الهائل من الوّعي النقدّي والثقافة التي أمّدت الناقد لما خلُصَ إلى هذه الدراسّة الجديدة، فالعواملُ التي أسهمت ابتكار هذه الإنتاجية هي عوامل كثيرة وكثرتها واضحة عند الشاعر والناقد.

تبقى هذه القراءات الجديدة المهمة في الدرس النقدي مثمرة ما دامت تقوم على المادة الإبداعية كأصّلٍ لكلّ هذه الرؤى النقدّية، فنحن أمام قراءات موّسّعة في الحقل النقدّي، وهذه القراءات تحتاج إلى نُقاد آخرين يطبّقون هذه الرؤى على عيّنات أخرى قدْ ينطبق عليها أو لا ينطبق هذا التنظير النقدّي. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *