سجلوا عندكم

ثالث الرحابنة

Views: 197

د. جان توما

حضر إلياس الرحباني، ثالث الرحابنة، أثناء عرض الفيلم/ التحيّة له بين الحاضرين بدعوة من جمعية واحة الفرح  للعناية بذوي الاحتياجات الخاصة شمالًا. يكمن جمال الفيلم أنّه أدّى طقوس رتبة الحضور بامتياز، فلم تَسُد مساحات الغياب، ولم تتخايل بيداء اليباب، بل كان نبض الحاضرين متوترًا في سكينة الذكرى، فيما لم تكفّ الراحات عن التصفيق، والأفواه عن ترداد مطالع الأغنيات التي مرّت فرحًا في سياق أرشفة الفيلم.

الفيلم سيرة ذاتيّة من توقيع غسان الرحباني المهتم بكلّ التفاصيل، من إخراج فيروز سرحال، وفي الوقت نفسه هي سيرة غيريّة للمبدع إلياس الرحبانيّ، وهذا مستحبّ أن يتداخل الموقف الشخصيّ مع موقف الآخر في محطات قد تعبّر عن هذه النظرة لمفاصل أساسيّة يراها الناظر من الخارج بمحبة إلى مسيرة مبدع، أو أديب، أو فنان.

هذا فيلم يردّك إلى الزمن الجميل، زمن الكبار الذين غرسوا فأينع غرسهم، واستقى من هذه الثمار فنانون كثر، في محاولة لترجمة جماليات ذلك الزمن بلغة اليوم، فيما نشهد في الفيلم عبور الأزمنة في أعمال إلياس الرحباني، في قراءة الآتي، في مزجه بين الليالي اللبنانيّة والموسيقى الغربيّة، كما في نجاحه بغناء المطربة صباح باللغة الفرنسيّة، أو في اقتحامه بسامي كلارك وغيره المجالس الغنائيّة العالميّة، ما أسهم في نيله الجوائز الأولى تقديرًا لهذا الفنّ السابق زمانه، والعابر للمستقبل الفنّي الذي استشرفه إلياس الرحباني في سعيه الموسيقيّ.

هو فيلم يبدأ بسيارة تجوب الدروب العتيقة ويعرض” أجمل أيام حياتي” الفنية، فيما تغرورق الأعين ب ” دمي ودموعي وابتسامتي” على إيقاع كمنجة” عازف الليل”، ورفّة جناحَي” طير الوروار” في هذا الفضاء الذي يشبه” الأوضة المنسيّة”، حيث أطلّ إلياس الرحباني من ” نافذة العمر” محييّا ومناديا” قلو لا ينساني”.

لم تغفل أحداث الفيلم الطرافة المعهودة لإلياس الرحباني، وهي باب من أبواب العبور إلى سلاسة اللحن ورقّة الإحساس، فهو كان كالأيائل يطفر من جلّ الأغاني السياسيّة إلى جلّ الإعلانات الدعائيّة ليطال نجوم السهر في عتمة الليل قبل ما يـ” طلع الضو ع الواوي”  .

من الواضح في كلّ هذه المسيرة أنّه لم يعش في جلباب أخويه عاصي ومنصور، وإن كان معجبًا بهما وبتراثهما الثريّ في المدرسة اللبنانيّة الغنائيّة.

يكتشف متابع تفاصيل تركيب الفيلم، أنّ الشخصيّة المفصليّة غير المنظورة، هي زوجته ” نينا”، اللحن الذي تمتمه في سرّه، والقصيدة التي سكنت ديوانه، والوتر الذي ظلّ يعزف عليه حبّه لرعايتها له. غابت عن الفيلم ولكنّها كانت الفيلم والبيدر الذي أفرز مقوّمات تفاصيل هذا الشريط الأرشيفيّ الضّاج بالحياة والحضور، الآسر لمبدع من لبنان، بلمساته الموسيقيّة وإبداعاته التأليفيّة المدوزنة. تكتب ” نينا” في نهاية الفيلم: “لم يعد يعني لي لا الوقت ولا الرحيل”، ربّما لأنّها تعرف أن إلياس هو الوقت، وهو الرحيل وحقيبة السفر الجاهزة، والموّال المجروح عند رصيف الغياب.

من هنا يصمت الفيلم في نهايته، ولا تظهر إلّا الأحياء الخالية من الأحياء. تطلّ الأبواب والدروب والنوافذ وحيدة، ولا يبقى إلّا الأمكنة الخاوية فيما تتأفف الصور على الحيطان من طول الانتظار ذكرى، كناقوس يدقّ في عالم النسيان.

انتظرَ إلياس فترة قبل أن يستيقظ في ذلك الصباح، يرتدي ثيابه، ينتظر هنري زغيب ليأخذه إلى عاصي ومنصور، لذا تترجل سائقة السيارة في نهاية الفيلم من سيارتها مع الراكب، يسيران في الدرب الترابيّ، يواصلان المسيرة، ويبقى إلياس الرحباني الدرب التي خطّها. تأخذنا الدرب إلى البراري الجميلة، والكروم، وأسوار الضيعة العتيقة لنهزّ “كبوش التوتة”، ليحلو الزمان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *