حديقة شيزوفرينية المظهر فلسفية الجوهر

Views: 102

 د. خلود الدمشقي

في صفحات كتاب “حديقة غودو”  لأدهم الدمشقي، نغوصُ في رحلةٍ أدبية فريدة من نوعها، رحلة تبدأ بعنوان “مؤخرة لكتابٍ ذيلُه مهزوز”. هذه العبارة، المليئة بالتناقضات والغموض، تفتح لك نافذة على عالم من الأفكار المتداعية، عالم يمزج بين مرارة الواقع وحلاوته، بين الذاكرة والحاضر، بين طفولة بريئة شلّع أضلعها الفقر، وبلد غارق في الفوضى، يغتالُ خيوط الأمل.

يُشبه أسلوب الكاتب في هذه المقدمة أسلوب مريض الفصام، حيث تتداعى الأفكار من دون ترتيب منطقي، رغم ادعائه عكس ذلك “كان رأسي حديقة مرتبة”، لكن سرعان ما ينقل الكاتبُ القارئَ الى فوضى الكلمات التي تشبه بيروت الخراب.  هذه المشهدية الشيزوفرينية المظهر، ليست إلا شريطا لذاكرة مثقلة بصدمات نهش بها الواقع لحم طفولته. مقدمة  تتداخل فيها الصور والأحداث بشكلٍ مُربك، تشعر بها كما الكاتب “بدوار بلعيان بغثيان”. لكن سرعان ما تدرك أن هذه الفوضى الظاهرية ليست سوى قناع يخفي وراءه فلسفة عميقة، ورؤية ثاقبة للواقع.

من خلال استدعاء الذكريات المبعثرة المنظمة، يرسم الكاتب صورة لبلده المشتت المتشظي كما طفولته. يستخدم منهجية لسردٍ لا يُشبه رتابةَ المدينة “قصص المدينة صارت مملّة”، بل يكرج  نصّه من دون علامات وقف، وإن حدثَ، فهي ليست إلّا ثلاث نقاطٍ (…) تُلزم القارئ بتداعٍ قد يكون أكثر فصامًا. 

 

رحلة هذا الكتاب لا تنتهي عند هذه المقدمة، بل تستمر من خلال نص مسرحي لا يقل اضطرابا عن المقدمة في الظاهر.

ففي هذا النص، نلتقي بشخصية ذاك الصبيّ الذي ولد “وحيداً بين دجاجات خمس” احداهنّ أنا، ذاك الصبيّ الذي أضاع هُويّته في عالم فيه كل شيء إلاّ السلام الذي يحمل عنوان هذا النص، عالم صامت يجلد الكاتبُ فيه اللهَ بعدَ أن ينطوي في ظلمةِ وحدَتِه. نصّه المسرحي يقلق الجمهور حين يدخل فجأة ، في أثناء العرض، عامل التّوصيل (الديليفري) ليَسألَ الجمهور:  “حدا طالب طاووق هون” فيجيبُ صوتُ أحد المُمثِّلين الذي يجلسُ بين الجمهور: “إيه أنا”، قلقٌ يخلقه الكاتب كي لا تنفصل عن نصه بل تصبح جزءًا منه دون إذن أو دستور. وتكرّ سبحة الذكريات المؤلمة لهذا الشاب الذي كاد ينفق كبعوضة من شدة الإحباطات التي طعنته بها الحياة في بلد مفصوم مقسوم، فراح ينفق ما تركه له بلده اللص “على السكاكر والوجبات” وهي آلية دفاعية نفسية لم تسهم إلا في إثقال جسده “السمين” المفجوع لوطن يلعنك إن رغبت في شراء “الألوان وألواح الرسم”. شعور الذنب هذا الذي نهش رأس الكاتب منذ الطفولة، وهو الصبي الوحيد بين خمس “دجاجات” كاد أن يرديه ميتاً حين نقله الى مستوى المسؤولية الوطنية. 

جلجلة الآلام هذه خلاصها لقاءُ الكاتب الذي طوّر اضطرابات نفسية جمّة بأحد أمهر المعالجين النفسيين: “غودو”، وهو كلب من نوع الغولدن ريتريفير. غودو المنتظَر هذا كان أصدق من غودو صاموئيل بيكيت، وصل مُحمَّلًا بكل الخبرات اللازمة لإنقاذ الكاتب المضطرب، كان غودو خبيرا في كل تقنيات العبط، يمدّ لسانه ببراعة ويهزّ ذيله بمهارة نقلت الكاتب الى عالم أكثر واقعية فنزل من علياء احباطاته وركام أحلامه ليحادث الناس بسطحية شفائية عجائبية. درّب غودو صاحبَه على مهارات إدارة الأزمات، وعلّمه كل تقنيات العبط التي نقلته الى قوة خارقة يواجه بها جنون بلده، إذ يؤكد الكاتب شفاءَه حين يعلن: ” قد تحدث انفجارات أخرى، لكني هذه المرّة لن أركض، لن أهرب، لن أخاف، سأهزّ ذيلي فرحًا، وأمدّ لساني ضاحكًا للموت، سُعداءُ نحنُ في قبورنا”.

 

لا تنتهي عجائب هذا الكتاب هنا، بل ينقلك بعدها إلى مجموعة جديدة من نصوص متجمرة كعُرف الديك وكأنّ الكاتب لا يريدك أن تطمئن وتستقر بل يريدك قلقًا مترقّبًا كبيروت لانفجارات واضظرابات ستضجّ بها التحليلات النفسية. هذه النصوص لا تقل عنفًا وألمًا وبعدا إنسانيا فلسفيًّا عن النصوص الأولى.

والأغرب من ذلك كله، أن الكاتب ينهي كتابه بنص عنونه “المقدمة،” وكأنه يُصرّ على التنّقل من اضطراب لآخر فيصدم بذلك القارئ الذي تمنّى لو أنّ عجيبة غودو كانت خاتمة سعيدة لقصة بلدية مألوفة. لكن الكاتب يصفعك  بتطوير علاقة مرضية جديدة مع بيروت حيث يصرّح ويؤكد إتقانه دور الضحية في علاقة نرجسية مع هذه المدينة التي روَضت أبناءها وجعلتهم يدمنون المعاناة والإساءة، ويعلن الكاتب انتماءه وبحسم لبيروت النرجسية، “لن أهجر هذه المدينة”  ضاربًا عرض الحائط كل المحاولات التي يقوم بها الأكاديميون لعلاج الاضطرابات النفسية ولِشفائنا من العلاقات السامة مؤكِّدًا للجميع أنَّ تلك العلاجات والمحاولات لا تجدي نفعًا مع المبدعين، فاضطراباتهم هي العلاجات النّاجعة للآخرين.  

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *