سجلوا عندكم

الهُوِيَّة الثقافيةُ في رواية “قلعة طاهر” لـ حسن السلمان

Views: 149

إبراهيم رسول

بدايةً، تشتغلُ ثيمة الرّواية على عناصر مُتعددة في بثِّ خطابِها الروائيّ، وهذه العناصرُ تتداخل وتتميز في عمليةِ البناء. تُسجّلُ الروايةُ أشياءَ يوميّة من يوميّاتِ الرّيف العراقي في مدينة العمارة، ولمّا كان الأمر كذلك، وجبَ على الروائيّ أنْ يدوّن اليوميات الرّيفية بلغةٍ تقتربُ من الشخصية الريفية، ومما يُحسب للروائيّ هو المساحة الحُرّة التي يتركها لشخصياته في التعبّيرِ عن أحوالها دونَ قيدٍ وفرضٍ من سلطته.

طريقة السرد التي سرد من خلالها الأحداث، هي الآلية التي تمت من خلالها كتابة الرواية ويشمل هذا اللغة والتقنيات البنائية وغيرها ولكن سنعنى بشيئينِ فقط، وهما اللغة والتقنية، لأنَّ الموضوعَ سيتجاوز من أنْ يكونَ محض مقال في رواية!

ورواية “قلعة طاهر هي من الرّوايات التي تعتمدُ في بنائها الفنيّ على بثِّ وإعادة إحياء اليوميات الرّيفية في محافظة العمارة العراقية عبر سرد تقطيعي مشهدي كما يقول المبدع (في غلاف الرواية)، لطبيعيةِ المكان أثرهُ وأهميتهُ في البناء التقني العام للرواية، فالمكانُ عنصرٌ حيويٌّ وأثره في العمل الكامل رئيسيًا، لأنَّه أحدُ عنصريْ الحياة، وهما الزمان والمكان، اللذانِ هما الحياة!

الطريقةُ التي يتشكّل من خلالها بناء العمل الإبداعيّ، هي طريقةٌ مميزةٌ وتعتمدُ التكنيك الهندسيّ التقطيعي للروايةِ، الذي يقطع الأحداث ولا يعطي كلّ المعلومات دفعة واحدة، والروائيُّ لا يسجّل الأحداث وفق بناء سيري، لأّنَّ تلاعبه في القطع والتواصل أثناء السرد، يجعلُ من الرّواية تدخلُ إلى ما يُمكن أنْ نسميّه اللعبُ الفنّي، واللعبُ الفنّيّ ليس لعبًّا بمعنى اللهو، بلْ بمعنى الاشتغال التشويقي الذي يخلقه المبدع ويقدّمه إلى المُتلقي على هيئةِ سردِ حكايةٍ، فطريقةُ المُبدع هو أنْ يؤسسَ لحكاية تؤرخها أحداثها وفق منظوري الزمان والمكان، فهو يقدمُ الزمان والمكان سرديًا! ويبدأ بإعطائك التصوّر للتاريخ والأحداث أثناء عملية السرد، من دون أنْ يضع تاريخًا رقميًا مُباشرًا. 

 

صورة الحياة الريفية

ميزةُ الرّوايةُ البديعة، أنَّها تؤسسُ لأشياءَ وثيمات كثيرة، ويعتمدُ هذا على قدرةِ الروائيّ على أنْ يخلقَ عواملَ تُساعد في استمرارِ العمل الفنّي بذاتِ القوّة التشويقية. الروايةُ لا تبدو أنَّها مُرتبةٌ ترتيبًا عشوائيًا لأحداثها، على الرّغمِ من أنَّ الزمنَ معلومٌ وليسَ مجهولًا أو مُتخيلًا! فالاشتغالُ التكنيكيُ في صناعةِ الرواية واضحٌ أنَّه يريدُ أنْ يجعلَ من العملِ يبدو وكأنَّه يُقدّمُ صورة من الصورِ للشخصيّة الجنوبية في الجنوب العراقيّ، ولا بدَّ أنْ يكونَ الحكي وطريقته تنطبقُ على وعي وثقافة الشخصية، فأنتَ حين تتحدث عن طبيبٍ لا بدَّ أنْ تتحدثَ عن طريقته في الحياة والعيش بأسلوبهِ هو لا بأسلوبٍ تفرضه عليه، لأنَّ صورةَ الشخصية ماثلة في الحقيقية، لهذا فالروائيّ حسن السلمان حينما يقدمُ سرديته في هذه الرواية، فإنَّه يقدمها على هيئةِ الحياة الريفية، فالسردُ ليسَ معقدًا على الرغمِ من أنَّه يعتمدُ القطع والاسترسال والاستراحة وقطع الزمن وتناوب السرد، هذه الاستعمالاتُ تقولُ انَّ المُبدعَ يعتمد في السرد على تقنية وهذه التقنية هي الطريقة التي يسردُ من خلالها الأحداث.

هو يُقطع الأحداث تقطيعًا مشهديًا، ومن ميزة هذا التقطيع أنَّه يجعل المُتلقي يبقى على ذاتِ الوتيرةِ من الترقبِ والتشويقِ في مواصلة القراءة، القراءةُ الإيجابيةُ لأيِّ عملٍ إبداعيٍ تحتاجُ أنْ يكونَ العمل ذاته صورة من صور الخلق الجديد الابتكاري. وهذه الرواية من الروايات المهمة التي تسرد لك بطريقةٍ وحِنكةٍ ومهارةٍ، حين تقرأ تجد أنْ لا رتابة ولا مللَ ولا ترهل في السردِ، فالعمليةُ الحكائيةُ تحكي بانسيابية وبوتيرة تُحافظُ على ميزةِ التشويق، الذي هو من أهمِ عناصر التلقي الإيجابي بين الخالقِ والمُتلقي. 

وثمةَ ميزة لا تقلّ أهمية عن ثيمة الطريقة، بلْ هي من الأهمية ما يجعلها مهمة جدًّا، وهي ثيمة الّلغة، هذه الّلغة التي يحكي من خلالها الروائيّ على لسانِ شخصياتهِ هي ذاتِ الّلغة المُستعملة في القرّيةِ، نجحَ المُبدعُ في الحفاظ على الّلغة التي يتكلم بها الناس في المكان والزمان الواقعيان، اقتربَ الخيال من المعقولِ فتطابقَا معًا، وشكّلا هذه القصّة بصورتها الكاملة، لأنَّ الشخصيات كلّها تقتربُ من ثقافة واحدة، هذه الثقافة تشكّلت بفعلِ عوامل جعلتها واحدة، ثقافة الشخصية في الرّيفِ. 

 

الهُوّيّة الثقافية للشخصية الجنوبية

لا بُدَّ من أنْ يتصفَ العمل الإبداعي بشيءٍ من المعقولِ، وهذا المعقولُ في هذه الرّواية هو هذه الأحداث وهذه الّلغة التي تتحدث بها الشخصيات. شخصيات مثل الشيخ، أو السركال، أو الفلاح، أو الفلاحة، هي شخصيات لها لُغة خاصّة معروفة، لا بدَّ أنْ تكونَ لُغتها في الواقعِ هي ذاتها بالعملِ المُتخيل! لأنَّ كثيرًا من الأدباءِ يكتبُ بلُغتهِ الثقافية مما يجعل الشخصية تبدو غير حيّة، لأنَّ لُغة الشخصية هو حياةٌ لها وديمومة. حتَى الأسماء هي أسماء ريفية بالفعلِ، هذا الروائيُّ يعرفُ بعوالمِ روايته من كافةِ النواحيّ. يجيء السؤال الذي يتبادرُ إلى الذهن، وهو صناعةُ الهُوّيّة الثقافية للشخصية الجنوبية، فأنت تقرأ انثربولوجيا واضحة في الروايةِ، إضافة إلى إبراز هذه الهُوّيّة على ما هيَ عليه بالواقعِ، التأسيسُ لإبراز الشخصية الجنوبية بهذه الصورة، هو اِعتزازٌ بقيمةِ هذه الهُوّيّة المُغيبة كثيرًا في الأعمال الأدبية، التعبّير عن هُوّيات مُهمشة سياسيًا، هي تعبّيرٌ عن إنسانٌ مضطهدٌ ومقموعٌو فالقمعُ أنواعٌ كثيرة، يدخلُ من ضمنِها القمع الأدبيّ الذي هو صورةٌ مشوّهةٌ من صور القمع القهريّ، لهذا فالروائيُّ حينما يخلقُ هو هذه السردية ويبتكر لها الشخصيات القريبة من واقع الرواية هو عملٌ يستحقّ أنْ يُقالَ عنه أنَّه عملٌ نبيلٌ!

الصورةُ الثقافيةُ التي أبرزتها الرواية، هي ذاتِ الصورةِ الحقيقية للهُوّيّة الجنوبية للمكانِ والزمانِ الواقعيين للشخصية الجنوبية العراقية إبان زمان التاريخ الحقيقي الذي عبّرَ عنه بلُغةِ السردِ، فالحقيقةُ التي أبرزتها الرواية هي الصورة النمطية السائدة لتلك البيئة الجغرافية من الأرض، هذه الصورةُ التي عبّرت عن ذاتها وصراعها الاجتماعي وتفاعلها مع المحيط، أعطت صورة واضحة المعالم لما يُراد تسليط الضوء عليه. إذن حين تقرأ في هذه الرّواية فستكون صورة واضحة للشخصية. قدمتِ الرّواية صورة طبيعية دون ماكياج أو تقليل من شأنِ أو إعطاء أشياءَ غير موجودة فيها، بلْ أعطتْ صورة حيّة منقولة بمرآة عاكسة.

 

أسماء حقيقية

ثمة ميزة أخرى في الرّوايةِ، هي ميزة أسماء الشخصيات، فهي أسماءٌ حقيقيةٌ من حيثِ جغرافية المكان، المعرّفةُ الرّوائيةُ هي العلمُ بكُلِّ ما يمّت بصلة إلى العمل الروائيّ، وأحسب أنَّ حسن السلمان الروائي المبدع، يملكُ معرّفةً كبيرةً في ما يتعلّق بعالمهِ الروائيّ، ولديه صور كثيرة عن أنماط الشخصيات التي تعيش في العالم الذي يتناوله سرديًّا. 

لنأخذ نموذجًا عن صورة الشخصية الثقافية التي عبّر عنها الكاتب، وهي الحادثةُ التي حصلت مع “الشيخ طوفان” في عطلته الصيفية التي تعوّد أنْ يقضيها في بغداد، في النهار يكون في السينما، والمساء في الملهى، حينَ تقرأ كيف استدعى المطربة أحلام وهبي إلى طاولته، وكيفَ حاولَ أحد السُكارى أنْ يُضايقها، وكيفَ قامَ الشيخ برمي إطلاقات نارية مما عبث بالمكان.

فلوْ قرأنا الحادثة كما يلي:

الاسم: الشيخ طوفان

المكان: ملهى ليلي

الحادثة: الغيرة على الأنثى

المُعتدي: شخص فاقد للوعي.

في هذه الحادثة، تثمل شخصية الفرد الجنوبيّ بصورةٍ واقعيةٍ كما هي، فردةُ الفعل هي حقيقية على شخصية الشيخ طوفان، الذي هو صورة لشخصية الشيخ في الجنوب بذات الزمان والمكان الذي عبّر عنه زمن الرواية.

الهُوّيّة الثقافية التي عبّرَت عنها الرّواية، هي الهّوية الواقعية، فهنا نسجّل أنَّ الخيالَ الأدبيّ استدعى الواقع استدعاءً ثقافيًا، حضرتِ الشخصية بوعيها وواقعها ولُغتها وفعلها ورد فعلها، لا رتوشَ ولا تدخلَ من الكاتب ولا سلطة مفروضة ولا قيد على الشخصية في أنْ تتحرّكَ بفضاءٍ رحبٍّ.

 

عالم متكامل من عوالم الريف الجنوبي

اشتغلتِ الرواية على تقديم صورة من صور التعامل بين الأسر الاقطاعية مع طبقة الفلاحين، وهذه الصورة منقولة لنا نقلاً يقتربُ من الواقع الحقيقيّ لها وليسَ تخيلًا من الكاتب، فهو لمْ يفرضْ وعيه وسلطتهُ على الشخصية في الحديث عن عالمها الجوّانيّ، ولو تأمّلت بقائمة المفردات المحلّية التي قدّمَ بها الرواية لأدركتَ أنَّ توظيفًا ثقافيًا يُراد تشكيله، وهو يقرّ في الغلاف الثاني للرواية، من أنّ الرواية تشتغل على بيئة لم يكشف تمامًا عن تضاريسها الجيو/ثقافية، هذه المحاولةُ الرائعةُ من المبدع، تدخل في مجال تسليط الضوء على بيئات مُهملة من قبل النُخب التي تقود المجتمع، فجاءتِ الرواية لتسجّل الموقف الأدبي الذي يبقى بعد أنْ تموت الأشياء الكثيرة في الحياة ويبقى ما يلامس أدبية الأشياء، لأنَّ التعبّير عن القضايا العامّة عِبر ميدان الأدب، هو خلودٌ دائمٌ وحيواتٌ مُتجددة للقضايا التي يُعالجها المبدع.

في هذه الرّواية تجد أنَّ الكاتبَ لا يخلق هُوّية جديدة أو يؤسس لخلق هُوية شخصية لشخصياتهِ، بلْ هو يتناولُ البيئة الريفية تناولًا مُباشرًا فيجيء بالشخصيات والبيئة وبكلِّ ما يتعلق بهذه البيئة الخاصّة، فيعبّر بنفس اللغة وبنفس الوعي وبنفس الثقافة، فلوْ يسألْ سائلٌ عن سرّ هذه الكثرة من الحضور الفعّال للمفردة المحلّية، فيكونُ الجوابُ هو إبرازٌ وتكثيفُ ظهورٍ للهُوية الجنوبية التي يُحددها الكاتب بمكان وزمان معينينِ. 

يؤسسُ الكاتب سردية معنّية بالمهمش والمهمل ويجعل منه ثيمة مركزية، فالأسماءُ الواردةُ في الرّواية هي أسماء تنطبق تمام التطابق على شخصيات البيئة الثقافية التي يحكي عنها، الرواية عالمٌ واسعٌ، لهذا فالكتابةُ عنها يعني أنْ تكونَ على إلمامٍ واسعٍ في العالم الروائيّ.

ما أبرزته الرواية هو الهُوِيَّة الثقافية للشخصية الجنوبية في العراق التي عانت من تعسفٍ وجورٍ من كافة الصُعد، إذ تجيء الرواية لتحكي عن عالمٍ متكاملٍ من عوالم الريف الجنوبي. إنَّ إبراز هذه الهُوِيَّة بهذه الصورة الواقعية دون تدخلٍ من الكاتب يعطي تصوّرًا واضح المعالم عن بيئة العمل. إنَّ هذا العمل الجميل، يقدمُ تصوّرًا عقلانيًا حقيقيًا عن هُوِيَّة لبيئة كثيرًا ما تعرّضتِ للتهميشِ والقمع الممنهج طِوال حِقب وأزمان طويلة، فالروائيُّ أعطى أهمية أدبية لهذه البيئة ونقل صورة عنها عبر نقلهِ الإبداعي وليسَ النقل المُباشر.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *