ورده الجزائريّة…نَقشُ طَرَب

Views: 491

الدكتور جورج شبلي

الفنّانُ الطيّبُ يفرشُ أرضَه بالياقوت، ويُؤَنّقُ سطحَه بالمرمر، ويخصّصُ زيَّ أطباقِه لمائدةِ الشّمس، كي يأكلَ فيها الذّوقُ وينعمَ بلذّةٍ يدبُّ فيها العِشق. فالويلُ لِمَن ذاقَ ولم يتلهَّفْ لتمتيعِ شفتَيهِ بقُطَعِ الدّهشة.

“ورده الجزائريّة” فيّاضةٌ في نَحتِ المغنى جَمالاً، آهاتُها تنزُّ من ينابيعِ صدرِها، فتُرفَعُ لها الأسماع في المحافل، وفي أنديةِ الطَّرب، حيثُ إقبالُ الكِبارِ على مَن كانَت مصابيحُها مُتَنَكِّبةً النّور، تقطرُ حُسناً كَذَوبِ النَّدى في أكمامِ الياسمين. فهذه التي قُدَّت من عِلِيِّ الرقّةِ، وعلامتُها يُنسَخُ عنها، تُنشئُ في سَماعِ المذهولينَ شريعةً غنائيّةً تُحفَظُ منها مقامات.فهي السّائحةُ في دُنى المَغنى، بذلَت في خدمتِهِ مواهبَها، مُؤتَمَنةً على روحِه التي يُرجَّعُ صداها في منصّاتِ الأُلّاف، فتحصلُ محبّةُ صدقٍ معهم لِطولِ امتزاج، ويقطفون زهورَ النّشوةِ من خدودِ بعضِها. لذا، لم تقصّرْ “ورده” في إيناعِ المسامعِ المسرعةِ الى الأنس، بآياتٍ كلّما رُوينا منها، كلّما ازدَدنا إليها ظمأً.

“ورده” سليلةُ أَلِفباءِ الطَّربِ الشّرقيّ، في نسختِهِ الخصبة، ونُدماؤُها خَواص، لذا، أَلقَتِ الأنغامُ عندَها رَحلَها، ولمّا أَرجعَتها “الوردةُ” من غربتِها الى مواطنِها، صارَت تأبى الإنقيادَ لكثيرٍ غيرِها.فمحاصيلُ أعمالِها التي اشتركت مواهبُ المُلَحِّنين والكُتّاب في صياغتِها، دفعَت مصافَّ المغنى الى الغِنى، بفُجاءاتِها التي تستوجبُ التوقّفَ عندَها مَلِيّاً. فالطّاقةُ الصوتيّةُ التي تنتمي الى سُلَّمٍ متشَعِّبِ المقامات، والنَّهجُ الطَّبَقيُّ المُتقَن، نظَّما جُمَلَ أغاني “ورده”، وتنغيمَ فواصلِها، في إطارٍ يُسكِنُ الملاحةَ في التَّطريب، ليجمعَ إِحساسُ سَماعِها خطوطَ جَمالِ مُحيّاها، وبراعةَ أدائها الفيّاض، وكأنّ بينهما حُلولاً يقولُ مع ” الأخطلِ الصّغير “: لو مَرَّ سيفٌ بينَنا، لم نكنْ نعلَمُ هل أَجرى دَمي أم دَمَك…

لم تكن مناطقُ صوتِ “ورده” تصدُّ حملاتِ تعميرِ هيكلِها، فذكاءُ المُطربةِ ما تخلَّفَ عن تطويرِ طُرُقِ رعايتِه، وبِقَدرِ ما احتَمَت أغانيها في تَكايا موهبةٍ أمينةٍ على أصولِ المغنى الشَّرقي، بقَدرِ ما أُعتِقَت من رُكودِ التَّكرار، بالتَّجديد، فطعَّمَت شُلوحَها بمذاقاتِه، وذلك لإِبهاجِ النّاسِ برِزقِ المُستَحدَثِ من سِيَرِ الموسيقى. لكنّ “ورده” لم تُسرِفْ في الخروجِ عن التّراثِ الرّاقي، لتمزِّقَ أَرديتَه، وتُضمرَ الذّهابَ عنه من دونِ الرّجوع، فتشَوُّقُها الى الأَصلِ، المُشبَعُ بالعواطفِ، هو الأَسلَكُ في أسلوبِها، لأنّ في الأَصلِ، معها،شيئاً من الكِفاية.

عندما تسمعُ أيّاً من أغاني “ورده”، ولَو لعشرين مرّة، تشعرُ، كلَّما عُدتَ إليها، بأنّكَ أمامَ عملٍ جديدٍ يُسمَعُ لأولِ مرة، فكأنّ صوتَها يثمّرُ إمكانيّاتِهِ ليُطَوِّرَ ويُعجِب، وهذا لا يحصلُ إلّا للأَقَلّين،من هنا، لا فَرارَ من الدّهشةِ، والسُّكرِ، و ” التَوَنُّسِ بها “، كلّما اصطَحَبتَها بلِقاء.ومن سِرِّ نُزهاتِها الصوتيّة، عذوبةُ مساحتِها الغنائيّة، أو رقّةُ مؤدّاهاوالتي تكتملُ معها اللّذةُ المختلفةُ الألوان، فكأنّ صوتَهايغنّي ليُبهج، ويفتحَ طريقَ سَفَرٍ الى المتعة بالإنسجام، والى النّشوةِ المُحَفّزةِ على تَشَهّي المتابعة.

إنّ صوتَ “ورده” أَشبهُ بندى الرَّبيعِ الباكِرِ على أيٍّ من الزّهور، لذا، كان له علاقاتُ نَسَبٍ مع أطيافِ عُشّاقِ المغنى، الى أيِّ عمرٍ انتمَوا، والى أيِّ جيل. فأداؤُها الطَّلقُ الذي يمتلكُ مهاراتِ النّجاحِ في التَّنويع، حوَّلَ أغنياتِها مائدةً مختلفةَ الصُّنوف لاختلافِ أذواقِ الآكِلين، وهؤلاءِ، في أرضِ العرب، لا يسهلُ إرضاؤُهم لأنهم ليسوا مجرَّدَ مُتَلَقّين، فالتوجّهُ إليهم، إذاً، يستوجبُ حَذَراً، ودقّةً، ومهارة، فإمّا أن يكون تفاعلُهم رقيقَ الحاشيةِ يُنتِجُ خيبةً، وإمّا أن تتحرَّكَ فيهم هزَّة، ويكونَ قاموسُ إعجابِهم كبيرَ الحجمِ، مُبهِراً، كما هي الحالُ مع “ورده”، فلا يوضعُ في الجَيبِ، بل في القلوب.

كانت “ورده” واحدةً من أميراتِ العرب، وصاحبةَ الجَمال الرّاقي، والطّبعِ السخيِّ باللُّطف، لذا، تلمَّسَ الطريقَ إليها كِبارُ القادةِ، كما كِبارُ الملحّنين، من مثل عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وبليغ حمدي، والسنباطي، وسيّد مكّاوي، والقصبجي، والشّرنوبي، وغيرهم، ودخلَت “ورده” الى ألحانهم التي اشتهرَت بصوتِها العذبِ المُبدِعِ الذي كان يقولُ لكلِّ لَحن: أنا المتكلِّمُ فيك.

إنّ الإلفةَ التي تمّت بين “ورده” والفنّ، وبلا التواءٍ أو تَعَثُّر، فاستأنسَ بها، ومحضَتهُ مذهبَها في الإبداع، تركَت لنغماتِه في السَمعِ راحةً، فنسيَ ما سواها، وبرعشةٍ لاهبةٍ، وبلسانِ صِدقٍ، قال لها : معكِ، “ورده”، يهدأُ قلبي، و” أوقاتي بْتِحْلَوّ “.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *