الغربة في شعر محمود درويش وحرقة “البعد الإرادي” عن أرض فلسطين
وفيق غريزي
الاغتراب اشد العواطف عمقا في الشعر، وما زال الاحساس الأولي بالاغتراب مبثوثا، بهذا الشكل أو ذاك، في شعرنا الحديث والمعاصر، وبالتالي فإن الثنائية الضدية – الاغتراب – الألفة خلقت وترًا شعريا عميق النبرة والنغم. والاغتراب يبرز الجانب القيمي على اختلاف أنواعه (الاغتراب الاجتماعي – والاغتراب الروحي – والاغتراب المكاني).
ومما لا يقبل الشك أو الجدل أن الغربة تقترن في ظروف كثيرة بالضياع والتشتت، وهذا الضياع يكون عادة حاملا المفهوم النفسي لهذه الكلمة، لأن خلل المحيط لا يدع مجالا للاستقراء والطمأنينة، ويعجز المرء، عن أن يجد حلا لما يجري.
ويظهر بعد ذلك التوتر النفسي والقلق والخوف مجتمعة، اذ يشير القلق إلى حالة عدم الطمأنينة وعدم الثقًة بالمستقبل، والخوف من المجهول، اذ تحرِّض هذه العوامل على تعميق مسألة الضياع كظاهرة نفسية، على حد قول ماجد قاروط، الشعر الفلسطيني ولا سيما شعر محمود درويش، وتوفيق زياد وسميح القاسم، وحسين مهنا وغيرهم، ملآن بهذه الظاهرة النفسيّة التي تفرض وجودها على المغترب، ولا بد من الإشارة إلى مسألة على قدر كبير من الأهمية، وهي الشعور الذي ينتاب الشاعر الفلسطيني، بأن قيمة الانسان الفلسطيني في ظروف الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، والانتكاسات العربية المتكررة، وتمزّق الانسان العربي جراء هذه المعطيات، قد تفاقمت وتزايدت، والشعور بها يختلف من حيث الكمية بين شاعر وآخر.
الكاتب احمد جواد مغنية تناول هذه القضية في كتابه: “الغربة في شعر محمود درويش 1972 – 1982″، مع العلم أن غربة محمود درويش مفتعلة وإرادية، حيث أغرته اضواء بيروت، فترك فلسطين وانتقل الى العاصمة اللبناني يتسكّع في شوارعها وملاهيها عمليا وواقعيا، وشعريا يعبّر عن معاناة الغربة، الأمر الذي دفع برفيق دربه المناضل الشاعر سميح القاسم إلى معاتبته لتركه فلسطين الى لبنان، وتنكرًا لصداقته، اتهم درويش القاسم بأنه عميل للكيان الصهيوني، فالجبان الهارب صار بطلا وطنيا، والمناضل الوطني الشريف صار عميلا!
القرية لغويا وفلسفيا
إن غربة الشاعر فوق أرضه كان يعوّضها نضاله الملاصق لها، وسجن شبه دائم لقاء رفضه سياسة المحتلين واغتصابهم لأرض الوطن، أما غربته بعد خروجه الطوعي من فلسطين، فكانت كما يرى المؤلف زورا “اشد مرارة لشعوره بأنه خرج من جلده”، متناسيا بأن الأفعى تخرج من جلدها القديم لتدخل في جلد جديد.
والغربة لغويا، ركّز المؤلف احمد مغنية على معناها المعجمي فقط، من دون أن يتطرق إلى تشكيل الغربة لغويا، بحيث أن الانسان قبل كل شيء، آلة تحوّل الطاقة، وتتلقى الجملة العصبية الطاقة بصور شتى: نور، رائحة، وأصوات، وحركات آلية، وحرارة الخ، فتختزنها، وتحوّلها، ثم تبثها الى الخارج بصورة حركة، وفكرة، ولغة. ولا ريب بأن تلك اللغة تحمل شحنات نفسية مختلفة من تركيب إلى آخر، ومن لفظة إلى أخرى، ومن ثم، تنعكس هذه الشحنات على القدرة الإيحائية الدلالية للتركيب اللغوي أو المفردة، ولكن هذه الكلمات مشحونة اكثر من غيرها: “هذا ناتج عن احد أمرين أو كليهما، فإما أن تكون هذه الكلمات ذات طبيعة تهيئها لذلك كالرموز مثلا، وإما أن تدخل هذه الكلمات في علاقات غنيّة مع الكلمات الأخرى، فالأمر الأول داخلي واما الثاني فهو خارجي”.
وبما أن الموضوع يدور حول القرية في شعر محمود درويش، فإن التوتر الشعري عنده هو البؤرة الانفعالية التي لا يخضع له الشاعر أو المتلقي بطريقة عادية، وانما توقظه، تثيره، وتهز كيانه، بمعنى آخر تصدمه، بما تحمله من شحنة توتريّة يقوم اساسها على محورين؛ محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما.
وفلسفيا لم يتناول المؤلف هذا الموضوع، رغم أن التمهيد هو الغربة لغويا وفلسفيا ونفسيا واجتماعيا، ولملء هذا الفراغ يشير الى أن نصوص الاغتراب الحياتي في شعر محمود درويش، عادة ما جاءت قهرية، بمعنى أن الحالة هي النص، والنص هو الحالة، ولا يستطيع الشاعر الفكاك من اللحظة الشعرية حينئذ، واما نصوص الاغتراب الفلسفي فليست بقهرية بل هي نتاج تجربة وتفكير سابقين… ويمكن للمغترب فلسفيا، أن ينتج صورة ذهنية، وربما تصل تلك الصورة الى حالة من حالات التوهّم، اما الصورة الحسية فإنها برزت في نصوص درويش حياتيا، فهو يعرض لنماذج اغترابية حياتية في نصوصه، وبإمكانه عرض بعض النصوص التي تتضمن نماذج لمغترب فلسفيا.
الغربة اجتماعيا
يرى الكاتب احمد مغنية أن الانسان الشاعر أو الاديب المثال في نهجه هو في صراع دائم مع مجتمعه، ومثاله لا يوجد في هذا المجتمع، لذا يبقى غريبا عن الواقع الذي يريد تغييره، يصوِّر من يجب أن يكون عليه المجتمع، لا ما هو كائن. يخلق لنفسه صورة ترضيها ويغذّيها بالجمال والفن وبالمناظر التي يختارها لها. وفي هذا الصدد يقول الكاتب الفرنسي الكبير ستندال “الوطن الحق هو الذي تلتقي فيه بكثير ممن يشبهونك”. فالغربة عن الأرض هي ابتعاد الانسان عن وطنه الأم، فاضطره القهر أن يعيش بعيدا عنه، ويشعر بمرارة الغربة عن الأرض لأن طموحه يتعارض مع ما هو حاصل فوقها من قمع للحرية، واغترابه عن الأرض يستمر طويلا، ويعتبر عودته اليها للموت فقط، كما عبّر عن ذلك أاحد الرومانسيين بالقول: “منذ بدأت روحي تصدع الجواء بالجبين والجناح، لم تخلد مرة إلى الأرض، واعلم انها لو هبطت مرة لم يكن ذلك إلا لتموت “.
والغربة عن الأرض حسب اعتقاد المؤلف مغنية تفضي إلى غربة بين الناس وشعور بالعزلة عنهم. المفكر، شاعرا كان أم أديبا، مولع باعتزال الناس، فهو رغم اعتزازه بنفسه وتحمّله مسوولية اكبر من طاقة الانسان نتيجة طموحه العالي واللامحدود، يشعر أنه غريب بين الناس مع أنه يحمل أعباءهم، بفكره ونضاله وجهاده، يدأب تطلعا لرفاهية الآخرين وسعادتهم. ويؤكد المؤلف أن الغربة والشعور بالعزلة من خصائص الرومانسيين، والرومانسية تطرح قضية العلاقة مع الآخر بكثير من الاهتمام والإلحاح، فالرومانسي الذي ينطلق من الأنا يتمسك بحريته، بل بحقه في الاختلاف عن الآخرين، كما يعتبر الفرد قادرا على التمييز والإبداع من دون الخضوع لأحكام الجماعة، والغربة عن العالم الذي يعيش فيه، يعزز هذا الشعور بالغربة انتماؤه الى عالم الحلم والخيال والشعور بدونية عالم الواقع، لذلك كان تصوير الغربة من الموضوعات العزيزة على قلب الشاعر الرومانسي، كما تقول خالدة السعيد إن الغربة تتسع مكانيا عند محمود درويش لتصيب كل نواحي الحياة وعناصرها، فإذا ما ترافقت تلك الغربة بشعور بالعدمية، فإن هنا يعني بالضرورة أن مظاهر الموت تتسع ايضا، وتكبر دائرتها حتى تصيب مساحات كبرى من الخارج انطلاقا من الذات التي تحس بوطأة الموت ايضا.
ويؤكد الكاتب مغنية أن صراع الشاعر ناتج عن حرقة البعد عن أرض فلسطين، لذلك يعتبر ذكرياته الماضية يوم كان في احضان الحبيبة – الأرض أهم شيء في حاضره وهو بعيد عنها، (أي حرقة هذه التي يتحدث عنها الكاتب؟ إنها حرقة مفتعلة لأن محمود درويش هو من تخلّى عن أرضه طوعا والانتقال إلى بيروت، كما سبق وذكرت)، ويتابع الكاتب قوله: ولا يريد أن يرتاح في هذا الحاضر الذي فرض عليه أن يكون بلا مواجهة مباشرة مع من يحاصر حبيبته ضمن اسوار تحجّبها عنه، الحاضر يجعل درويشا ينسى سماء فلسطين، وهو يحاول أن يقيم علاقة ما بين الشقاء الذي يحياه بل يريده في حاضره وبين التفكير والعمل الدؤوبين في سبيل العودة الى الوطن، لأن خروج الشاعر إلى البلاد العربية لم يرح نفسه، بل ضايقه
ما راه من تعاسة الواقع العربي تجاه أهله العاملين تحقيقا للعودة، من هنا يمكن للمرء أن يقدّر حجم غربة درويش المأسوية.” إن الكاتب يحجب الحقيقة عن القرّاء لأن غربة درويش مفتعلة ولم يعان الشقاء بعد هجرانه الحبيبة وخيانته لها.
ويشدد الكاتب على أن معايشة درويش الواقع العربي بعد خروجه من فلسطين، يمكن المقارنة بين مصدرين للموت المتواصل للإنسان الفلسطيني المعذب في أرضه وخارجها. يعتبر الشاعر الخنجر الصهيوني مصدرا أول، وأكذوبة العرب لتحرير فلسطين مصدرا ثانيا لهذا الموت. ومأساة الشاعر تزداد عندما يشعر أن الذكرى معرضة بدورها لأن تسرق منه ومن أي فلسطيني يفكر في العودة الى وطنه، “فيقيم الشاعر علاقة بين الذكرى والماضي الذي يضاجعها، فيولد من اتحادهما لاجئون فلسطينيون لا وطن لهم ولا هوية”، وبفقدان هذه الذكرى، أمل الفلسطيني الوحيد حالما بالعودة إلى أرضه المغتصبة، تتحول الاحزان إلى مأساة حقيقية عند الشاعر. ومحاولة درويش الهروب من واقعه المر، تدفعه لإلقاء تبعات ذلك على الحبيبة -الأرض، وبدل أن يتحمل مسؤولية تركها للتنزه في شوارع بيروت وباراتها، وبدل تحمل مسؤولية عدم قدرته على نسيانها، يدعوها للمبادرة إلى الابتعاد عنه وارتداء صورة مغايرة لحقيقتها. وضعف الشاعر درويش في مواجهة الحقيقة يحيله عاجزا عن فعل شيء يخلّصها من واقع الاغتصاب.
ويرى احمد مغنية أن معاناة الغربة النفسية والجسدية عند درويش هي التي اثّرت على أسلوب شعره واعطته طابع الحزن، لأنه خسر لذة عذابه في حضن أمه الحبيبة – الأرض، وبخروجه اراديا إلى بيروت لم يربح حلم الحرية المنشود.
إن حالة الصراع الفكري التي تتملك محمود درويش تقوده إلى إعلان قصة ضياعه، والفرق شاسع بين قصة الشهيد المرويّة بدمائه التي أوصلته الى قلب الأرض، وبين رواية الشاعر التي تنتهي به إلى القمع والضياع.
الغربة السياسية
الشاعر محمود درويش لا يحتمل (ظاهريا) فراق جبل الكرمل المتشعب في انحاء جسده، ولا تفارق مخيلته تضاريس ارضه السليبة، (قولا لا فعلا واقعيا)، فهو في حيرة وضياع، لأن حاجز الاحتلال يمنعه من معانقة الحبيبة – الأرض، ولا يتمكن من ركوب البحر – بوابة الاقتلاع الفلسطيني المتزايد، وهذا البحر هو الفاصل بين الفلسطيني المشرّد وبين تراب ارضه، وتكبر الحسرة مع ازدياد الغربة في الخارج. يقول الكاتب: “إن هذا الظلم الواقع على الشاعر وشعبه مع الأهل العرب، هو اشد وطأة من السيف على الأعناق، ويغرس المرارة في النفس. نادى درويش العرب لمساعدته على الصمود داخل الأرض المحتلة، فلم يحصل على ما اراد. وعندما وصلهم (مقتلعا نفسه منها) تجاهلوه، فعاش غربة سياسية”.
ويشير مغنية إلى أن صراع الشاعر الوجداني بين محاولته فعل الحب الجديد، وتعلّقه بحبه لأرضه المغتصبة والمتجذر في أعماقه منذ ولادته وحتى كتابة شعره، جعله يفشل في محاولاته الجديدة لفعل الحب، وتبقى صرخته “متصاعدة باكيا على أرضه – الحبيبة التي زفت مرغمة للاعداء وتسام يوميا انواعا شتى من العذاب، (الم تصرخ حبيبته حين زف نفسه لبيروت طاعنا الحبيبة بخنجر الغدر؟)، فصراخ درويش هو صراخ كل إنسان يتألم ويتحسر على ضياع ارضه، في الغربة السياسية بعد اغتصاب الأرض بالإرهاب الذي مارسه العدو على اصحابها”. ويصوِّر درويش، حسب رأي الكاتب، أن هزيمة الثورة في نفوس الشعوب العربية تطيل عمر الحكّام في السلطة، ويكشف عن الواقع الذي تألب ضد الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة. ويرفض أن تكون جراح الفلسطيني وآلامه اوراقاً للتهاني أو منابر للخطابة.
الغربة السياسية التي عاشها الشاعر في البلاد العربية جعلته يائسا من مساعدة الجميع لأبناء شعبه باستعادة ارضهم من المغتصبين، ولا حتى بإيقاف المجازر ضدهم. إن كتاب مغنية جديد في موضوعه وعميق في تحليله وعلمي في منهجيته، رغم حجبه لخيانة درويش لحبيبته الأرض، بتركها وهربه الى خارجها، مرتكبا خيانة أخرى ضد صديقه ورفيق دربه الشاعر سميح القاسم..