طفل من خارج هذا الكوكب
المحامي كابي دعبول
قصدتُ هذا الصباح بناءً على توجيهات طبيب العيون أحد مستشفيات بيروت لإجراء فحص طارئ للعين اليسرى، ومن ثم تمّ تحويلي إلى عيادة الطبيب في المستشفى.
لاحظت طفلاً (١١ عامًا) يجلس في غرفة الانتظار في عيادة الطبيب مع أمّه وجدّته يقرأ كتابًا باللغة الإنكليزية غير آبهٍ بأصوات الاطباء والمرضى والمراجعين لدى السكريتاريا. فقلت في نفسي هذا جيّد.
ما أذهلني في هذا القارئ النهم، هو رفضه التوقف عن القراءة والتخلّي عن الكتاب عندما تمّ استدعاؤه إلى داخل العيادة، لكن تدخلّ والدته وفى بالمطلوب.
ما هي إلا دقائق حتى عاد الى غرفة الانتظار، تمهيدًا لاستكمال الفحص التدريجي الذي يقوم به أطباء العيون.
قرّرت أن أفتح حوارًا معه، بعد أن لفتَ انتباهي، إلا أنه عاد ليذهلني من جديد عندما بدأت حوارا مفتوحًا معه باللغة الإنكليزية التي يتقنها إتقانًا متينًا لا ريب فيه، فقد رفض أن يفصح لي عن اسمه عندما سألته عنه، رادًّا عليّ السؤال: ولماذا تريد معرفة اسمي؟ أنا لا أحبّ الإفصاحات (I don’t like disclosures) ومن ثمّ وجّه لومًا لاذعًا إلى جدّته لأنها أخبرتني (وهو داخل العيادة) باسم المدرسة التي يتابع فيها دروسه.
وكرّت سُبحة المفاجآت: الطفل الذكي لا يحبّ الهاتف الجوّال ويرفض اقتناءه على الإطلاق ويفضّل عليه الكتاب في كل الأحوال. هو خبير في الوصول إلى المعلومات الشخصية من خلال ال IP address وراح يُخبرني عن حساسية وأهمية وخطورة الوصول إلى المعلومات.
سألته عن المهنة التي يتطلّع إليها في مستقبل حياته، فأجاب من دون تردد وبسرعة فائقة بأنه سيكون رائد فضاء. وأخبرني رغم بخله بالإفصاحات التي لا يحبها بأنه زار مقرّ ال NASA في هيوستن.
سألني عن مهنتي وأهتمّ لأمرين: لكوني محاميّا ولكوني متخصّصًا في الطاقة. وبعد عدّة أسئلة وجّهها إلي (لم تخلُ من الصعوبات والإحراج) دعاني إلى التحدّي في لعبة الشطرنج. فقلت له: “تركت ممارسة اللعبة في مرحلة ما بعد الدراسة المدرسية”، ووعدته بأمرين: أن يتحدّى ابن شقيقتي غريس (جورج جونيور المفتون باللعبة) وبأن أعرّفه على الاستاذ ايلي خيرالله الذي ينظم مباريات عالمية في اللعبة في نادي الشطرنج في مدرسة الفرير فرن الشباك.
لم يخلُ كلامي له المتعلق بالوعدين من سيل من الاسئلة والاستجوابات.
بعد كل هذه الأحاديث والحوارات قدّمت له ال Business card الخاص بي، أخذه وراح يقرأ المعلومات الواردة فيه، (مولع بالمعلومات) ووعدني بأنه سيحتفظ به.
وقبل الوداع، دعوته للقيام بزيارة لي في المكتب، فوعدني خيرًا، واقترب مني وأطلعني على “سرّ كبير” من النادر أن يُطلع أحدًا عليه، عن شيء “منقطع النظير” يحتفظ به في مكان سري للغاية (لا يمكنني كشف السر) فسألته أن يكتب موضوعًا أو مقالةً باللغة الإنكليزية عن هذا النوع من الأشياء التي لا يجدها إلا أصحاب الحظوظ النادرة في البحث العلمي، فلمعت عيناه سائلاً بتعجّب: وهل أنت قادر على النشر وأين؟
وعدته بالنشر على موقع إلكتروني أو في صحيفة وسأبذل كلّ جهدي في سبيل ذلك إذا كتَبَ.
أيها الطفل الذي التقيت بك صدفة، كما التقى أنطوان دو سانت اكزوبيري بِ “الأمير الصغير”، وكأنك وفدتَ إلى عالمي من كوكب آخر، أهديتني الأمل من جديد، وسط هذا الجنون والمآسي التي يعاني منها الوطن.
حماك الله وأهداك مستقبلاً لائقًا بطموحك وبأحلامك الكبيرة.
شكرًا MS على هذه الإشراقة التي أعادت لي الروح…