“أبحاث في النظرية العامة في العقلانية” ما هو من العقل وما هو من خارجه

Views: 623

وفيق غريزي

يتبسّط كاتب هذه الأبحاث ريمون بودون في شرح نظريته العامة في العقلانية مخضعا لمجهر النقد ما سبقها من نظريات، اخصها نظرية الاختيار العقلاني، مبينا في كتابه المعنون “ابحاث في النظرية العامة في العقلانية” ، بالاستناد الى نظريات كبار علماء الاجتماع وما اسفرت عنه الابحاث الميدانية من معطيات، اهمية اعتمادها في تعليل المسائل السوسيولوجية الكبرى، ماضيا وحاضرا. ولقد شعر المؤلف ريمون بودون بأهمية تبني مفهوم منفتح للعقلانية يتيح تفسير الظاهرات الاجتماعية والسياسية على انواعها، بعد أن اثبت عدد التيارات الفكرية الناشئة ابان القرنين التاسع عشر والعشرين، كالماركسية والفرويدية والبنيوية، وفشله في موافاتنا بتفسير شاف لظاهرات كثيرة. ومرد ذلك العجز والاخفاق الى تكريسها نظرة طبيعية نسبوية الى الكائن البشري الذي دأبت على تصويره في وضعية تبعية جوهرية لعوامل اجتماعية وثقافية ونفسية وبيولوجية، ذاك من اللاعقلانية، ما اسس لما يسمى ظاهرة الفكر الحصري.

 

العقلانية والعلوم الاجتماعية

لم يعط للبشر أن يشتركوا في شيء مثلما اعطي لهم أن يشتركوا في الحس السليم. هذا القول المأثور سيحظى بتأييد كبار الفلاسفة والعلماء الاجتماعيين والاقتصاديين، على السواء. فقد دلّت نظرية المشاهد المحايد لآدم سميث على أن حظوظ تعرف العدل والصواب كلها تغدو متاحة للفرد عندما يبدي رأيه في امور لا تضع مصالحه واهواءه واحكامه القبلية على المحك، ولا تعوزه فيها الكفاءة المطلوبة. كما رأى جان جاك روسو أن الحس السليم هو في اساس التوافق الديمقراطي، وذلك أن الارادة العامة، في نظر روسو، هي الارادة التي يعبر عنها مجموع المواطنين، حالما يتم لهم التحرر من مصالحهم واهوائهم واحكامهم القبلية تحررا يخولهم أن يتخذوا بمعونة الحس السليم قرارا موحدا في شأن كل ما يستدعي معرفة خاصة من القضايا. هذه الفرضية تستبق صورة “غشاوة الجهل” لجون راولز. أما نظرية الالمامات الاولية لـ اميل دوركهايم، فتوصي بأن الفرد قادر مبدئيا على تعرف الاحكام القبلية التي تؤثّر على ارائه، بداعي حرصه على مصالحه، احيانا، واكثر الأحيان، بداعي الاستسلام الى الكسل المعرفي الذي يقوده الى الاكتفاء بالأفكار الوافدة اليه من خارج. 

يشير المؤلف الى ظهور تيارات فكرية بعيدة الأثر في القرن التاسع عشر تعارض التقليد القائل بمفهوم الحس السليم. هذه التيارات، التي بلغت اوج ازدهارها في القرن العشرين، لم تنكر وجود الحس السليم وحسب، بل ذهبت الى حد القول إن الكائن البشري تنشأ افكاره بتأثير من قوى ثقافية واجتماعية وبيولوجية ونفسية خارجة عن نطاق سيطرته، أو بالأحرى عن دائرة وعيه. ويقول المؤلف إن: “الاختلافات القائمة بين الوضعية والماركسية والفرويدية وسواها من التيارات التي تتميز بأفكار اكثر بساطة كالثقافوية والبنيوية، تحتفظ كلها بقاسم مشترك، الا وهو تقديمها صورة في منتهى الجدة عن الكائن البشري، فقد كان تقليد الفكر الغربي برمته، ومن ضمنه فلسفة عصر الانوار، يركز على استقلالية الكائن البشري وحريته وقدرته على اطلاق الاحكام من دون أن يغفل دور الاهواء والمصالح والاحكام القبلية فًي النفسية البشرية”. ونحن لا نقرأ مؤلفا لماكس فيبر أو لـ اميل دوركهايم، إلا ونلمس فيه حضور الفكر الكانطي الذي لا يني يشدد على العقلانية واستقلالية الكائن البشري، بعكس تيارات الفكر اللاعقلانية التي ازدهرت ابان القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي تصور الكائن البشري في وضعية تبعية جوهرية. 

 

تشظّي النظرية الاجتماعية المعاصرة 

إن الأطر النظرية العامة التي الهبت العلوم الاجتماعية والعلوم الانسانية عامة، في النصف الثاني من القرن الماضي، بعد أن ايقظت الأمل بتجدد المعرفة الانسانية في العمق، راحت كلها تتهاوى الواحدة بعد الأخرى، حتى ينظر كثيرون الى البنيوية والبنيوية الوظيفية والماركسية والفرويدية وكأنها مسألة مقفلة. ويؤكد المؤلف أن هذه المذاهب تنتمي اليوم الى تاريخ الفكر اكثر منها عالم الفكر الحي، ولم تعد تصلح لتوجيه البحث على الاطلاق، وان من بين المفكرين الثلاثة الذين لمع اسمهم في القرن التاسع عشر واعتبروا حتى نهاية القرن العشرين مجددين في مجال معرفة الانساني جذريا، وهم: تشارلز داروين وكارل ماركس وسيغموند فرويد. وحده الأول لا يزال يحيا في بداية الالفية الثالثة. “كذلك النظريات التي تكونت بوحي من ماركس وفرويد في القرن العشرين، وعددها يفوق الحصر، باتت في طريقها الى متحف الافكار، إن لم تكن على وشك السقوط في النسيان، شأنها في ذلك شان البنيوية”.

ثمة اليوم، بالطبع، اطر نظرية اخرى مطروحة للتداول في سوق الافكار التي تدعي هي الاخرى، الشمول والاطلاق، اطر تقصر في الرحابة والطموح عن الماركسية والفرويدية بل وعن بنيوية الأمس المتواضعة، ايضا، حيث انها باعتقاد المؤلف بدلا من أن تكون موضوع اجماع، لا تعتبره الا من قبل اتباعها ذات رسالة عامة. نذكر منها على صعيد المثال، نظرية الجينات الثقافية، وهي بمثابة تطبيق لنظرية داروين على الظاهرات الثقافية، ويزعم مبتكر هذه النظرية ريتشارد داوكينز اننا آلات تخلقها جيناتنا، التي لا تهدف، الا البقاء والاستمرار في خضم عالم متسابق. بذلك يكون هناك انتفاء ثقافي يقوم على ايثار بعض العناصر الثقافية التي تحظى نتيجة ذلك بالانتشار على غرار ما تحظى به بعض الجينات بالتناقل على مر الاجيال في عملية الانتقاء الطبيعي. من جملة الاطر العامة، ايضا، الثقافوية التي تعتمدها العلوم الاجتماعية على نطاق واسع. هذه التسمية تدل على النموذج الذي تنتقل بموجبه مباديء التصرف والقيم والتصورات الى الكائن البشري عن طريق التنشئة الاجتماعية بالدرجة الاولى، تشكل الثقافوية ” موضوع اجماع واسع بين الانثربولوجيين الذين يسهل عليهم بحكم ما تفرضه عليهم مهنتهم من وعي دقيق لتنوع الثقافات، القبول بالفكرة القائلة إنه، اذا كانت الاخلاق والمعتقدات تحافظ على اختلافها من مجتمع الى آخر، فلأنها تنتقل الى الافراد بفعل التنشئة الاجتماعية جيلا بعد جيل.

عقلانية الحداثة عند توكفيل 

استخدم توكفيل اسلوبا جديدا في تحليله للظاهرات السياسية والاجتماعية، اسلوبا مغايرا تماما لاسلوب معاصريه، وكثير من معاصرينا، وهو اسلوب ما زالت العلوم الاجتماعية تعتمده حتى اليوم. ينطوي العلم السياسي الجديد، كما تصوره توكفيل، وكما يمكن اعادة تكوين مبادئه المنهجية من خلال تحاليله، على حدس آخر عظيم، اذ نطالع في ما خص الظاهرات السياسية والاجتماعية، نوعين من التحاليل: واحد يفسر هذه الظاهرات، وواحد يؤولها. وحسب رأي المؤلف فإن الفريقين (التفسير والتأويل) الأول يسعى الى أن يكون مقنعا ويفرض نفسه بلا منازع على منافسيه، في حين يرتضي الثاني أن يكون واحدا من جملة تأويلات عديدة اخرى. ويقول المؤلف إن “التفسير يطمح الى أن يكون حقيقيا، في حين يكتفي التأويل بان يكون صحيحا. لا جدال، اذًا، في أن العلوم الطبيعية ترمي الى التفسير. فماذا بشأن علم السياسة الجديد الذي ينوي توكفيل اعتماده؟”.

لقد شعر توكفيل بحدسه الفطري أن التوصل الى تفسير الظاهرات المعقدة، يوجب الامساك بها ايضا انطلاقا من وقائع محددة. ويرى أن التفسير لا يحقق هدفه الا عندما يتناول هذه الوقائع بكل دقة. ذلك ما تؤكده العلوم الطبيعية. فالتحولات العلمية الكبرى غالبا ما تكون حصيلة نقاشات تنشأ حول وقائع صغيرة. وقد كان على غاليليو أن يصارع بضراوة من اجل الفكرة القائلة أن دوران الأرض لا يتعارض مع حقيقة مؤداها أن الحجر الذي نقذف به من فوق سارية يقع في اسفل السارية المذكورة، أو أن المسافة التي تجتازها قذيفة ما، في شروط اولية متماثلة، تكون هي نفسها، سواء كانت الطلقة موجهة نحو الشرق أو نحو الغرب. ويؤكد المؤلف أن توكفيل شجب بقوة الروح الادبية التي غالبا ما تتحكم بتحليل الظاهرات الاجتماعية والسياسية، كما امعن في التشديد على اهمية التقارنية”. من لم يدرس وير الا فرنسا فلن يفهم شيئا، اذا ما تجرأت على القول، عن الثورة الفرنسية”. ليس ما هو اكثر ادراكا من هذه العبارة. 

 

ماكس فيبر وعقلانية المعتقدات 

من اكثر الملامح بروزا في كتابات ماكس فيبر حول الدين هو تواتر كلمة عقلانية ومشتقاتها (عقلانية/تعقلن)، ومرد ذلك الى أنه، في تفسيره السوسيولوجي للظاهرات الدينية، ولا سيما المعتقدات منها، يعتمد النهج التفهمي، شأنه في تفسير أي ظاهرة اجتماعية. ولما كانت الميتانظرية (وهي التي تاتي بعد نظرية الاختيار العقلاني، اي النظرة العًامة في العقلانية) التي هي في اساس قيام هذا النهج تنطلق من مسلمة مؤداها أن العلة الموجبة لمعتقدات أحد الافراد تطابق المعنى الذي تتخذه هذه المعتقدات في نظره. فقد تعين على العالم، اي عالم اجتماع يتوخى تفسير اعتناق بعض الاشخاص معتقدا دون سواه، أن يبين، في نظر فيبر، أن هذا المعتقد يعني ما يعنيه، بالنسبة الى هؤلاء الاشخاص. تلك هي الميتانظرية التي اطلق عليها فيبر اسم النظرية العامة في العقلانية. ويشير المؤلف الى أن ماكس فيبر يطبق بطريقة منظمة وواعية جدا، ميتانظرية الفهم على تحليل المعتقدات الدينية، لكنه ليس الوحيد الذي يلجأ الى مثل هذا التطبيق، يقول بودون: اذا ارتضينا النظر من بعيد الى الطرق التي تعتمدها العلوم الانسانية في تفسير المعتقدات الدينية، امكننا التمييز بين صنفين بارزين من النظريات: الاولى، التي يمكن تسميتها تقطعية، تجعل من المعتقدات الدينية قارة على حدة من قارات الفكر البشري، وتقترح تفسيرها انطلاقا من مسلمة مفادها أن المؤمن يخضع لقوانين فكرية متميزة من تلك التي تحكم الفكر العلمي، يندرج ضمن هذا الاطار كل من العقلية البدائية لليفي شتراوس، وينبغي لنا الاحتراز من فهم كلمة عقلانية، كما يستعملها فيبر، بالمعني الذي تتداوله العلوم الاجتماعية اليوم. إن نظرية الاختيار العقلاني تجعل من الفاعل الاجتماعي شخصا يتحرك بداعي الحرص الحصري على اتباع تفضيلاته بالوسائل التي تبدو له اكثر ملاءمة من سواها، وبالتالي، فالعقلانية هنا يقول المؤلف: ” تشمل خصائص لا تدخل في صلب تكوينها، على الاطلاق، في الانانية من جهة، والاستتباعية والاداتية، من جهة أخرى”.

 

عقلانية اللاعقلاني – تفسير المعتقدات 

إن تغيير المعتقدات الجماعية يشكّل لدى دوركهايم احدى مهمات السوسيولوجيا الأساسية. ويتساءل المؤلف بودون: ما المبادىء التي يتعين مراعاتها من اجل انشاء تحليل علمي للمعتقدات الجماعية؟ على المراقب أن يدرك، اولا، أن من المقولات ما يتصف بالشمول، ومنها ما ليس كذلك. أن معارف المراقب ليست هي نفسها معارف المراقب، ولا هما يستعملان المفاهيم نفسها، اذ أن لكل حضارة نظامها المفهومي الخاص، من جهة اخرى، يستحيل على المراقب أن يعيد انتاج حالات الآخر الوجدانية، والواقع يقول بودون: “إن المعتقدات الجماعية لا يمكنها أن تنفرد من دون أن تخضع للتنقيح والتعديل، وبالتالي، من دون أن يطرأ عليها أي تحريف. من هنا كان يصعب علينا التفاهم في ما بيننا”. إن صعوبة التفاهم هذه القائمة حتى بين شخصين ينتميان الى نفس المحيط الاجتماعي، لأننا كلنا نستعمل الكلمات نفسها بمعان مختلفة. ولكن اذا كان يستحيل اعادة تكوين حالات الافراد الاجتماعيين الوجدانية بالتمام، يبقى من الممكن مناقشة المشاعر والدوافع والمبررات المنسوبة اليهم، بطريقة علمية، وهكذا، لا يسعنا أن نسند الى الاسترالي حس الفايق للطبيعة أو حس التمييز ما بين الطبيعي والفوقطبيعي، لأن التمييز نشأ مؤخرا، مع تطور العلم في بلاد الغرب”. إن فكرة الفائق الطبيعة، كما نفهمها تعود الى الامس القريب، كونها تشكل نفيا لفكرة اخرى نقيضة لا تمت الى البدائية بصلة. ولكي يمكننا وصف بعض الاحداث بأنها فائقة الطبيعة، يجب أن نكون قد شعرنا بوجود نظام طبيعي للأشياء، أي حسب اعتقاد بودون، أن ظاهرات الكون ترتبط فيما بينها بموجب علاقات ضرورية نسميها قوانين، فاذا تم لنا الاخذ بهذا المبدأ، وجب أن يظهر كل ما يخالف هذه القوانين وكأنه خارج الطبيعة، وبالتالي، خارج العقل، إلا أن فكرة الحتمية الشاملة هذه حديثة العهد. إنها أحد منجزات العلوم الوضعية…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *