بائع الشّاي (أقصوصة)
هدى عيد
جلس الفتى “شِبل” على كومة حجارة في منتصف الطّريق. انطلق صوته مناديًا بفتور: “تعالَ اشرب أطيبَ كاَسة شاي”. كان المارّون يعبرون بسرعة، وكأنّ أحدًا ما يلاحقهم. يتطلّعُ شبل باستكانة إلى كلّ الخراب الّذي اكتسح المكان. ينتظر بيأسٍ زبونًا يسقيه كوبًا من الشّاي. أخوته الصّغار جائعون. تأمّل بأسىً الأسقُفَ الّتي كانت عالية. كلّها انهارت، وصارت شِبه ملتصقةٍ بأرضيّات المباني المهدّمة. قضبان الحديد نفرت بقسوة، من أكوام الرّكام، وبرزت ملطّخة بالدّماء، وبالغبار. رأى ملابس ممزّقة تنتشر في أنحاء المكان، فشعر بصدره يضيق للحظات.
نظر من جديد ناحية اليمين، حيث أمضى سنوات عمره القليلة السّابقات. معالم دكّان أبيه قد غامت تمامًا. بقي منها فقط كلماتٌ مسحَ عنها الغبار مرارًا وتكرارًا، حتّى يتمكّن العابرون من قراءتها ” مقهى اسماعيل الغزّي”. صمتٌ قاسٍ يلسعُ أذنيه، أين اختفت كلّ الأصوات المنادية الّتي كانت تطالبه سابقًا، بشاي أبيه الّلذيذ؟ وكيف كان هو يستطيع أن يلبي بجسده الصّغير، كلّ تلك النّداءات تتالى على مسامعه، في الأمسيات الّتي تضجّ بالزّبائن، وبجميل الكلام؟
استراح إلى أفكاره تلك مستأنسًا بذكريات الماضي القريب. لكن لمَ لا يشتري أحدٌ منه الآن الشّاي؟ أخوته الصّغار جائعون. فجأةً لمح وجه أبيه يبتسم له، رآه من بين موجات الغبار الّتي تثيرها أقدام العابرين، بل شعر بيده تربّت على كتفيه بحنو غريب. أحسّ بماء حارّ ينساب بحرقة على خدّه المتسخ. لا ماء يغتسل به منذ أيّام، وربّما منذ أسابيع. تابعت اليد حركتها المواسية له، فشعر بفزع مباغت. رفع رأسه إلى الأعلى. كان رجلٌ لطيف يربّت على كتفه بأناة، وبهدوء. أحسّ به قريبًا كأب، فسمح لدموعه بأن تنساب بحريّة. سأله الرّجل بتودّد، وباستغراب: ” ماذا تفعل يا ولدي وسط هذه الخرائب؟ “
أجابه الفتى، وقد التمعت نظرةُ كبرياء في عينيه: ” أحرُسُ الدكّان حتّى يعودَ أبي، وأبيعُ الشّايَ عسايَ أطعمُ أخوتي الصّغار، هل تريد يا سيّدي، كاسةً من شاي أبي الّلذيذ؟