سجلوا عندكم

ضباب وغياب

Views: 204

د. جان توما

ينسلُّ الضبابُ من الوادي حذرًا ، يبلّلُ قرميدَ البيوتِ بعد أن أحرَقَتْهُ شمسُ النهارِ. يتعبُ الضبابُ في أواخرِ شهرِ آب في دروبِ دساكرِ الجبلِ وقراه، إذ يختبىءُ وراءَ شجرةِ التفاحِ حزينًا كي لا يرى نافذةً كانت مفتوحةً للنسائمِ  انغلَقَتْ بعد عودةِ أهلِها إلى مهاجرِهم فيما حنينهم أبدًا لمضاجعِهم ما بين قادوميةِ عينِ القريةِ وجلولِ الزيتون.

كان الضبابُ ،مطلعَ الصيفِ، يتخايلُ فَرِحًا. يمرُّ أمامَ مصطباتِ بيوتِ القرية، وكالصبيانِ يدقُّ  مدقّاتِ الأبواب، يفرُّ مسرورًا بشيطنتِهِ مختبئًا خلفَ شحرةِ إجاص، يتناولُ منها ما طابَ قبلَ أن يشتهيَ حبّاتِ تينٍ شهيّةً من البساتبنِ المجاورةِ، كأنَّ الضبابَ عارفٌ أنَّ جُبّتَهُ البيضاءَ تخفيه فلا ينهيه أحدٌ عن السرقةِ الحلال.

يردُّكَ الضبابُ بجلبابِهِ الذي يطالُ الكرومَ إلى عباءةِ جَدِّكَ العربيّةِ التي كانت تقيكَ بردَ المساءِ كلَّمَا تلحفّتَ بها ، فيما يدُ جدِّكَ تلامسُ أعلى رأسِكَ بركةً ودعاء، أو يذكرُكَ  بشالِ جدّتِكَ ذي الكُرَاتِ الصوفيّةِ الضخمةِ الذي كان ينسدلُ من على الكتفينِ جلوسًا على البساطِ الذي كنتَ تجلسُ عليه طلبًا لدفءِ الشالِ المشغولِ بأيدٍ تلبسُ مما تنسُج، فيما تكرُّ حكاياتُ المساءاتِ قبل اجتياحِ النومِ مخيماتِ الأطفال.

كلُّ ما في القريةِ هنا يُعْلِمُكَ بأنَّ الضبابَ كاتمُ أسرارِ المصطافينَ، ودفترُ يومياتِهم. وحدَهُ يطلعُ من الوادي، يغسلُ وجوهَ السامرينَ، يدوّنُ أحلامَهم، يُودِعُ وعودَهُ قلوبَهم كي يعودوا في الصيفِ القادمِ، ويشرّعوا نوافذَهُم لريحِ العمرِ لتستمرَّ الحكايةُ ما بين احتراقِ الضبابْ ولهب أشواق الغيابْ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *