سجلوا عندكم

“التجريب الروائي: بين غواية التجديد وغائية المعنى” للدكتورة هدى عيد… قراءة تفاعلية

Views: 129

 أ. د. سلطان المعاني

يُمثّلُ عنوانُ كتابِ التّجريبِ الرّوائيّ: بينَ غَوايةِ التّجديدِ وغائيّةِ المعنى للدّكتورةِ والرّوائيّةِ اللّبنانيّةِ هدى عيدٍ مفتاحًا دلاليًّا لفهمِ الإطارِ العامِ للنّصِّ النّقديِّ الذي يُقدِّمُهُ الكتابُ. حيث ينطوي العنوانُ على ازدواجيّةٍ تفاعلية تجمعُ بينَ مفهومينِ متناقضينِ، ولكنَّهما متكاملانِ في عمليّةِ الكتابةِ الرّوائيّةِ: التّجديدُ بوصفهِ خيارًا جماليًّا يُحفِّزُ الكاتبَ على تجاوزِ القوالبِ التّقليديّةِ للرّوايةِ، وغائيّةُ المعنى التي تعكسُ التزامًا معرفيًّا وأيديولوجيًّا يبحثُ عن العمقِ والدّلالةِ داخلَ النّصِّ. تُشيرُ عبارةُ “غَوايةُ التّجديدِ” إلى الحافزِ الإبداعيِّ الذي يدفعُ الكاتبَ إلى التّجريبِ، حيثُ تتجاوزُ الكتابةُ الحدودَ التّقليديّةَ عبرَ استحداثِ أشكالٍ سرديّةٍ وتقنيّاتٍ جديدةٍ قد تُسهمُ في إعادةِ تعريفِ العلاقةِ بينَ الكاتبِ والقارئِ، وبينَ النّصِّ ومرجعيّاتهِ. في المقابلِ، تُسلِّطُ “غائيّةُ المعنى” الضّوءَ على مسؤوليّةِ النّصِّ في إنتاجِ دلالاتٍ تحملُ بُعدًا فكريًّا وإنسانيًّا، ما يعني أنّ التّجريبَ لا يمكنُ أن يكونَ هدفًا معزولًا عن السّياقِ الثّقافيِّ والاجتماعيِّ.

هذا التّوتُّرُ بينَ الغَوايةِ والغائيّةِ يُشيرُ إلى إشكاليّةٍ أساسيّةٍ في النّظريّةِ النّقديّةِ للرّوايةِ الحديثةِ، حيثُ يتوجّبُ على الكاتبِ أن يُوازِنَ بينَ جماليّاتِ الشّكلِ وعمقِ المضمونِ. ويُوحي العنوانُ بأنّ الكاتبةَ تسعى إلى قراءةٍ نقديّةٍ معمّقةٍ لعمليةِ التّجريبِ الرّوائيِّ، تسبرُ من خلالها آفاقَهُ الفنيّةَ والفكريّةَ. كما أنّ استخدامَ مصطلحِ “غَوايةِ” يمنحُ البُعدَ الجماليَّ طابعًا شخصيًّا وانفعاليًّا، بينما يُضفي مصطلحُ “غائيّةِ” على المعنى صبغةً موضوعيّةً تنبعُ من رؤيةٍ شموليّةٍ تتجاوزُ السّردَ الفرديَّ إلى السّردِ الجماعيِّ. بالتّالي، يفتحُ العنوانُ أفقًا لتناولِ العلاقةِ بينَ الشّكلِ والمضمونِ، بينَ الإبداعِ الفنيِّ والالتزامِ الفكريِّ، وهو ما يعكسُ طبيعةَ المشروعِ النّقديِّ لهدى عيدٍ ككاتبةٍ تجمعُ بينَ التّخصّصِ الأكاديميِّ والممارسةِ الرّوائيّةِ.

وقد صدرَ الكتابُ للدّكتورةِ والرّوائيّةِ اللّبنانيّةِ هدى عيدٍ في طبعتهِ الأولى عامَ 2024 عن دارِ البيانِ العربيِّ للدّراساتِ والنّشرِ، وهو يعكسُ في محتواهُ نهجًا نقديًّا عميقًا، يتناولُ قضايا التّجريبِ في الرّوايةِ العربيّةِ بأسلوبٍ أكاديميٍّ رصينٍ، يُزاوجُ بينَ التّحليلِ النّظريِّ والاستشهادِ بالتّجاربِ الرّوائيّةِ، ممّا يجعلهُ إضافةً نوعيّةً للمكتبةِ النّقديّةِ العربيّةِ.

 

تنطلقُ الدّكتورة هدى عيد في قراءةٍ نقديّةٍ معمّقةٍ لستّةِ نماذجَ مختارةٍ من الرّوايةِ العربيّةِ المعاصرةِ التي كُتِبَت بينَ عامَي 2002 و2024. تشملُ هذهِ النّماذجُ أعمالًا متنوّعةً من حيثُ الموضوعاتِ والأساليبِ السّرديّةِ، وهي: مريم الحكايا لعلويّة صبح (2002)، والقوس والفراشة لمحمد الأشعريّ (2010)، ويا مريم لسنان أنطون (2012)، وهاء وأسفار عشتار لعزّ الدّين جلاوجي (2022)، وطريق الشّمس لعبد المجيد زراقط (2022)، وأخيرًا نزوح لحبيب عبد الرّب سروري (2024). تتّسمُ هذهِ الرّواياتُ بتنوّعِ مرجعياتِها الثّقافيّةِ والفكريّةِ، حيثُ تنتمي إلى سياقاتٍ جغرافيّةٍ وزمنيّةٍ مختلفةٍ، وتُعبّرُ عن تجاربَ إنسانيّةٍ متنوّعةٍ تحملُ أبعادًا اجتماعيّةً وفكريّةً وسياسيّةً.

وتحيلُ العنونةُ المقترحةُ للكتابِ إلى مصطلحينِ محوريينِ: الرّوايةِ وفعلِ التّجريبِ فيها، ما يُشيرُ إلى تركيزٍ نقديٍّ على حيوية تطوّرِ الرّوايةِ بوصفِها فضاءً مفتوحًا للتّجديدِ. يشيرُ النّصُ إلى أنّ الرّوايةَ من أبرزِ الأشكالِ الأدبيّةِ التي استثمرتْ اللّغةَ في بناءِ عوالمِها التّخييليّةِ، حيثُ يخلقُ الكاتبُ فضاءاتٍ إبداعيّةً تعبّرُ عن رؤاهُ الخاصّةِ من خلالِ استخدامِ التّخييلِ واللّغةِ كأداتينِ محوريّتينِ. ويُوضّحُ الكتاب أنّ الرّوايةَ لم تحتكمْ بعدُ إلى قانونٍ نهائيٍّ يُحدّدُ إطارَها، وهو ما يجعلُها مجالًا مُتجدّدًا للتّعبيرِ الأدبيّ، بما يُثري الأدبَ ويُجدّدُ الرّؤى. وهذا التّطوّرُ المستمرُّ للرّوايةِ يتّسقُ مع رؤيةِ تودوروف وباختين، حيثُ تُبرزُ فرديّةُ النّصوصِ الرّوائيّةِ وخصوصيّتُها في تشكيلِ حكاياتٍ لا وجودَ لها خارجَ سياقِها النّصّيِّ.

يُعَدُّ الكتابُ مَرجعًا نقديًّا جادًّا ومُعَمَّقًا في استقراءِ التَّحَوُّلَاتِ السَّرْدِيَّةِ للرِّوايةِ العَرَبِيَّةِ المُعاصِرَةِ. وهو يَتَميَّزُ بِرُؤيَةٍ نقديَّةٍ شاملةٍ تَجمعُ بينَ تأصيلِ مَفهومِ التَّجرِيبِ الرِّوَائِيِّ وتحليلِ نَماذجَ تَطبيقيَّةٍ في المَشهَدِ الرِّوَائيِّ العربيِّ. وتَنطَلِقُ المؤلِّفَةُ مِن فَرضِيَّةٍ أَنَّ التَّجرِيبَ لا يَنفَصِلُ عَنِ التزامِ النُّصوصِ بِإنتاجِ المَعنَى، إذ يَرتَبِطُ دَائِمًا بِغَايَاتٍ فِكرِيَّةٍ وأَخلاقِيَّةٍ تَتَجَاوَزُ مُجَرَّدَ الابتِكَارِ الفَنِّيِّ. ويُقَدِّمُ الكِتَابُ إطَارًا أَكَادِيمِيًّا صَارِمًا، ولكِنَّهُ مُمتِعٌ في الوَقتِ ذاتِهِ، مُستَعينًا بِمَنهَجِيَّاتٍ مُتعدِّدَةٍ كالسِّيميَائِيَّةِ، والبُنيوِيَّةِ، والتَّفكِيكِيَّةِ، وهو ما يَجعَلُهُ مُتَعَدِّدَ الأَصوَاتِ والنَّظَرِيَّاتِ.

وفي تَقدِيمِهَا للمفهومِ، تُبرِزُ المؤلِّفَةُ كَيفَ أَنَّ التَّجرِيبَ في الرِّوايةِ يُمَثِّلُ استِجَابَةً لِتَغَيُّرَاتٍ ثَقَافِيَّةٍ واجتِمَاعِيَّةٍ وسِيَاسِيَّةٍ. وتُؤكِّدُ أَنَّ الرِّوايةَ العَرَبِيَّةَ، مِثلَ مَثِيلَاتِهَا العَالَمِيَّةِ، عَاشَتْ سِلسِلَةً مِن التَّحَوُّلَاتِ مُنذُ مُنتَصَفِ القَرنِ العِشرِينَ، استِجَابَةً لِاضطِرَابَاتِ العَالَمِ العَرَبِيِّ، مِثلَ النَّكبَةِ والنَّكسَةِ وما تَلَاهُمَا مِن ثَورَاتٍ اجتِمَاعِيَّةٍ وسِيَاسِيَّةٍ. وتَستَعرِضُ الكاتِبَةُ كَيفَ جَاءَ التَّجرِيبُ كَرَدِّ فِعلٍ عَلَى تَقليدِيَّةِ الحُبكَةِ والنَّمطِ السَّردِيِّ، واستِبدَالِهِمَا بِأَنمَاطٍ أَكثَرَ انفتَاحًا عَلَى تَعَدُّدِ الأَصوَاتِ، وكَسرِ خَطِّيَّةِ الزَّمَنِ، وتَوظِيفِ تِقنِيَّاتٍ مِثلَ تِيَّارِ الوَعي، والمُونُولُوجِ الدَّاخِلِيِّ، والتَّدَاخُلِ الأَجنَاسِيِّ. في ذَلِكَ، تَستَفِيدُ المؤلِّفَةُ مِن قِرَاءَاتِ بَاختِين، وإِيكُو، وتُودُورُوف، لِتَضَعَ الرِّوايةَ العَرَبِيَّةَ في سِيَاقِهَا النَّقدِيِّ العَالَمِيِّ.

تَشتَمِلُ الدِّراسَةُ عَلَى سِتِّ رِوَايَاتٍ عَرَبِيَّةٍ تَمتَدُّ عَبرَ عَقدَينِ مِن الزَّمَنِ، مِن “مَرِيم الحَكَايَا” لِعلَوِيَّةِ صُبحٍ إِلَى “نزُوحٍ” لِحَبِيبِ عَبدِ الرَّبِّ سُرُورِي. هَذَا التَّوَسُّعُ الزَّمنِيُّ والجُغرَافِيُّ يُتِيحُ دِراسَةَ كَيفِيَّةِ تَطَوُّرِ التَّجرِيبِ الرِّوَائِيِّ في فَضَاءَاتٍ ثَقَافِيَّةٍ مُختَلِفَةٍ، مُوضِحًا كَيفَ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَحمِلُ قَوَاسِمَ مُشتَرَكَةً، مِثلَ التَّركِيزِ عَلَى تَفكِيكِ البُنيَةِ البَطرَكِيَّةِ، والنَّقدِ السِّيَاسِيِّ والاجتِمَاعِيِّ، مَعَ إِبرَازِ أَوجُهِ التَّمَيُّزِ لِكُلٍّ مِنهَا. مِن خِلالِ استِقرَاءِ العَنَاوِينِ، ومَضمُونِ النُّصُوصِ، وشَخصِيَّاتِهَا، وأَصوَاتِهَا السَّردِيَّةِ، تَتَنَاوَلُ المؤلِّفَةُ كَيفَ يُعِيدُ كُلُّ عَمَلٍ بِنَاءَ العَلَاقَةِ بَينَ النَّصِّ والقَارِئِ، وبَينَ النَّصِّ والوَاقِعِ.

وَاحِدَةٌ مِن أَبرَزِ مَزَايَا الكِتَابِ هِيَ تَقدِيمُهُ لِرُؤيَةٍ نَقدِيَّةٍ مَرِنَةٍ تُجَاهَ التَّجرِيبِ، إِذ يَرفُضُ التَّقْيِيدَ بِمَنهَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ. هَذَا التَّنَوُّعُ المَنهَجِيُّ يَسمَحُ بِتَحلِيلِ النُّصُوصِ مِن زَوَايَا مُختَلِفَةٍ، كَمَا يَظهَرُ فِي تَحلِيلِ تِقنِيَّةِ تَعَدُّدِ الأَصوَاتِ فِي رِوَايَاتٍ مِثلَ “هَاءٍ وَأَسفَارِ عِشتَارَ”، وَكِيفَ أَنَّهَا تُسقِطُ هَيمَنَةَ صَوتِ المُؤلِّفِ لِصَالِحِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ السَّردِيَّةِ. هَذِهِ الظَّاهِرَةُ، بِحَسَبِ المُؤلِّفَةِ، لَيسَت فَقط خِيَارًا جَمَالِيًّا، بَل هِيَ مَوقِفٌ سِيَاسِيٌّ ضِدَّ التَّسَلُّطِ بِكَافَّةِ أَشكَالِهِ.

وَتَتَّسِمُ اللُّغَةُ فِي الكِتَابِ بِالدِّقَّةِ الأَكَادِيمِيَّةِ مَعَ إِشَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِلَى المَرجِعِيَّاتِ النَّظَرِيَّةِ، مِمَّا يُثري فَهمَ القَارِئِ، وَلَكِنَّهُ قَد يُثقِلُ القِرَاءَةَ لِغَيرِ المُختَصِّينَ. وَتَتَّسِمُ بَعضُ التَّحلِيلَاتِ بِعُمقٍ فِلسَفِيٍّ كَبِيرٍ، كَمَا هُوَ الحَالُ فِي مُنَاقَشَةِ العَلَاقَةِ بَينَ العُنوَانِ وَالنَّصِّ فِي “مَريَمِ الحَكَايَا”، حَيثُ يُبرِزُ الكِتَابُ كَيفَ أَنَّ العُنوَانَ يُشَكِّلُ مِفتَاحًا دَلَالِيًّا لِفَهمِ النَّصِّ وَأَبعَادِهِ التَّأوِيلِيَّةِ.

يُعَدُّ هَذَا الكِتَابُ إِسهَامًا حقيقياً فِي الأَدَبِ النَّقدِيِّ العَرَبِيِّ الحَدِيثِ، إِذ يَضَعُ الرِّوَايَةَ فِي مَركَزِ النِّقَاشِ الثَّقَافِيِّ وَالفِكرِيِّ. يُبرِزُ قُدرَةَ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّعبِيرِ عَنِ القَضَايَا المُعقَّدَةِ وَالمُتَشَابِكَةِ لِلوَاقِعِ العَرَبِيِّ، مِن خِلَالِ تَجَاوُزِهَا لِلأُطرِ التَّقلِيدِيَّةِ لِلكِتَابَةِ. وَيَطرَحُ الكِتَابُ أَسئِلَةً عَمِيقَةً حَولَ العَلَاقَةِ بَينَ التَّجرِيبِ وَالجَمَالِيَّاتِ، وَالتِزَامِ النُّصُوصِ بِإِنتَاجِ المَعنَى. إِنَّهُ عَمَلٌ يُؤَسِّسُ لِخِطَابٍ نَقدِيٍّ جَدِيدٍ، يَدعُو القَارِئَ لِإِعَادَةِ التَّفكِيرِ فِي الرِّوَايَةِ كَجِنسٍ أَدَبِيٍّ يُجَدِّدُ نَفسَهُ بِاستِمرَارٍ، وَيَستَجِيبُ لِتَحَوُّلاتِ الإِنسَانِ وَالمُجتَمَعِ.

تَظهَرُ المُؤلِّفَةُ فِي هَذَا الكِتَابِ قُدرَةً عَلَى الجَمعِ بَينَ التَّنظِيرِ الأَكَادِيمِيِّ وَالتَّحلِيلِ الأَدَبِيِّ، مِمَّا يَجعَلُ مِن نُصُوصِهَا وَسِيلَةً لِفَهمِ التَّحَوُّلاتِ السَّردِيَّةِ لِلرِّوَايَةِ المُعَاصِرَةِ فِي العَالَمِ العَرَبِيِّ. وَيُقدَّمُ الكِتَابُ كَجِسرٍ بَينَ الأَكَادِيمِيَّةِ وَالإِبدَاعِ، حَيثُ يُمكِنُ لِلقُرَّاءِ، الأَكَادِيمِيِّينَ وَالمُبدِعِينَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، استِلهَامُ أَدَوَاتٍ جَدِيدَةٍ لِاستِكشَافِ إِمكَانِيَّاتِ النُّصُوصِ السَّردِيَّةِ.

يُعَدُّ الكِتَابُ “التَّجريبُ الرِّوائي: بَيْنَ غَوَايَةِ التَّجديدِ وَغَايَةِ المَعْنَى” مَرْجِعًا نَقْدِيًّا مُهِمًّا فِي دِرَاسَةِ التَّحَوُّلاتِ السَّرْدِيَّةِ فِي الرِّوَايَةِ العَرَبِيَّةِ المُعَاصِرَةِ. وَتَسْعَى المُؤَلِّفَةُ فِيهِ إِلَى اسْتِكْشَافِ سِتِّ رِوَايَاتٍ تُمَثِّلُ تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةً فِي الإِبْدَاعِ السَّرْدِيِّ، مُتَجَاوِزَةً السِّيَاقَاتِ التَّقْلِيدِيَّةَ لِلرِّوَايَةِ نَحْوَ آفَاقٍ تَجْرِيبِيَّةٍ مُبْتَكَرَةٍ. وَيَتَّسِمُ العَمَلُ بِنَظْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ مُعَمَّقَةٍ تَتَنَاوَلُ الجَوَانِبَ الفَنِّيَّةَ وَالمَوْضُوعِيَّةَ لِكُلِّ رِوَايَةٍ، مُسْتَكْشِفَةً كَيْفَ يُمْكِنُ لِلتَّجْرِيبِ أَنْ يَتَجَاوَزَ كَوْنَهُ غَايَةً جَمَالِيَّةً لِيُصْبِحَ وَسِيلَةً لِفَتْحِ فَضَاءَاتٍ فِكْرِيَّةٍ وَفَنِّيَّةٍ جَدِيدَةٍ.

تُقَدِّمُ الرِّوَايَةُ الأُولَى، “مَرْيَمُ الحَكَايَا” لِعَلْوِيَّةِ صُبْحٍ، نَمُوذَجًا لِرِوَايَةٍ تَسْتَكْشِفُ القَهْرَ النِّسْوِيَّ فِي سِيَاقَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ قَمْعِيَّةٍ. وَتُسَلِّطُ المُؤَلِّفَةُ الضَّوْءَ عَلَى كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّاتِ النِّسَائِيَّةِ فِي النَّصِّ وَعَلاقَتِهَا بِالعَالَمِ المُحِيطِ، حَيْثُ يَتَّخِذُ السَّرْدُ بُعْدًا تَفْكِيكِيًّا لِلأَنْسَاقِ البَطْرِيرْكِيَّةِ المُهَيْمِنَةِ. فَالرِّوَايَةُ، كَمَا تُشِيرُ المُؤَلِّفَةُ، تَتَلَاعَبُ بِالزَّمَنِ السَّرْدِيِّ، مُتَنَقِّلَةً بَيْنَ الحَاضِرِ وَالمَاضِي لِتَكْشِفَ عَنْ طَبَقَاتِ القَهْرِ المُتَرَاكِمَةِ، مُعْتَمِدَةً لُغَةً ذَاتَ بُعْدٍ شِعْرِيٍّ تَأَمُّلِيٍّ، مِمَّا يَجْعَلُ النَّصَّ أَقْرَبَ إِلَى قَصِيدَةٍ سَرْدِيَّةٍ طَوِيلَةٍ. يَتَجَلَّى التَّجْرِيبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي كَسْرِ القَوَالِبِ النَّمَطِيَّةِ لِشَخْصِيَّاتِ المَرْأَةِ وَإِعَادَةِ تَقْدِيمِهَا كَذَوَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَمُتَمَرِّدَةٍ.

تَعْكِسُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، “يَا مَرْيَمُ” لِسِنَانِ أَنْطُون، صِرَاعَ الهُوِيَّاتِ فِي العِرَاقِ مِنْ خِلَالِ ثُنَائِيَّةِ الشَّخْصِيَّاتِ الرَّئِيسِيَّةِ، يُوسُفَ وَمَها. تَبْرُزُ المُؤَلِّفَةُ كَيْفِيَّةَ تَدَاخُلِ وَجْهَتَيِ النَّظَرِ فِي النَّصِّ، مِمَّا يَخْلُقُ صَوْتًا سَرْدِيًّا حِوَارِيًّا يَتَفَاعَلُ مَعَ الوَاقِعِ السِّيَاسِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ المَأْزُومِ. تَرَى المُؤَلِّفَةُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَعْتَمِدُ التَّجْرِيبَ عَبْرَ تَوْظِيفِ الذَّاكِرَةِ كَأَدَاةٍ لِاسْتِرْجَاعِ المَاضِي وَإِعَادَةِ بِنَاءِ الحَاضِرِ، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ الزَّمَنُ إِلَى شَخْصِيَّةٍ خَفِيَّةٍ فِي النَّصِّ. هَذَا التَّلَاعُبُ بِالزَّمَنِ وَالتَّقَاطُعُ بَيْنَ الشَّخْصِيِّ وَالجَمَاعِيِّ يَفْتَحُ أَبْوَابًا لِلتَّأْوِيلِ حَوْلَ طَبِيعَةِ الانْتِمَاءِ وَالهُوِيَّةِ.

أَمَّا فِي “القَوْسِ وَالفَرَاشَةِ” لِمُحَمَّدِ الأَشْعَرِيِّ فتَرَى المُؤَلِّفَةُ أَنَّ التَّجْرِيبَ يَتَمَثَّلُ فِي المَزْجِ بَيْنَ السَّرْدِ الوَاقِعِيِّ وَالفَانْتَازِيَا الرَّمْزِيَّةِ. تَعْكِسُ الرِّوَايَةُ التَّوَتُّرَ بَيْنَ الحُلْمِ وَالوَاقِعِ مِنْ خِلَالِ اسْتِحْضَارِ عَوَالِمَ رَمْزِيَّةٍ مِثْلَ الفَرَاشَةِ كَرَمْزٍ لِلهَشَاشَةِ وَالجَمَالِ، وَالقَوْسِ كَرَمْزٍ لِلصِّرَاعِ وَالقُوَّةِ. وَتَتَنَاوَلُ المُؤَلِّفَةُ البِنَاءَ السَّرْدِيَّ لِلرِّوَايَةِ، مُشِيرَةً إِلَى كَيْفِيَّةِ تَفْكِيكِ النَّصِّ لِلتَّارِيخِ الشَّخْصِيِّ وَالجَمَاعِيِّ وَإِعَادَةِ تَرْكِيبِهِ بِأُسْلُوبٍ يَتَّسِمُ بِاللَّعِبِ السَّرْدِيِّ وَاللُّغَةِ المُكَثَّفَةِ. تُقَدِّمُ الرِّوَايَةُ نَمُوذَجًا لِتَجْرِيبٍ يَعْتَمِدُ عَلَى التَّدَاخُلِ بَيْنَ الفُنُونِ البَصَرِيَّةِ وَالكِتَابَةِ السَّرْدِيَّةِ، مِمَّا يَخْلِقُ نَصًّا مُتَعَدِّدَ الأَبْعَادِ.

يَتِمُّ التَّرْكِيزُ فِي رِوَايَةِ “القوس والفراشة” للأشعريّ عَلَى الانْقِسَامِ السِّيَاسِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ فِي المغرب، حَيْثُ تَسْتَعْرِضُ الدُّكْتُورَةُ هُدَى عِيدٍ كَيْفِيَّةَ تَمَحْوُرِ السَّرْدِ حَوْلَ شَخْصِيَّةِ الصّحافيّ العلماني يوسف بِاعْتِبَارِهِ رَمْزًا لِلتَّمَرُّدِ وَالانْكِسَارِ فِي آنٍ وَاحِدٍ. وَيَظْهَرُ التَّجْرِيبُ فِي الرِّوَايَةِ فِي التَّدَاخُلِ بَيْنَ السَّرْدِ السِّيَاسِيِّ وَالسَّرْدِ الشَّخْصِيِّ، حَيْثُ تَتَحَوَّلُ السِّيرَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلْبَطَلِ إِلَى مِرْآةٍ لِلتَّحَوُّلَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ. تَعْتَمِدُ الرِّوَايَةُ عَلَى بِنْيَةٍ سَرْدِيَّةٍ دَائِرِيَّةٍ، حَيْثُ تَبْدَأُ وَتَنْتَهِي بِنُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ، مِمَّا يُعَكِّسُ تَكْرَارَ الأَحْدَاثِ وَانْغِلاقَ الدَّائِرَةِ التَّارِيخِيَّةِ.

وَفِي رِوَايَةِ “نُزُوحٍ” لِحَبِيبِ عَبْدِ الرَّبِّ سُرُورِي، تُبْرِزُ المُؤَلِّفَةُ كَيْفَ يُوَظِّفُ الكَاتِبُ الخَيَالَ العِلْمِيَّ كَأَدَاةٍ لِلتَّجْرِيبِ السَّرْدِيِّ. وَتَتَنَاوَلُ الرِّوَايَةُ قَضَايَا بِيئِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً مُعَاصِرَةً مِنْ خِلَالِ سَرْدٍ مُسْتَقْبَلِيٍّ يَتَجَاوَزُ حَدَّيِّ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، وَكَيْفِيَّةَ اسْتِثْمَارِ الرِّوَايَةِ لِلْعِلْمِ وَالتِّكْنُولُوجِيَا كَعَنَاصِرَ سَرْدِيَّةٍ، مِمَّا يَفْتَحُ آفَاقًا جَدِيدَةً فِي الأَدَبِ العَرَبِيِّ. يَعْكِسُ النَّصُّ تَنَاقُضَاتِ الإِنْسَانِ الحَدِيثِ بَيْنَ اسْتِغْلَالِهِ لِلطَّبِيعَةِ وَسَعْيِهِ إِلَى إِنْقَاذِهَا، مِمَّا يَطْرَحُ تَسَاؤُلاتٍ فَلْسَفِيَّةً حَوْلَ المَسْؤُولِيَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ وَمُسْتَقْبَلِ الكَوْكَبِ.

يَبْرُزُ تَحْلِيلُ المُؤَلِّفَةِ لِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَعَدُّدِيَّةَ التَّجْرِيبِ فِي السَّرْدِ العَرَبِيِّ، حَيْثُ لَا يَتِمُّ التَّعَامُلُ مَعَهُ كَغَايَةٍ جَمَالِيَّةٍ فَحَسْبُ، بَل كَأَدَاةٍ لِاسْتِكْشَافِ تَعْقِيدَاتِ الوَاقِعِ. كَمَا تَرَى أَنَّ الرِّوَايَاتِ السِّتَّ تَشْتَرِكُ فِي كَسْرِ القَوَالِبِ التَّقْلِيدِيَّةِ وَتَقْدِيمِ عَوَالِمَ سَرْدِيَّةٍ مُبْتَكَرَةٍ تَعْكِسُ هُمُومًا إِنْسَانِيَّةً عَمِيقَةً. جَاءَتِ اللُّغَةُ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ أَدَاةً لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الوَاقِعِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهِ. بِهَذَا، يُصْبِحُ التَّجْرِيبُ وَسِيلَةً لِإِعَادَةِ التَّفْكِيرِ فِي حُدُودِ الأَدَبِ وَوَظَائِفِهِ.

إِنَّ قِرَاءَةَ المُؤَلِّفَةِ هُدَى عِيدٍ لِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ تُعَدُّ إِسْهَامًا نَقْدِيًّا مُتَمَيِّزًا فِي الإِرْثِ الثَّقَافِيِّ العَرَبِيِّ، حَيْثُ تُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى دَوْرِ التَّجْرِيبِ السَّرْدِيِّ كَفِعْلٍ إِبْدَاعِيٍّ يَتَجَاوَزُ الحُدُودَ التَّقْلِيدِيَّةَ لِلنَّوْعِ الأَدَبِيِّ. يَتَّسِمُ الكِتَابُ بِتَنَوُّعِ مَنَاهِجِهِ النَّقْدِيَّةِ، مِمَّا أَتَاحَ قِرَاءَةً شَامِلَةً وَمُتَعَدِّدَةَ الأَبْعَادِ لِلنُّصُوصِ الرِّوَائِيَّةِ السِّتِّ، حَيْثُ تَجَلَّتْ السِّيمِيَائِيَّةُ وَالبِنْيَوِيَّةُ وَالتَّفْكِيكِيَّةُ كَمَرَاكِزِ مَنْهَجِيَّةٍ تَمَّ تَطْوِيعُهَا بِمَرُونَةٍ لِتَحْلِيلِ التَّشْكِيلِ السَّرْدِيِّ وَالدَّلَالَاتِ الرَّمْزِيَّةِ فِي هَذِهِ الأَعْمَالِ.

عَبْرَ المَنْهَجِ السِّيمِيَائِيِّ، تَجَلَّتْ عِنَايَةُ المُؤَلِّفَةِ بِالْعَتَبَاتِ النَّصِّيَّةِ، كَمَا فِي دِرَاسَةِ عُنْوَانِ رِوَايَةِ “مَرْيَمُ الحَكَايَا”، حَيْثُ يُشَكِّلُ العُنْوَانُ نُقْطَةَ انْطِلَاقٍ تَأْوِيلِيَّةً لِفَهْمِ العَمَلِ، وَيكْشِفُ عَنْ أَبْعَادٍ عَاطِفِيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ تَتَناغَمُ مَعَ الحَكْيِ وَتُضْفِي عُمْقًا دَلالِيًّا عَلَى الشَّخْصِيَّاتِ وَالْحَدَثِ. مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، اِسْتَخْدَمَتِ التَّفْكِيكِيَّةَ كَأَدَاةٍ لِفَكِّ التَّوَتُّرَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالتَّنَاقُضَاتِ النَّصِّيَّةِ، كَمَا فِي روايتها “سُلْطَان وَبَغَايَا”، حَيْثُ أَظْهَرَ التَّحْلِيلُ التَّشَابُكَ بَيْنَ الصِّرَاعِ الشَّخْصِيِّ وَالمَكَانِيِّ وَالثَّقَافِيِّ. فِي هَذَا السِّيَاقِ، كَانَتِ التَّنَاقُضَاتُ مَوْرِدًا لِتَأْوِيلَاتٍ مُتَجَدِّدَةٍ تُبْرِزُ غِنَى النَّصِّ وَتَعْقِيدَهُ. كَذَلِكَ، أُفِيدَ مِنَ المَنَاهِجِ السُّوسْيُولُوجِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ فِي دِرَاسَةِ “طريق الشّمس” لعبد المجيد زراقط، حَيْثُ تَمَّ تَفْكِيكُ أَبْعَادِ الشَّخْصِيَّاتِ وَدِرَاسَةُ تَأْثِيرِ الوَاقِعِ الاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ عَلَى تَطَوُّرِهَا، مِمَّا كَشَفَ عَنْ صِرَاعَاتٍ دَاخِلِيَّةٍ تَعْكِسُ المَشَاهِدَ الأَوْسَعَ فِي المُجْتَمَعِ. 

فِي غَمْرَةِ هَذِهِ القِرَاءَاتِ، تَتَجَلَّى قُدْرَةُ الرِّوَايَةِ العَرَبِيَّةِ عَلَى تَجَاوُزِ الحُدُودِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَتَعْبِيرِهَا عَنْ التَّحَوُّلَاتِ الثَّقَافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ فِي إِطَارٍ جَمَالِيٍّ جَدِيدٍ. ويَأْتِي هَذَا الكِتَابُ كَمُسَاهَمَةٍ نَقْدِيَّةٍ تَفْتَحُ آفَاقًا جَدِيدَةً لِدِرَاسَةِ السَّرْدِ العَرَبِيِّ الحَدِيثِ، مُوَفِّرَةً أُطُرًا نَظَرِيَّةً وَتَطْبِيقِيَّةً تُثْرِي الحِوَارَ الأَدَبِيَّ وَالثَّقَافِيَّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *