سجلوا عندكم

فرن “أبو علي”

Views: 146

د. جان توما

تمرُّ الدنيا مرورًا كشهقةِ دُخَانٍ، كتنهّدِ عجوزٍ سكن الدنيا بفرحٍ وتعبٍ، وسكنته. ما لي ووجعُ الصّدرِ من زَفراتي، وقد مرَّ العمرُ وأيامُ حياتي بين بسمتي ودمعتي، فلا ارتجي إلّا سويعاتِ سرورٍ من دون انتظارِ نطقِ كلماتي ، أو لَمْعِ وجوهِ أبنائي الطالعةِ كنخيلِ واحةٍ من بعد تيه، أو كَرْجِ أحفادي كاستعادةِ عمرٍ ممتدٍّ كأحلامِ طفولةٍ، كالجالسِ تحتَ عريشةٍ، تظلّلُهُ عناقيدُ العنبِ، فلا يطالُها، فينصرفُ إلى لملمةِ الصعترِ البريّ و”الزوباع” من حفافي الأرضِ هناك، والعمرِ العتيق،

 ما همّي؟ وكرسيّي معي، ونرجيلتي تروي كالحكواتي ألفَ حكايةٍ وحكاية. تتنفّسُ معي الحكايا، وَتَعْبَقُ مساحاتُ المرايا، ارسمُ على رطوبتِها أسماءَ العاشقينَ، وأمحو وجوهًا كانت هنا ورحلَتْ، لتعودَ الملامحُ الأليفةُ من ذلك الزمنِ الجميلِ.

كانَتِ الكعكةُ صاحبةُ الجلالةِ هنا، في فُرْنِي العتيقِ، تتمايلُ بزعترِها خّجلى، قبلَ دخولِ بيتِ النارِ، يكويها اللهبُ فتلمعُ كثُرياتِ الذهبِ. كنتُ أغنّجُ العجينَ بيدّيّ قبل إصابتهما بالرجفة، وكنتُ أنثُرُ حباتِ الزعترِ الخضراءِ كَمَنٍ يرشُّ البذارَ بعد حرثِ التربةِ لتشعرَ وأشعرَ بالحياةِ.

كم كنتُ أفرحُ حينَ يتناولُ المشتهي “المنقوشة”، يقلّبها بين راحتيه لسخونتِها، يدنيها من شفتيه، يعالجُ حرارتَها وبُخارَها، يتناولُ لقمةً، يغمضُ عينيهِ كَمَنِ ابتلعَ طيّباتٍ مِن شدّةِ فقرِهِ إلى العجينِ اللجينِ، والزعترِ المحروق. لكأنَّ ” المنقوشةَ” القارةُ السادسةُ والحاسةُ السادسةُ والليالي المفقودة في قادومياتِ جلولِ العمرِ.

***

* فكرة النصّ من العميد محمد محسن

* اللوحة للفنان هاني بعيون ونشرها سهيل منيمنة على صفحته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *