وثائق ومعلومات تاريخية نادرة عن بطل لبنان يوسف بك كرم
المحامي شارل ي. ابي صعب
(خاص موقع “ألف-لام”)
في خطوة جديدة أعادت البطل اللبناني يوسف بك كرم إلى واجهة الاهتمام، أصدر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي مرسومًا بطريركيًّا عيّن بموجبه لجنة مؤلفة من أساقفة وكهنة لدرس إمكانيّة فتح دعوى تطويبه.
وجاء في المرسوم البطريركي: “بناءً على طلب أخينا المطران جوزف نفّاع، نائبنا البطريركي العام في إهدن-زغرتا، مع كهنة الرعايا بتاريخ 7 حزيران 2023 ملتمسين السماح لدرس إمكانيّة فتح دعوى تطويب يوسف بطرس بك كرم (1823-1889) المتوفّي في رائحة القداسة. وبعد تداول آباء السينودس المقدّس هذا الأمر، كان القرار بإنشاء لجنة تدرس هذه الإمكانيّة، وتقدّم لنا تقريرها في الوقت المناسب”.
من جهته، أكد المطران جوزيف نفّاع، أن “السرعة في قبول فتح ملف دعوى تطويب يوسف بك كرم تم بفضل جهود المهتمين وصلوات الناس، مشيراً إلى عدد من النقاط المهمة التي اوصلت الملف الى ما وصل اليه وبهذه السرعة غير المتوقعة. وأضاف: “بعدما تم تشكيل لجنة لهذه الغاية، انشأت لجنة عمل تدأب يومياً على دعم وتكوين هذا الملف بكل ما يلزم من مستندات ومن ضمنها الدكتور اميل عيد البروفسور في الجامعة اللبنانية الذي ابدى كل رغبة وهمّة في هذا المجال فهو يعمل ١٥ ساعة يومياً على هذا الملف”.
وعن الاسباب التي دفعت الى فتح ملف دعوى التطويب واشكالية كون يوسف بك كرم “محارباً” فكيف يكون قديساً؟ اوضح نفاع “ان يوسف بك كرم لم يكن يوماً معتدياً على احد انما كان مدافعاً عن اهله وارضه ووطنه والدفاع عن النفس حق مقدس، وهنا الفرق كبير فهو لم يختر القتال من اجل ازهاق الارواح وانما فرضت عليه للدفاع عن اهله وارضه ووطنه”.
وعن التحديات التي تواجه هذا الملف، قال: “اكبر تحد يواجهنا في هذا الملف هو تجميع ارشيف بطل لبنان يوسف بك كرم لأن لديه ارشيف كبير. فنحن نعمل بطريقة علمية ودقيقة من خلال لجان اختصاص. وهنا لا بد من التنويه بالمجهود والدعم الذي يقدمه المونسنيور اسطفان فرنجية في هذا الاطار”.
اما عن الغاية والفائدة من ملف تطويب شخصية مدنية بمواصفات يوسف بك كرم، فقال: “تمنياتنا ان يرتقي يوسف بك كرم الى مصاف القديسين لأن في ذلك اكبر درس لكل لبنان بأن السياسة هي لمصلحة الناس وليست للمصالح الشخصية، وأن القائد المسيحي عليه أن يتخذ شعار يوسف بك كرم “فلأضح انا وليعش لبنان”. وختم نفّاع: “انا على يقين بأننا ومن خلال متابعتنا لأرشيف يوسف بك كرم سنكتشف فضائل كثيرة كنا نجهلها وبأن الله سيسّرع دعوى التطويب بفضل جهود المهتمين وصلوات الناس”.
كتاب “لبنان ويوسف بك كرم”
امتاز يوسف بك بالبسالة وعلو الهمة وبعد النظر. وتفرّد بالمروءة والوطنية والاستقلال. فطارت شهرته وملأ ذكر شجاعته الافواه والاسماع. حتى صارت كلمة “بطل لبنان” علماً خاصاً يُعرف به دون سواه. ولا نغالي إذا قلنا إنه كان وحيد دهره. وفريد عصره ومصره. ظهر في لبنان فكان من أعظم حماته واكبر ابطاله. ولم يزل يجاهد في سبيل بلاده حتى قضى شهيد الواجب وذهب ضحية الوطنية.
هذا ما سطّره المؤرخ الخوري اسطفان البشعلاني في كتابه القيم التاريخي عن نشأة يوسف بك كرم وشهرته وجهاده في سبيل لبنان والثورة التي قادها حفاظاً على بقاء هذا البلد وديمومته، اضافة الى آثاره الأدبية ومذكراته ورسائله ومشاريعه، والذي دعاه “لبنان ويوسف بك كرم” حيث كتب بخط يده المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب العديد من الفوائد والملاحظات التاريخية عن هذا الكتاب، اضافة الى وضعه فهرساً للرسوم النادرة، وفهرساً آخر لبعض المواد المهمة التي وردت فيه ايضاً.
بل اكثر من ذلك، فقد ذكر المؤرخ أبي صعب مراجع عدة موثقة عن يوسف بك كرم ننشر بعضاً منها، وهي ذات فوائد جمة نظراً لما تحتويه من وقائع تاريخية ومعلومات غنية بالمصادر. وقد خطها بيده المؤرخ ابي صعب على الصفحة الاولى من تاريخ “لبنان ويوسف بك كرم”:
1- كتب صاحب مجلة “الحارس” امين الغريب في عددي ت1 – ت2 1932 السنة العاشرة كلمة عن يوسف بك كرم واتبعها بمقالة عن كرم لعيسى اسكندر المعلوف كان استنسخها عن مؤلفها يوسف ابي فاضل من عين عنوب… ثم خطاب المطران مبارك في ازاحة الستار عن تمثاله في اهدن. ورواية شهيدة العفاف ويوسف بك كرم نقلاً عن جريدة العلم… وذلك من صفحة 51 الى 83 من الحارس.
2- ثم ان عادل بن منح الصلح نشر كتاباً سنة 1966 عنوانه “سطور من الرسالة” او تاريخ الحركة الاستقلالية التي قامت في بيروت ودمشق 1877 وطلبهم تولية الامير عبد القادر الجزائري اميراً على البلاد العربية. وقد ايدّ هذه الحركة يوسف بك كرم بانضمام المسيحيين الى الوحدة العربية الكونفيدرالية برسائله التي ارسلها الى الامير عبد القادر ونشرها الكتاب المذكور… وقد قرظت مجلة “الصياد” في 16 حزيران 1966 عدد 113 هذا الكتاب بارزة مقاصد يوسف كرم الحقيقية وبكشف النقاب عن ثورته القومية ومفهوم زعامته الحقيقية وبعد نظره مدركاً لمعاني الحرية والحق والاستقلال والمساواة.
3- طالع تقريظ هذا الكتاب المجلة البطريركية 1931: 305 و 354. ومما جاء في هذه المجلة ان كرم لما ترك لبنان لم يصحبه من رجاله سوى اربعة خلافاً لما ورد في تاريخ البشعلاني هذا انهم كانوا ثمانية ص. 496.
4- قرظت مجلة المعارف السنة التاسعة 1926: 162 ودعته “تاريخ المسألة اللبنانية “…
5- راجع مجلة المشرق المجلد 23: 875 والمنارة 2: 716 حيث انتقدتا تاريخ لبنان ويوسف بك كرم.
6- وفي الصفحة 449 من كتاب لبنان ويوسف بك كرم والتي تعود الى الفصل الخامس منه، تناول المؤرخ البشعلاني تفاصيل الموقعة الخامسة وهي موقعة وادي النسور او عيناته (الخميس 22 آذار 1866 م). يضيف المؤرخ ابي صعب عن الامير سلمان الحرفوش وهو امير شيعي من بعلبك وكان حاكماً على اقطاعة سهل بعلبك وقد اعطاه يوسف بك كرم مبلغاً كبيراً من الذهب لينفقه على حاجاته، ولم يطل الأمر حتى غدرت به الحكومة العثمانية واعدمته.
فلقد دون المؤرخ ابي صعب بخط يده على الصفحة المذكورة (449) ما حرفيته:
“طالعنا في كتاب حفيف الارز ليوسف ايوب الحتي المطبوع في ريو دي جانيرو ص 63 و ص 118 عن الذي وشى بالأمير سلمان هو حسن درويش. والحكومة التركية قتلته بنزع خصيتيه ومقتله كاد يؤدي الى حرب بين فرنسا وتركيا لأن الامير لما دخل السجن طلب مساعدة القنصل الفرنساوي في الشام لانه من اعوان يوسف بك كرم، فاحتج القنصل وطلب عقاب السجناء وباخراج جثة الامير ودفنها باحتفال لائق”.
وثيقة تاريخية عن يوسف بك كرم
تكتنز مكتبة المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب بين وثائقها التاريخية، بوثيقة تبين كيفية اجراء الصلح بين يوسف بك كرم وبطرس بك حنا ضاهر يعود تاريخها الى سنة 1857 في دير مار قزحيا بحضور البطريرك بولس مسعد وازالة الخلاف الذي حصل بين اهالي بشري واهدن، وهي محفوظة في الصندوق رقم 1 – الغلاف رقم 3 – وثيقة رقم 3 – من الحجم الوسط (طول 20 سنتم × عرض 10 سنتم) مال لونها الى الاصفرار لقدم عهدها ننشر ما ورد في مضمونها حرفياً:
“غب لثم اناملكم الطاهره والتماس صالح ادعيتكم البارة وفرط لواعج الاشواق الوافرة للحظوى بمشاهدتكم الكريمة في كل خير. وسؤال كريم خاطركم نسأل الله ان تكونوا حايزين تمام الرياضة انه لقد بلغنا خبر توفي المرحوم عمكم الخوري حنا وقد غمنا ذلك جداً اولاً لفقده ثانياً لتكديركم وانكسار خاطركم لكن من حيث ان الموت هو كاس لا بد من شربه والمرحوم قد كان متصفاً بالخصال الحميدة فلا يجب الحزن لفقده بل يجب التسليم لمشيئة الباري والرضا بأحكامه ونتمنى ان يكون تغمد نفسه الاحضان الابراهيمية صحبة الابرار والصديقين وان يكون العوض بسلامتكم وسلامة انجاله وان يكون خاتمة لاحزانكم ونحن بوقته موجودون بدير قزحيا بخدامة غبطته وسيادة مطراننا لانهما متعاطيان قضية الصلح بين اهالي اهدن وبشري وقد حضر جناب البيكان يوسف كرم وبطرس حنا ضاهر وتصالحا قدام عبطته في عين بقرة من سبعة ايام والآن صايرة المباشرة التقرير عن المسلوبات من الطرفين تحت الحرم الكبير المحفوظ حله لسلطان غبطته ليكون التقرير الواقع كما وكيفاً دون زيادة ولا نقصان وقد رجع الخوارنة الذين كانوا في بشري ومعهم القوائم التي يبان انها ليست بباهظة بل بموجب الحق وهذا المساء كنا موعودين برجوع الخوارنة الذين كانوا باهدن فما رجعوا والباين ان هؤلاء قروا بكل شيء وهو محفوظ فلذلك صاير الامل الكبير بالصلح الصحيح لاظهار مسارات الحب من الطرفين فهذا ما لزم راجين اتحافنا ببث انشراحكم ودام بقاؤكم.
23/ت1/57 م أخوكم
الخوري يوسف الدبس
وقد خطّ المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب على ظهر هذه الوثيقة ما حرفيته:
“رسالة من الخوري (المطران) يوسف الدبس لاحد كهنة فغال يدعى القس اغسطين ابي صعب اللبناني كما رجّح لنا نسيبنا الخوري حنا شديد الفغالي يعزيه بموت عمه الخوري يوسف حنا بطرس ابي صعب كان غنياً وجيهاً محترماً ثم يخبره عن اجراء الصلح بين يوسف بك كرم وبطرس حنا الضاهر من بشري، اي تصالح اهالي بشري واهدن 1857”
(طالع كتاب لبنان ويوسف بك كرم للخوري اسطفان البشعلاني ص 236 عن خلاف بشري واهدن).
الخوري يوسف ابي صعب
الحوادث المشؤومة بين اهدن وبشري
يؤلمنا كثيراً وايم الحق ان ندون الحوادث المشؤومة التي حصلت في العصور الغابرة والسنين الاخيرة بين شعبين شقيقين اشتهرا بالبسالة والوطنية وقامت على مناكبهما دعائم الدين والاستقلال، وامتزجت دماؤهما في الحروب التي خاضا غمراتها دفاعاً عن الوطن والامة المارونية. وهذه الحوادث منها ما كانت وليدة الصدف ونتيجة جهل غاشم ابتلي به بعض الجهلة من البلدتين الشقيقتين، ومنها ما اضرمت نارها الايدي الاجنبية لغاية في النفس. ونحمد الله تعالى على ان هذه الحوادث المؤلمة قد انقضى عهدها نهائياً، اذ انه من مدة طويلة لم يقع حادث يدمي الفؤاد، والفضل في ذلك يعود الى رقي شبيبة البلدتين الحديثة والى جمعياتها الناهضة والى جهود عقلائهما الذين كانوا ابداً يقبحون تلك الاعمال الشاذة كل التقبيح. واذا كنا اتينا مرغمين على ذكر هذه الحوادث، فكيلا يقال ان تاريخنا مبتور ولكي يتعظ الجهلة بالنتائج الوخيمة التي جرتها تلك الحوادث فيتجنب الخلف مساوئ السلف.
(هذه التوطئة كما وردت حرفياً في “تاريخ اهدن القديم والحديث لسمعان خازن”- الجزء الأول)
وكان ان استفحل امر اليعاقبة في الشمال بسبب مناصرة عبد المنعم مقدم بشري لهم. فاخذوا ينفثون سموم ضلالهم في الشعب حتى اغووا جمهوراً كبيراً منه. وقد شق على البطريرك بطرس الحدثي ان يرى اليعاقبة يتمادون في غيهم، فارسل اليهم كهنة ورؤساء. كهنة ليردعوهم عن طغيانهم فلم يفلحوا لان المقدم عبد المنعم تعرض لهم وهدّد بالنفي والقتل كل من يسيء الى اليعاقبة.
ولما شاهد البطريرك ان الشقاق تفاقم في البلاد ولا من وسيلة لدفع تيار اليعاقبة وضلالهم، وجّه انظاره الى الاهدنيين حماة الدين، وطلب اليهم طرد اليعاقبة من الجبة. فنهضوا لمناصبة اليعاقبة غير حافلين بتهديدات المقدم عبد المنعم واعوانه. واول عمل اتوه ان طردوا اليعاقبة من اهدن شر طردة بعد ان اوسعوهم ضرباً واهانة. وقد عزّ على عبد المنعم ان يعامل الاهدنيون اصدقاءه اليعاقبة هذه المعاملة، فعقد النية على الايقاع بهم. فانذر الاهدنيين بأن يرحلوا من البلاد قبل ان يبيدهم ويسلب مقتنياتهم. فافهموه انه يستطيع ان يفعل ما يشاء وانهم سيهرقون دماءهم في الذود عن ديانتهم القويمة. ولما لم يمكنه ان يقتص من الاهدنيين ويشفي منهم غليله، استمد النجدة من ابناء عمه مقدمي بشناتا والضنية، وتمّ الاتفاق بينهم على ان يزحفوا الى اهدن في يوم واحد وساعة واحدة، عبد المنعم من الشرق ومقدمو الضنية من الشمال. وقد بلغ الاهدنين ما اضمر لهم عبد المنعم من الشر، فتأهبوا للدفاع عن كرامتهم وكيانهم. وقد وضعوا في الليل كميناً في “حمينا” للوثوب على رجال الضنية، وكميناً ثانياً في اسفل جبل مار سركيس في محل يُدعى الآن “دير الصليب” للوثوب على عبد المنعم ورجاله. وزيادة في التحصن حولوا في ذلك الليل مياه نبع مار سركيس واعين بقوفا على الاملاك الكائنة في تلك المنطقة فجعلتها بحيرة من الاوحال يصعب على المرء اجتيازها. وقد شاءت القدرة الالهية ان يكون قدوم مقدمي الضنية سابقاً بضع ساعات عن الموعد المضروب الزحف. فلم ينتظروا قدوم حليفهم مقدم بشري، وهجموا على اهدن في صبيحة يوم احد. ولما نزلوا برجالهم من “باب البواب” وثب عليهم كمين “حمينا” واعمل السيف في رقابهم فتشتتوا وظل الاهدنيون يطاردونهم حتى مرجة تولا. وفي تلك الاثناء كان المقدم عبد المنعم زاحفاً برجاله، ولما بلغه ما فعله الاهدنيون بابناء عمه ورجالهم خاف شر العاقبة، فقفل راجعاً الى بشري.
وفي صيف 1845 اجتمع مطارنة الطائفة المارونية في الديمان لينتخبوا خلفاً للبطريرك يوسف حبيش المتوفي. فجاءهم جمهور من البشراويين مدججاً بالاسلحة واخذ يصيح طالباً ان ينتخب المطارنة المطران يوسف جعجع البشراوي بطريركاً. وكان المسيو بوجاد قنصل فرنسا العام في بيروت حاضراً ذلك الاجتماع ليمنع كل تدخل في الانتخاب. واذ شاهد ما يريد عمله البشراويون استنجد بصديقه الحميم الشيخ بطرس كرم وطلب اليه ان يحضر ليمنع البشراويين من التمادي بتعدياتهم على المطارنة. فاوفد الزعيم الاهدني في ذلك الليل نجله يوسف بك كرم على رأس اربعين فتى اهدنياً مدججين بالاسلحة وما لبث ان حضر والده في صباح الغد. وقد انذر يوسف بك البشراويين بالابتعاد عن الديمان. ولما لم يذعنوا جمع رجاله وامرهم ان يهيئوا سلاحهم للقتال وتقدم نحو البشراويين ينذرهم لاخر مرة بالعودة الى بلدتهم. ولما راوا انفسهم امام امر واقع انسحبوا من تلك الجهة، وقد تمّ للمطارنة عندئذٍ ان ينتخبوا بطريركاً في جو ساده السلام والطمأنينة. ولما كان اليوم التالي جاءت الجماهير والاعيان واخذوا يتداولون بأمر الصلح فتم لهم ما ارادوا وجرى الصلح على يد المطران بولس موسي في كرسيه مار يعقوب ثم نزلنا الى زغرتا. (نقلاً عن مذكرات الشيخ اسعد بولس المخطوطة).
وقد بحثنا كثيراً عن الوثيقة التي نظمها المصلحون ووقعها كل من المتخاصمين فعثرنا عليها في مزرعة بني صعب عند صديقنا الفاضل الشيخ الياس حصن ابي صعب فقدمها لنا. فاذا هي وثيقة مؤرخة في 19 كانون الاول سنة 1856 يتعهد فيها كل من ممثلي بلدتي اهدن وبشري بأن يبتعدوا عن الاسباب كافة التي من شأنها اضرام نار البغض والضغينة والفتن بين اهالي البلدتين. وهذا هو نص الوثيقة:
” صك مصالحة بين اهدن وبشري ”
“انه بتاريخه لدى شهوده قد حصلت المصالحة بين جناب يوسف بك كرم واخيه الشيخ مخائيل وبين جناب بطرس بك حنا ضاهر والشيخ جرجس الخوري ومن تبع الطرفين من اهالي قريتي اهدن وبشري على الحرب والقتال الذي حصل بينهم وعن القتلى والمجاريح ايضاً. وتباروا الذمة وتتاركوا كل حق ودعوى يختص بالقتلى والمجاريح والمنازعات. واقروا الاقرار الصريح بأنه لم يعد لاحد منهم طلب ولا دعوى في شيء من جميع ما ذكر. وقد تعهدوا بأن يكونوا مبتعدين عن كافة الاسباب المغايرة الرضا لحضر الباري تعالى ورضا حضرات ولاة الامور، وان يكونوا مجتهدين بملاحظة الاهالي ان لا يبدي منهم اسباب مهيجة للفتن والعاج نار الحرب والضغينة بكل جهدهم وامكانهم ولاجل البيان باجراء المصالحة المرقومة والمتاركة وتبرئة الذمة والمسالمة من كلا الطرفين قد تحرر هذا الصك صورتين لكي يبقى بيد كل منهما صورة. وقد اذنوا بالشهادة عليهم الموضوعة اسماؤهم واختامهم به تحريراً في 19 كانون الاول سنة 1856.
الامضاء الامضاء الامضاء الامضاء
جرجس عيسى الخوري بطرس حنا ضاهر مخائيل بطرس كرم يوسف بطرس كرم
شهود الحال:
قعدان الخازن قيس الضاهر بطرس ابي صعب طوبيا طربيه المطران بولس موسى
(جونيه) (كفرزينا) (مزرعة ابي صعب) (سبعل) مطران طرابلس
خطار الشدياق نقولا النخل يوسف الياس يوسف ابي صعب دوميط ابي صعب
(عينطرين) (اجبع) (كفرصغاب)
بيد ان هذا الصلح لم يطل امده لان شرشل بك الانكليزي الذي كان يسعى للانتقام من الاهدنيين للاسباب الانفة الذكر، اخذ يغري البشراويين ويدفعهم الى تجديد الخصام واعداً اياهم بتقديم كل ما يحتاجون اليه من اسلحة وذخائر حربية. وقيل انه وعد بأن يتولى قيادتهم بنفسه. ومن جهة اخرى كان قنصل انكلتره العام في بيروت يساعدهم في كل ما يحتاجون اليه. اما قنصل فرنسة فكان يقول للاهدنيين ان لا يتعدوا على احد بل ان يدافعوا عن نفوسهم اذا اعتدي عليهم.
وقد بحثنا كثيراً عن الصك الذي جرى بموجبه هذا الصلح بين البلدين الشقيقين في بكركي ودير قزحيا وكرسي مار يعقوب كرمسده ولم نوفق بالعثور عليه. وقد عرفنا ان السيد البطريرك بولس مسعد الذي كان يومئذٍ في قصر الديمان قد حضر بنفسه الى دير قزحيا واجرى الصلح بين البلدين بحضور المطران يوسف جعجع والمطران يوسف المريض والمطران بولس موسى ويوسف بك كرم وبطرس بك حنا ضاهر.
هذا ما قاله سمعان خازن في مؤلفه “تاريخ اهدن القديم والحديث – الجزء الاول، ” من انه بحث كثيراً عن الصك الذي جرى الصلح بشأنه بين البلدتين (اهدن وبشري) … ولم نوفق بالعثور عليه، ويضيف بأنه عرف ان السيد البطريرك بولس مسعد قد حضر بنفسه الى دير قزحيا واجرى الصلح بين البلدتين …”
فجاءت الوثيقة المحفوظة في مكتبة المؤرخ ابي صعب لتثبت ان الصلح بين البلدتين اهدن وبشري قد حصل في دير قزحيا بحضور البطريرك مسعد ويوسف بك كرم وبطرس حنا ضاهر … حيث ورد فيها ما حرفيته:
” … ونحن بوقته موجودون بدير قزحيا بخدامة غبطته وسيادة مطراننا لانهما متعاطيان قضية الصلح بين اهالي اهدن وبشري وقد حضر جناب البيكان يوسف كرم وبطرس حنا ضاهر وتصالحا قدام غبطته في عين بقرة من سبعة ايام …”،
بحيث نعتبر ان هذه الوثيقة اتت تتمة وتكملة لصك المصالحة بين اهدن وبشري والذي نشرناه آنفاً والمؤرخ في 19 كانون الاول 1856.
وقد اظهر يوسف بك كرم في هذه المواقف الحرجة حنكة واقتداراً واعتدالاً وشفقة على بني جنسه لا يزال يذكرها له ابناء البلدة الشقيقة بمداد الشكر. وكان سلوكه هذا داعياً لاسف الانكليز على خسرانهم الاموال التي انفقوها دون جدوى، وعلى خذل عميلهم شرشل بك الذي كان رجال كرم يطاردونه في كل مكان بعد انتهاء الموقعة الاخيرة من هذه الحوادث المشؤومة.
(راجع مفصلاً عن حادثة 1488 وحادثة صيف 1845 وصك المصالحة بين اهدن وبشري وغيرها من الحوادث والوثائق المنشورة عنها كتاب “تاريخ اهدن القديم والحديث الجزء الاول لسمعان خازن – الصفحة 186 ولغاية الصفحة 204).
ونستون تشرشل وعلاقته بحوادث اهدن وبشري
منذ القديم نشهد ان كل فئة وحزب وحتى كل طائفة معنية في لبنان تتستر وراء دولة غربية تعمل على تزويدها بوسائل شتى، وتحت الضغط والاكراه تلبية لمصالحها وحفاظاً على وجودها القسري في المنطقة والاقاليم كافة. ولكن الظروف والنتائج السلبية لهذه التدخلات اثبتت ان هذا الوطن كان وسيظل بأمس الحاجة الى التفاهم بين جميع أبنائه وطوائفه، وذلك بالاتفاق على ضرورة اعادة بناء هيكلية الدولة اللبنانية وفقاً للروح الوطنية وحسن السياسة والتضامن في سبيل المصلحة العامة، مستعيدين بذلك نصوص المواثيق والعهود التي كانت تكتب وتنشر منذ القديم بين الاعيان والطوائف والمذاهب، امثال وثيقة عامية انطلياس حيث تعهد الاطراف بأن
” يبقوا يداً واحدة يدافع بعضهم عن البعض الآخر وكلهم يدافعون عن الوطن “.
من هذا المنطلق تتطرقنا الى الحوادث التي حصلت بين اهدن وبشري بمناسبة نشر الوثيقة التاريخية المحفوظة في مكتبة المؤرخ ابي صعب عن يوسف بك كرم واجراء الصلح بين البلدتين، لا لنستعيد مآسيها ونتائجها الوخيمة، بسبب مؤامرات خارجية وتحريض فئة على اخرى او بلدة على ثانية، كان هدفها النيل من التعايش والتآخي ومن استقلال لبنان الداخلي؛
بل، لنستذكر ما خطّه المؤرخ ابي صعب في ابحاثه التاريخية عن التعايش من ان “الشعوب تدرّس ابناءها تاريخ احداثها وثوراتها لا لتثير الاحقاد في صدورهم، بل لتفهمهم غلطات الماضي وامراضه فيتجنبوها، ونحن بكلمتنا نقصد ما قصده اولئك المصلحون”.
فلما بلغ يوسف كرم سن الشباب، تولىّ حكم الاقطاعة الاهدنية، وهي اقطاع ابيه وأسرته “وله في مدة حكومته هذه اعمال تذكر فتشكر، من اجراء عدالة وعفة نفس ومحافظة على الاداب ورعاية دين وتدريب شبّان على الامة والوطن. قارنًا الى ذلك كله صلاح سيرة وورع وايمان حيّ وغيرة على الدين والأداب” هذا ما وصفه به معاصره وصديقه ورفيقه واعرف، المثلث الرحمات المطران يوسف الدبس. وهذا الوصف يتضمن خلاصة اعمال هذا الشيخ الاقطاعي. وهو شاهد عيان رأى وسمع وكتب عن معرفة وصدق.
وقد جرى لكرم على عهدة مشيخته حادث على جانب عظيم من الاهمية، لعلاقته بالدول الاجنبية، ظهرت فيه حكمة كرم وعلو همته وشهامته وتدينه. وذلك ان الانكليز كانوا منذ دخولهم هذه البلاد على عهد زوال الحكومة المصرية والامارة الشهابية، يعملون على التدخل بشؤون لبنان لاغراض سياسية. وقد حاولوا بسط نفوذهم بين الموارنة عن طريق الدين فلم يفلحوا. وكان تدخلهم هذا بواسطة المرسلين الابروتستان من الانكليز والاميركان الذين كانوا بالرغم من عدم ميل الموارنة اليهم وتحريم رؤسائهم التعاطي معهم بالامور الدينية يحاولون دخول بلادهم بحجة الرسالة والتبشير بالانجيل.
وارادوا انشاء مركز لرسالتهم في بلدة اهدن واهلها على ما هو معروف من الاغراق في دينهم والتشبث الشديد بعروته الوثقى. فاغروا واحدًا من اهل اهدن واستأجروا منه منزلاً يقيمون فيه. فخشي كرم وهو يومئذٍ شيخ الاقطاعة ومقدم الاهدنيين وحامي ذمارهم دينًا ودنيا ان يكون وجود الابروتستان في تلك الجهات سبباً لانحراف ابناء الطائفة عن مبادئهم الدينية التي حافظوا عليها من قديم الدهر وان يخسروا وديعة الايمان التي بذلوا دماءهم في سبيلها. فقام لمناهضتهم بالوسائل المشروعة بحيث انه سعى لصرفهم عن بلدته بطريقة فنيّة لطيفة. وهاك خبر هذا الحادث الخطير نأخذه عن مصادر مختلفة لا نستثني منها كلام الخصم نفسه:
” حديث شرشل بك ” : قال اللورد شرشل بك الانكليزي الذي كان يومئذٍ مقيماً بلبنان ” ومنذ سنتين (1849) قصد المرسلون الاميركيون المقيمون في طرابلس قضاء اشهر الصيف في اهدن. وقد اختاروا لهم منزلاً مناسباً وقاموا ذات يوم بعيالهم وامتعتهم فوصلوا الى هناك بسلام. وما لبث ان وصلت البغال التي تحمل الامتعة. فحطُّوا عنها احمالها، وكان الليل قد اقبل وارخى سدوله على البلدة.
” وما كاد يستقر بهم المقام حتى سمعوا صراخ الخوف والرعب. واخذت الاجراس تدق، ولم يكن لدويها انقطاع. وتألب الاهلون شاكي السلاح يصيحون ويهتفون هتاف الحرب والقتال. وكانوا يروحون ويجيئون كأنهم في بلدة محاصرة. والكهنة يحملون بايديهم الصلبان حتى يخيل للناظر ان هناك هجوماً شديدًا.
” فدهش المرسلون لهذا وظنوا ان الارض زلزلت زلزالها. وحاولوا الخروج من المنزل للاستنباء عما هنالك. ولكن ما كادت تقع عليهم ابصار القوم حتى ردّوهم مدحورين الى منزلهم. ثم حاصروا الباب ونزعوا السقف وحطموا النوافذ. وكانت المسبّات والشتائم تتساقط وتتصاعد من الافواه حتى ملأت الفضاء.
وقد حاولوا ان يفاوضوهم فلم يقبلوا وارادوا الاحتجاج فلم يسمعوا بل كانوا يصرخون باجمعهم ” لا نريد رجال التوراة عندنا، اليكم عنا، لا محل للاراتقة هنا، لا تقيموا دقيقة في الضيعة”.
” فقال المبشرون الخائفون: ولكن دعونا نقضي ليلتنا هنا وصباح الغد ننصرف. غير انهم لم يصغوا الى طلبهم حتى الكهنة لم يرقوا لهم فلا مهلة ولا تأجيل. فوضع المرسلون امام اعينهم إما ان يغادروا المكان حالاً والا احرقوا بهم المنزل. ورأوا بأم العين شرار النار التي أُعدت للاحراق عند اول اشارة تصدر. ولذلك فقد كان التوقف والتردد في تلك الاحوال يعدّان جنونًا.
وهكذا فان المرسلين سافروا من اهدن بعيالهم في ذلك الليل البهيم، وبين الصراخ الشديد والجلبة والغيظ والسخط، ودخان المشاعل المتصاعد، وعادوا من حيث اتوا الى طرابلس.
” ولم تترك هذه الاهانة دون عقاب. وقد عرض سفير اميركا الامر الى حكومة تركيا، واستحصل فرمانًا بما اراد. على انه من اصعب الأمور اقناع اهل ذلك الجبل، بأنهم تحت حكم السلطان في مثل هذه المسائل. فقد كان جوابهم لمأموري الحكومة الذين طلبوا تعويضًا عما لحق المرسلين من الاهانة والخسارة لقيامهم ليلاً من اهدن ، ان صاحوا على رؤوس الملا والاشهاد قائلين ” ان سلطاننا هو البطرك” وهكذا فان كل سلطة مدنية أو غير مدنية، تزول ولا تُعتبر عند الموارنة امام سلطة الكاهن.
هذا ما كتبه كرم بخط يده يقصّ على بعض الاساقفة ولعله المطران (البطريرك) بولس مسعد حديث ما جرى له في بيروت بهذا الشأن.
(راجع مفصلاً عن هذه الحوادث المشؤومة كتاب لبنان ويوسف بك كرم – للاب اسطفان البشعلاني – صفحة 207 وما يليها)
الكشف على جثمان يوسف بك كرم
بتاريخ 9/3/ 2013 نشرت صحيفة “الأنوار” مقالاً عن اعادة ترميم جثمان يوسف بك كرم بعد نقله من كنيسة مار جرجس في اهدن الى مستشفى سيدة زغرتا، وذلك بحضور القيمين على عملية اعادة الترميم الخوري اسطفان فرنجيه كاهن رعية زغرتا- اهدن، والبروفسور لويجي كاباسو وفريق عمله المؤلف من الدكتور فادي فنيانوس وممثل جمعية يوسف بك كرم جوزف كرم.
وكان البروفسور كاباسو قد زار لبنان في العام 2000 بناءً على طلب الأب فرنجيه للكشف على الجثمان واجراء دراسة طبية وتاريخية شاملة له حول امكانية اعادة ترميمه. وتبدأ هذه الدراسة اولاً من الناحية التاريخية والتي تتناول الظروف التي ادت الى وفاة يوسف بك كرم واجراء دراسة عن اماكن تواجده آخر ايام حياته. ليستنتج بعدها كيفية المحافظة على الجثمان وتحليل الظروف والحالات التي حفظ على اساسها، خاصة وان يوسف بك كرم توفي في مدينة نابولي – ايطاليا – ودفن فيها. وقد طلب اهله في خلال السنة التالية من قائمقام هذه المدينة استرجاع الجثمان ليدفن في لبنان، فخضع في موطنه الام الى نوع من التعبئة حوالي العينين انما بطريقة غير علمية كما يشير البروفسور كاباسو وفريق عمله. لينتقل بعدها فريق العمل الطبي الى الناحية او المرحلة الطبية والتي ادت الى الاستنتاجات التالية وفق تقرير البروفسور كاباسو:
“إن الامعاء الداخلية لا تزال محفوظة ومنها الكبد، ولا وجود لآثار عنف لا على الهيكل ولا على الجثمان الخارجي، فحالته الصحية قبل الوفاة تساعدنا على تحديد طريقة حفظ الجثمان، وستؤخذ الفحوصات الى الجامعة في ايطاليا، كما سنعيد تأهيل الفك والوجه لأنهما متآكلان كثيراً. ولأن الرعية مهتمة باعادة عرض الجثمان في الكنيسة، أكد البروفسور كاباسو هذه النقطة هي الاصعب والأدق في اعادة الترميم لأن عملية تأهيل الوجه هي المرحلة الاصعب. ”
وعند اكتمال عملية الترميم بشكل نهائي سيوضع الجثمان في تابوت زجاجي معزول بطريقة فنية وتقنية وحيث لا يسمح للمياه والهواء بدخوله وسيعمد الى اقفاله بشكل نهائي.
يوسف بك كرم والكنيســـة
والجدير ذكره في هذا الصدد ان التابوت الزجاجي صنع في ايطاليا ووضع في داخله غاز للمحافظة على الجثمان، الذي بقي حتى اليوم على حاله المشار اليها آنفاً، خاصة من الناحية الطبية، الامر الذي يدفع الى التساؤل عن كيفية بقائه طيلة الفترة الممتدة من تاريخ وفاته ولغاية اليوم رغم تقلبات الظروف والاحوال السابقة واللاحقة لوفاته لاسيما وان هنالك وثائق تاريخية تشير وفق الدراسات التي اجريت على الجثمان إلى ان عدة اعضاء لا تزال كما هي منذ تاريخ وفاة يوسف بك كرم، مما يدفع بالقيمين الى القول ان وضع الجثمان الحالي يشير الى سلوك طريق القداسة كما اوضح الاب فرنجيه ان: “سيرة حياة يوسف بك كرم هي سيرة قداسة من خلال ما قيل وكتب عنه ومن خلال من عايشوه، كله يدل على انه كان رجل صلاة وايمان وكان يعيش كراهب. كما ان الحس الشعبي الذي رافق هذا الرجل في حياته ومماته وبعده الى الآن دفعهم للنظر اليه كقديس والكنيسة تنظر الى هذه النقطة.
بالاضافة الى ان حفظ الجثمان حتى الآن يدفعنا الى التساؤل: ما هي مشيئة الله من هذا العمل؟؟ رغم ان الجثمان مر بظروف صعبة، اذ دفن سنة وثلاثة اشهر ثم اعيد الى لبنان عن طريق البحر، ومن بعدها نقل من مرفأ طرابلس الى اهدن بظروف مناخية حارة وحمل على الاكف”.
زمن البطولة والقداسة
وإذا كان قد ولى زمن البطولة والقداسة اللتين تقر الذاكرة الاهدنية الزغرتاويـة باجتماعهما في شخصية المتمرد الشمالي اللبناني، فان اسم يوسف بك كرم وصورته واخباره كانت لها سطوتها على مخيلة اهل البلدتين ووجدانهم ومثالاتهم. فهو كان بالنسبة لهم المثال الذي يجمع صورة البطل الفارس الى جانب صورة البطل القديس الظاهر على غرار ما كانت عليه صورة الفرسان القديسين في القرون الوسطى الاوروبية.
( راجع في هذا الصدد مقال تحت عنوان: ” الحرج والحرب وصورة يوسف بك كرم الاسطورية في مرويات- اهدن – زغرتا ” لشوقي دويهي ومحمد ابي سمرا، النهار 10/ 4/ 2011).
ونعود بالذاكرة الى ما قرأناه من خطابات القيت وكلمات واشعار نشرت وفي مناسة ازالة الستار عن تمثال يوسف بك كرم في ساحة كنيسة مار جرجس – اهدن – بتاريخ 11/6/1932. نذكر البعض منها ليوسف السودا والشيخ ابراهيم المنذر ورشيد بك نخله وكرم ملحم كرم وشحرور الوادي وبشاره الخوري وشبلي الملاط شاعر الارز الذي قال عن يوسف بك كــــــرم: “هذا الذي اعلى منارة ٳهدنٍ/بحياته واعزّها بمماتهِ/كألارز قد كتب الخلودُ ليوسف/من مجده وسطراً على صفحاته”
( راجع نص كافة الخطابات والكلمات التي القيت بمناسبة ازاحة الستار عن تمثال كرم في كتاب: “قلائد المرجان في تاريخ شمالي لبنان” لمؤلفه بطرس بشارة كرم – الجزء الاول والثاني – طبعا في مطبعة الهدى اللبنانية – بيروت 1929، حيث اعتلت الاعناق وحدقت الابصار اثناء المهرجان الضخم الى ذلك التمثال الجبار المجلل بستار ابيض يشبه قمة من قمم جبال الارز المكللة بالثلوج البيضاء علامة النصر والعنفوان).
اخترت احد الخطابات التي القيت في هذه المناسبة، وقد عثرت عليه في ارشيف مكتبة المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب، وبالتحديد في قسم المحفوظات العائدة بمستنداتها الى المطران اغناطيوس مبارك الذي تفوّه بكلمة مؤثرة تعبر عن حال اللبنانيين في تلك الفترة المظلمة من تاريخ الوطن، حيث دعاهم الى تعلم الوطنية الحقة من بطل لبنان، والى المسؤولين في الدولة ان يضعوا المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية، وللفاسدين ان يأتوا الى ساحة اهدن ليتعلموا التضحية في سبيل الوطن من يوسف بك كرم:
“ما فلسفة الحياة سوى معرفة اسباب اعمال الرجل في سائر اطوار حياته فحياة يوسف بك كرم تختصر بثلاث كلمات كانت المحرك الوحيد لاعماله في كل اطوار حياته: حب الدين، وحب لبنان، والثقة بفرنسا. كان يوسف بك كرم معتصماً بالدين مثل كل ابناء الشمال لكن دينه كان قبل كل شيء مؤسساً على المحبة فحمل السيف ليس للفتك والظلم بل للمحاماة عن المظلومين وقد أوصى رجاله ان ينكفوا عن كل تعد على النساء والاطفال وعلى كل مسالم مكتفين بالدفاع عن المظلوم.
لبنان يا سادتي، كان الشغل الشاغل ليوسف بك كرم وبما انه ظن ان في نظام لبنان مساً لاستقلاله هبّ هبته المشهورة. فانظروا الان ما أعظم الفرق بينه وبين اولئك المنتفعين الذين لا يعرفون للوطنية معنى الا اذا امتلأت جيوبهم فقد سمعنا بعضهم يتشدق بالوطنية ويؤكد لسامعيه استعداده لسفك دمه مقتدين ليس بشجاعته فحسب بل بتجرده وتضحيته ولذا رأينا النصر حليفهم في كل مواقعهم ولا عجب اذا كان الاحفاد قد ورثوا الجدود فكما لبى جدودهم صوت بطلهم يوم دعاهم الى القتال محافظة على لبنان رأينا الاحفاد يلبون نداء فرنسا في هذه الايام فيفتحون الطريق لعساكرها لقمع ثورة كانت خطراً على لبنان وعلى فرنسا في هذه الديار فاستحقوا تقريظ الجنرال غورو المشهور: انني ببضع مئات من هؤلاء الابطال اقهر عشرات الالوف من الاعداء.
إن يوسف بك كرم اقتبل من ابيه وصية ان يحب فرنسا ويثق بها وقد أظهر هذه الثقة حينما حضر قنصل فرنسا وطلب اليه ان يغمد سيفه ويسرح رجاله ويثق بفرنسا للمحافظة على مصالح لبنان وبدون جدال نزل عند رغبة ممثل فرنسا رغم انتصاراته الباهرة. وفوق ذلك عندما طلب اليه القنصل الفرنسي ان يغادر وطنه ويعيش في المنفى فبدون تردد ضحى بذاته وبمستقبله وغادر لبنان ليقضي حياته في الغربة متكلاً على فرنسا انها تحافظ على لبنان وعلى مصالحه الحيوية. وكان من منفاه يتتبع الحوادث وكم كان سروره عظيماً. لما رأى ان فرنسا جاوبت على ثقته وبسهرها على نظام لبنان ارجعت اليه الحيوية والراحة والامن والعدل والرفاه حتى اصبح لبنان يغبطه جيرانه قائلين: هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان!
فسعادة لبنان كانت سعادته في منفاه وقد كتب الى أحد اصدقائه الفرنسيين: اني مسرور ان اضحي بشرط ان يحي لبنان سعيدًا بظل الحماية الفرنسية فلأضح انا وليعش لبنان”.
وأنتم يا ابناء لبنان لا تكتفوا بالثقة بفرنسا بل ثقوا بنفوسكم اولاً وتعلموا الوطنية الحقة من بطل لبنان يوسف بك كرم. فمتى كثر مقتفو آثاره بشروا لبنان بنجاح باهر وسعادة دائمة. وعندما تتهيج براكين المصلحة الشخصية ويصعد دخانها الاسود فيعمي الابصار والعقول فتضحى مصلحة لبنان على مذبح المنفعة الشخصية تعالوا يا بني لبنان الى شمال لبنان واحضروا الى هذه الساحة الاهدنية وزوروا قبر البطل اللبناني وتأملوا بتمثاله. فمن داخل القبر تسمعون صوت كرم رغم سكوت الموت ومن تمثاله تسمعون صوته رغم جمود النحاس صوتاً يختصر فلسفة حياته كلها: فلأضح انا وليعش لبنان !!
انطلاقة فكرة اقامة تمثال ليوسف بك كرم
منذ فجر العشرينيات من القرن الفائت، ولدت فكرة اقامة تمثال ليوسف بك كرم لدى الاهدنيين الذين يمثل لهم “القائد والبطل العظيم”، بل بطل لبنان الاوحد، واخذت هذه الفكرة النبيلة تسلك طريقها القويم نحو التنفيذ وذلك قبل ان تندلع الحرب الكبرى. لكن ويلات ومصائب هذه الاخيرة ادت الى تأجيلها حتى سنة 1920 حيث هبّ عدد من الاهدنيين، وعلى رأسهم القس سمعان عاقلة، وابرزوا مجدداً فكرة اقامة التمثال وتألفت لجنة لهذه الغاية برئاسة القس المذكور، وتعاقدت مع الفنان اللبناني الشهير يوسف سعدالله الحويّك لصنع تمثال من البرونز ودفع تكاليفه من الاموال التي جمعت في الداخل والخارج، وقد ارسلت هذه الاموال الى لبنان بواسطة المنسنيور ميخائيل فغالي الوكيل البطريركي الماروني في باريس والاب بولس حليم سعاده الاهدني.
وكان الفنان الحويك قد حمّل يد يوسف بك كرم جريدة الاّ ان الاب عاقلة كتبت اليه يقول له: ” اذا كنا نقيم لبطلنا العظيم تمثالاً فليس لانه كان يحسن ضرب الجريد، بل لانه استّل صمصامه واعمله بأقفية اولئك المستبدين الظالمين، لذا نرجوكم ان تجعلوا في يد كرم بدل الجريدة سيفاً مجرداً “. وعند الانتهاء من صنع التمثال ارسل الى لبنان حيث وصل الى طرابلس في 26/ايار من العام 1932 وقد اعفت المفوضية العليا اللجنة من الرسوم الجمركية.
(راجع مطولاً عن فكرة اقامة تمثال ليوسف بك كرم وحفلة ازاحة الستار عنه كتاب “تاريخ اهدن القديم والحديث باجزائه الاربعة لواضعه وناشره سمعان خازن – 1938).