أنسي الحاج وضباب إهدن*
د. جان توما
كان مساء أنسي الحاج عزفًا على وتر وذكرى على إيقاع قصيدة. استعادته أصوات أفواه ردّدت شعره بمرافقة موسيقيّة موحية في تلك الأقبية العتيقة، أقبية دير مار سرجيوس وباخوس بإهدن. في ذلك المساء البارد زحف الضباب خجلًا وبخفر ليحتفل بذكرى أنسي الحاج كلمة شعريّة تكرج على ألسنة محبيه.
كان صوته يصدح:”أرفض العصر”، ” أنا ظلّ”، فتداعت حنيات القاعة إلى الصمت الذي ساد استماعًا إلى كلمات أنسي الحاج تعيد رصف حجارة جدران قصيدة النثر، وقد كان أنسي الحاج حجر زاوية في هذا البناء الذي انتظره طويلًا، وبالتالي لم يكن من العبثيّة بشيء سؤال الراوي إذا” جاءت الصورة” ؟ ويأتيه الجواب من صوت خارجيّ: لا، ويكرر الراوي سؤال أنسي إلى أن يتعب الصوت الخارجيّ فيقول:” أجل، جاءت الصورة”.
هذه الصورة ما كانت لتأتي لولا قول الشاعر: أنّ ” لي ريشة عصفور” ، هذا العصفور الذي يطيب له الجلوس فوق الغصن، أو “فوق المدينة وفوق الحقيقة”، فمن فوق تختلف الرؤية، وتصير أوضح وأنقى، بعيدًا عن الثنائيات والتضاد ما بين” الثلج والجمر”، و” بين الماء والنار”.
يرسم الذهاب إلى تلك الأمسيّة القريبة من ينابيع إهدن صورة عن طبيعة شعر أنسي الحاج حيث صوت إيقاع العصا بيد الراوي، أشبه بذاك الباحث عن مجرى الينابيع تحت الأرض. يقوده صوت العصا عند ارتطامها بالأرض إلى مدارج الحياة المخفية تحت الملموس للعبور إلى المدى الروحيّ، إلى هناك حيث” يكتمل قمر استراحتي”، إلى هناك حيث ” أنتِ نبع والينابيع شفاه”.
في تلك الأمسيّة ” الوليمة” بتنوّع موادها “كلمات كلمات كلمات”، حضرت ” الرسولة بشعرها الطويل إلى الينابيع” تستعرض “ماضي الأيام الآتية” من دون أن تبوح بجواب عن سؤال أنسي: “ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟” و” لن” تجيب، لا في البداءات ولا في ” خواتم” القصائد.
———————-
* قراءات ممسرحة من قصائده، إخراج ماريا الدويهي. إعداد وتقديم زهيدة درويش وسيمون قندلفت وماريا وفوزي يمّين ومرافقة موسيقيّه أدو مورا، بدعوة من اللقاء الثقافي في زغرتا و”فيحاؤنا”.