سجلوا عندكم

“طريق الشمس” لعبد المجيد زراقط…الاحتجاج وجمالياته الروائية

Views: 813

الحسام محيي الدين 

يجدِّد عبد المجيد زراقط  كتابة الذاكرة الوطنية اللبنانية، من طريق صدور هذه الكتابة عن مرجعية واقعية تتمثل في الحياة المعيشة، في لبنان الجنوبي ( جبل عامل تاريخياً )، في اَونة من الزمن تلي هزيمة ١٩٦٧، وصولاً الى ما قبل نشوب الحرب اللبنانية، في نصٍّ سردي يكشف مساراً تاريخياً أفضى الى قيام هذه الحرب.

هذا النًّصُّ السردي الجديد هو “طريق الشمس”، الرواية الصادرة عن دار البيان العربي، بيروت طبعة أولى، سنة 2022.

ترسم هذه الرواية أفقَ احتجاجٍ عنيف على واقع التخاذل العربي في مواجهة العدو كائناً من كان.

يتمثل هذا الاحتجاج  في نصٍّ روائي يتصف بجماليات روائية، قوامها بنية روائية دائرية، تبدأ بفصل يروي قيام العدوِّ الإسرائيلي باجتياح لبنان الجنوبي، وخروج كمال الساهر وهو شخصية روائية رئيسية ،إلى حيث يؤسس مع الشباب للبدء بمقاومة الاحتلال، وخروج حبيبته منى رشيد من قريتها،قبل وصول جنود الاحتلال إليها، وتنتهي بمواصلة عمليات المقاومة وزواج الحبيبين.

في سياق هذه القصة الإطار،تُروى حكاية الواقع اللبناني، التي تجري بين قرية جنوبية حدودية وبيرت،  في هذه الاَونة الزمنية، من تاريخ لبنان، وفي مسار قصة حبٍّ بين حبيبين مختلفي الطائفة.

تشكِّل هذه البنية تقنية روائية تجريبية، تتمثل في أن يودع كمال الساهر أوراقاً كتبها هو ومنى لدى صديقه وزميله سميح الصافي، ويطلب منه أن يكتب هو مايعرفه، فيفعل ذلك، فيتعدَّد الرواة، وتتشكَّل بنية روائية يتعدَّد رواتها/ أصواتها ، ويتكسر زمنها ويتقطع.

تنطق هذه البنية الروائية بأفق الاحتجاج الروائي، مايفتح باب الأمل بالتحرير وقيام النظام الصالح،يفتحه أولئك الذين يصنعون المستقبل بدءاً بالتأمُّل  التفكيروالحلم، فالرفض والتمرد،  ثم بالممارسة والعمل على الأرض.

هذه الرواية هي الرواية الرابعة للروائي اللبناني تنتظم، في سياق  مشروعه الرائي  الى واقع يحكمه سلطانٌ مستبدٌّ فاسدٌ، وينشط فيه العميل أو الخائن، ورجل المخابرات السيِّئ الممثل للنظام الحاكم.

 

هذه الثلاثية مستفحلة في تاريخ المجتمَعَين :  المحلِّي والعربي،أدَّت إلى أن يحيا المواطن العربي بؤس،الواقع ، وخصوصاً في مرحلة شهدت هزيمة عام 1967وما بعدها.

يركِّز الروائي، في قصِّه، في الاَونة التي تلت الهزيمة، على حركة المقاومة الفلسطينية، ونشاطها، وقتذاك، على الحدود اللبنانية الجنوبية، وقيامها بعمليات ضدَّ العدوِّالإسرائيلي، إضافة إلى ما رافق ذلك من صراع عقدي بين اليمين واليسار، في لبنان، عطفاً على الاختراقات الأمنية للداخل اللبناني من كافة أجهزة الاستخبارات، عربية ودولية، وحيث لم يكن الجنوب، آنذاك، يملك من مقوِّمات الصمود شيئاً يُذكر، في مواجهة الهجمات الاسرائيلية عليه، ضدَّ المقاومة الفلسطينية والمقاومين الوطنيين. 

الزمان الذي تجري فيه الأحداث هو  ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية،والمكان هو الجنوب اللبناني الذي لا يفارقه زراقط  بوصفه مرجعاً لرواياته،  حيث  يخوض ” كمال الساهر” اليساري المثقف والمعلمة “منى رشيد”،وهما من طائفتَين مختلفتَين، وفي مدرسة  قرية حدودية مع فلسطين، معركة إثبات الهوية الوطنية على جبهتين : الأولى مواجهة العدو وتحرير الأرض، والثانية : تحقيق العدالة الاجتماعية بمختلف وجوهها، وذلك بمواجهة الثلاثي : السلطة المستبدة الفاسدة، ومخابراتها،وعملاء اسرائيل.

 تجري هذه المواجهة  بالتلازم مع قصة حبٍّ جارفة جمعت كمال ومنى  بقوَّة، ونسفت أقاويل وترهات الاختلاف المجتمعي بين طائفة وأخرى.

يبسط زراقط رؤية فنية عضَدَها  حُسْنُ المصادفة مع ما نعيشه توّاً في لبنان سياسياً واجتماعياً في ظل طبقة حاكمة طبّق فسادُها الآفاق، فيفتح الباب على سؤال وجودي كبير جداً يمهّدُ فيه لعقلية جديدة في إعادة تفسير المبادئ الشائعة والشعارات الزائفة، مضمونه أنه ما الفرق بين أيّ  طرفٍ من أولئك الثلاثة في خطورتهم على تحرُّر المجتمع والحدِّ من تطوُّره إلى الأفضل؟ فالعميل بخيانته الوطن لا يقل سوءاً وضرراً عن  الزعيم السياسي بشجعه وظلمه وسرقته مقدرات البلاد والعباد، ولا عن رجل المخابرات الذي يمثل السلطة الفاسدة،ويترجم جورها وتفنُّنهافي سحق آمال الناس ووأد مطالبهم في حياة كريمة وحرية وتعليم واستشفاء وعمل.

في الوقت الذي يعاني فيه الناس من هذا الواقع، يقوم العدو الإسرائيلي المحتل بالقتل والتدمير والتهجير…، فيشرِّد إخوة لنا صباح مساءعلى امتداد الأراضي العربية المحتلة. في  هذا الواقع، يؤمِنُ كمال ومنى بأنَّ ما يفعلانه هو استكمال طريق الأجداد في مقاومة الغزاة، منذ أن احتلَّ الصليبيون بلادنا، وبأنَّ لهؤلاءالغزاة دائماً ركيزة في الداخل هم العملاء ويتمثلون، في هذه الرواية،  في ” سرحان ذيب” العميل الاسرائيلي الذي يستدرج بالكلام دائماً “سميح صافي” المدرس المناضل  ليتحرى عن أحوال صديقه كمال ونشاطه في تجميع قوى الشباب من حوله لبناء مقاومة ضد العدو، والتي بدأت فعلا في عملياتها الاستنزافية في تلك الاَونة .

في الجانب الاَخر، كان  مدير المدرسة والناظر العميل  وقاسم حمّاد، وهورجل البيك، وآخرون معهم، الفريق المناوئ للمقاومين،والمتواطئ على أهل القرية الشرفاء، والمعادي للمبادئ الوطنية، المحاول، إضافة الى خدمته للثلاثي المذكور اَنفاً،  تشويه صورة كمال والايقاع به في غير موقف، للإيحاء بإخفاقه في التدريس، من طريق رفع تقارير دورية بحقه إلى المسؤولين لنقله إلى قرية بعيدة، عطفاً على شيطنة صفاته وسمعته أمام حليم رشيد والد حبيبته منى، ومن الباب الطائفي تحديداً لكونه المسلم الذي أحبّ مسيحية، ودائماً بالتعاون مع “البيك” الفاسد المفسد ورأس المرتشين الذين لا تنتهي موبقاتهم وشرورهم من استقبال هدايا أولياء الطلاب لإنجاح أولادهم، إلى احتلال بعض منازل أهل القرية بدعم “اسرائيلي”.

 

في سياق هذا القصِّ لرواية الواقع الراهن ، تنتظم قصص تمثل الواقع التاريخي، فتتشكل ثنائية تعاضد تفيد خطاباً سائداً في هذا الفضاء الروائي هو: ” حفر أجدادنا وآباؤنا الصخر ليبقوا في هذه البلاد ويعمروها ويحموها، وعلينا نحن الواعين أحوال واقعنا أن نواصل طريقهم.. طريق الحياة، طريق الشمس، لمقاومة عدوِّ الشمس “.

كما تنتظم، في سياق القص،عناصر قصصية : حكايات وتداعيات إنسانية عفوية متدفقة، وأشعار، وحِكم،وقصصُ حبٍّ عذبة، رفدت جميعها القضية  الرئيسية في الرواية.

تشكلت بنية هذه الرواية  في سياق زمن روائي محبوك،وحيِّز مكاني / فضاء روائي دالٌّ وخلَّاق للمعنى، يحكم بناءه روائي مُتمكن،بلغة روائية بسيطة، لاتخلو، في حالات تقتضي ذلك، من لغة شاعرية.

والملاحظ هو انتظام مايمكن تسميته  بـ “الأنتروبولوجيا”، بمعناها العلائقي بين الناس في الخاص والعام، في السياق الروائي. ويمكن للقارئ أن يرى، في هذه الرواية،  وثيقة فنية مدينية جديدة تمثل الواقع اللبناني الجنوبي، الواقف دائماً في مواجهة المحتل الاسرائيلي، عدوِّ الشمس ونقيضها.

في هذا الفضاء،  تتعدد الأصوات الروائية، لكننا نحسب أنَّ زراقط ينكشف دائماًعلى انحياز واضح لتقوية أحدها، أو بعضها، بالامتلاء العقدي، وإضعاف الآخرين بتفريغهم أو تهميش محتواهم الفكري، في تقنية سردية، كي يؤكد انبثاق روايته من منظور روائي يشكل البنية السردية ويحكم بناءها.

يتناوب الرواة  القصَّ بجرأة وعفوية وصراحة،وبمناسبات مختلفة، في خطٍّ مُتكسّر زمنياً بتقنيات الاستباق والاسترجاع والانحراف المتكرر للسرد، من ذكريات إلى وصف أو تأملات أو تعليقات، مما تحتاجه فنية السرد في نمو الحبكة ونمو الشخصيات وتعميق الرؤية حتى توليد الدلالات المتوخاة المباشرة للصدق الروائي الذي تنهض عليه الرواية، ومفادها أن حركية السرد يجب أن تتوافق مع حركية المجتمع وتطوره وتغيره إلى الأمام، لا جموده وتلبُّثه في مكانه.

***

*كاتب وناقد، لبنان

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *