على المفرق
د. جان توما
هذا مفرقٌ من مفارقِ الحيِّ القديم، حيث كانت تسود لعبة الغميضة ( الطمّيش) خلف أسوارِ البيوتِ التي رفعتها الأيادي الضارعةِ العفويةِ في هذا الميناءِ العتيق.
غادرَ الداخلَ الآمنَ أهلُ الأسوار فتساقطت حجارةُ الدار، وتهالكت مصطباتُ البيوت، ورفعَ الجيرانُ الباقون شجرةَ زهرِ الليمون وتنكات الحبقِ على الحيطانِ لتفوحَ، في غيابهم، ذكرياتُ العمرِ الذي كان. تسألُ الأغصانُ المارةَ عن الوجوهِ التي كانت وغابت في تردادِ الفصول ورتابةِ الأيام.
فرغَ الحيّ من أهله، غادرَ الساكنون بصمتٍ بعدما نزحوا إلى الميناء لملوحةِ بحره العذبة، فسكنوا فيه، وماتوا فيه، وتركوا بيوتهم ، فتمايلت الحجارة شوقًا، وبدأتِ القناطرُ العربيةُ تنحني رويدًا رويدًا بعدما ناءت بها السنين، وَدَمَّل صليبُ الذكرياتِ الحلوة أكتافها.
كان آل القابوق هنا، وقد نزحوا من مرسين والاسكندرون، وهنا كان يوسف من ناحية زغرتا الذي افتتح دكانةً صغيرة لبيع القرطاسبة في سوق الخراب الذي كان عامرًا اقتصاديًّا يومها، ما بين منشرةِ صليبا العبد ونوفوتيه جورج عازار، وهنا أيضًا كان آل يونس، من ناحية تنورين، علّموا في مدرسة الأرض المقدّسة ثم في المدرسة الأنطونيّة. كلّ البلد كان هنا، لذا كان أهل الميناء مكتفين ببيئتهم المتنوّعة الحيّة الواعدة السالكة في المعارج القديمة.
ويبقى سبيلُ الماء الذي كان يغسل شيطاناتنا يوميًّا. كان مقصدَ العطاشِ في عزّ الحرّ، يغسلُ المارُّ وجهه فيستعيد شبابه، ويبلّ شفتيه فتبتهجان فرحًا. منذ قُطِعَتِ الماء. عن السبيل قَسَتْ تكاليف الدنيا وبغت وتجبّرت. كان سبيلُ الماء بجريانه بين أناملك كافتتاح صفحة جديدة في دفتر العمر… ماذا لو نفتح صنبورَ ماءِ صفحةِ الذكرياتٍِ لأرضٍ جديدةٍ وسماءٍ جديدة؟.