أزمة الهُويّة الإنسانيّة في روايةِ “حجر السعادة” للروائيّ أزهر جرجيس
إبراهيم رسول
يعيشُ الإنسانُ منذ لحظةِ ولادته حتّى نهايةِ حياته أزمة قدْ تؤثرَ على سلوكه ونمط حياته، فنحنُ نبحثُ عن هُويّاتٍ لا يد لنا بخلقها، ولكننا ننتمي إليها قسرًا بحكم الظرف الطبيعي الذي نُولد فيه، هكذا اِشتغلت العديد من الروايات العربية والعراقيّة وأخصّ بالذكر رواية “زهر الرمان” للروائي عبد الحكيم الوائلي وزينب لعارف الساعدي ورواية “حجر السعادة” لأزهر جرجيس، إلاّ أنَّ لكلِّ منهم طريقته الخاصّة في خلقِ عوالمهِ السرديّة، وما أجدهُ في هذه الرواية، التي أقرأ بطبعتها السادسة الصادرة عن دار الرافدين في سنة 2023، هو بحثٌ عن هُويّةٍ ضائعةٍ أو مُهشمةٍ، فالشخصيةُ الرئيسة تتنقل بين مدينين الموصل وبغداد بهُوية مضطربة وهذا الاضطراب ولدَ حالة من القلق والتشتت والضياع والضعف، فقرأنا على لسان بطل رواية زهر الرمان للروائي عبد الحكيم كيف يقول البطل: مَن مِن الناس بلا ماضٍ ملتبسٍ بنحوٍ أو آخر له أو لأسرته، الفرق بيني وبينهم أنني عرفتُ وغيري لمْ يعرف بعد. قالَ هذه المقولة بعد أنْ اكتشفَ هُويته غير الشرعية، ولكن حتّى هذه الهوية أعطته فرصة للتمتعِ بالسعادة والاستقرار النفسيّ، أما في رواية حجر السعادة فالبطلُ كمال يعيشُ اغترابًا منذ طفولته حتَّى آخر سطر من الرواية.
القلق النفسيّ
شخصياتُ أزهر جرجيس، هي شخصياتٌ تعيشُ قلقًا منذ بداية حياتها حتَّى مستقرّ السرد أخيرًا، فالفضاء ُ الذي تعيش فيه هو فضاء يبعث إلى القلق النفسيّ، فنحن نقرأ في هذه الرواية قصة حياة مصور فوتوغرافي، يبدأُ حياته طفلاً معذبًا مكسور الخاطر، أمه ميّتة ويعيشُ مع أخته وأخيه من أبيه، يتحملُ الاهانات والكلمات التي تخدش روحه من أبيه زوجته، ينعته والده بمفردة الساقط التي يحلينا الكاتب إلى سبب تسميتها، وهي أنَّه كانَ في الصفِ وقررَ أنْ يتجرأ ويكسر حاجز الخوف ويقف أمام التلاميذ ويقول: نحن جئنا من الطبيعة، كالعاقول.
ثم أردفتُ كالببغاء: يا جماعة، يا جماعة، صدّقوني لا رب لنا سوى الطبيعة، (الرواية: 56)، ولمّا سمع المعلم هذه الكلمة وبخّه على مقولته، ولكن كمال الشخصية الرئيسة استمرّ في الحديث حتَّى قال له المعلم: لن تعود ما لم تحضر وليّ أمرك، يا ساقط! (الرواية: 56).
“نظرية العاقول”
نظرية العاقول هي نظريةٌ خرجت من الحانة من صديق والد كمال، السكير الذي كان يُحدّث الجماعة الذين حوله فحفظها كمال وقالها لمعلم اللاهوت في المدرس، السؤالُ الذي يدورُ للوهلةِ الأولى، هو طريقة الكاتب في اطلاق الأسئلة، وبثّ هذه الأفكار عبر لسان طفلٍ صغير وبطريقة ساخرة، وهنا نسجّل للكاتب المهارة الإبداعية، فالكاتبُ يوظفُ الشخصية توظيفًا إبداعيًا بحيث أننا نقرأ النظرية من خلالِ كائنات حيّة، فإذا أرادَ مخرجٌ ما، ترجم هذه الرواية إلى فيلم أو مسلسل، لن يسقط من الرواية الشيء الكثير، بلْ سيحذف منها فقط أدبيتها أيْ الجانب الأدبي فحسب، أما حركة الشخصيات فستبقى فاعلة ومؤثرة، فنظرية العاقولُ جاءت على لسان كائن حي، وهي نظريةٌ جريئةٌ إلاّ أنَّها تتفقُ وحالة الكره الذي كان يضمره كمال لوالده نتيجة المعاملة السيئة والتنكيّل المستمرّ.
كمال إنسانٌ طيّبٌ، ولكنه غير محظوظ في كلِّ حياتهِ، أزمة الهُويّة عنده بقيت ترافقه حتَّى آخر الرواية، فهو يبحثُ عن الأمنِ والاستقرار والحياة الكريمة، فالمكانُ ضاق به وهو مدينة الموصل لكن مدينة بغداد على سعتها لمْ تكن أمًا حنونة عليه، فالهُوية غائبة عند كمال، وكأنْ العملَ الإبداعيّ قررَ أنْ يتنازلَ عن الهُويات كلّها مقابل هُوية واحدة، وهي الأهم من بين كلّ الهُويات ألا وهي الهُوية الإنسانية للفردِ، نحنُ ننتمي إلى هُويات جماعية جبرًا، ولمْ ننتمي إلى هُويتنا الإنسانية التي تعنى بإنسانية الفرد بما هو فردٌ يعيش مع مجموعة، لهذا صارَ الاهتمام للهُوية الجماعية، في شخصية كمال، تبرز إلى الأمام هُويته الإنسانية وتكون الهُويات الأخرى بالخلف، وهذا شيءٌ بديعٌ من الكاتب، أنَّه كسر النمطية السائدة في الكتابات السردية، فهو يمارسُ لُعبته الفنيّة بإتقانٍ عجيبٍ. فالأزمةُ الكبرى التي نقرأها في هذه الشخصيّة هي أزمة الهُوية الإنسانية التي عانى ما عانى في سبيلها البطل الرئيس في الرواية.
مفارقة غريبة
ثمّة مفارقة غريبة في سرديات أزهر جرجيس، فأنت تجد هذه المفارقة في أعمالهِ الإبداعيّة تبرز بصورة واضحة في روايته حج السعادة ووادي الفراشات، إذْ على الرغمِ من السخرية التي يجعل منها أسلوبًا بنائيًا في حوارات الشخصيّة إلاّ أنَّه ضحكٌ ممزوجٌ بالبكاء! هنا مفارقة إبداعيّة تستحقّ أنْ يُفردَ الحديث فيها مفصلًا كونها ميزة قدْ تجلّت بوضوح في هاتين الروايتين.
الأسلوبُ الساخرُ هو أسلوبٌ صعبٌ ولا يجيدهُ إلاّ الكاتب المحترف فكيف بمن يجعل في الضحك بكاء! هنا تبدو صنعة الكتابة التي هي خليطٌ من موهبة وتجربة ودربة ومران، فيجيء النصُ بديعًا بصورةٍ مشوّقةٍ لا تجد لحظة ملل فيما تقرأ.
نقرأُ في هذه الرواية القصة الكاملة من العذاب الإنسانيّ لإنسانٍ يتيم من السعادة والفرح، فحياتهُ كفاحٌ كبيرٌ، عاش الحرمان والتمييز بينه وبين أخيه من أبيه، كانَ كمال يحبّ أخيه، ويكن له أعظم المودة على الرغم من الأسباب الكثيرة التي تدعوه للحنقِ عليه وكرهه وعلى نحوٍ أخص من قبل التعنيف والإذلال الذي تمارسه زوج أبيه، كمال قصة كفاح تستحقّ أنْ يمعنَ النظر فيها الناس لكيْ يتعظوا بأنَّ الحياة تكون ظالمة في أحيان كثيرة وظلمها قدْ يستمر من البداية حتَّى النهاية وهذا شيءٌ يحيلنا إلى قولٍ منسوبٍ للإمام علي بن ابي طالب ورد في نهج البلاغة: أن الدنيا إذا أقبلت على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإنْ أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.( نهج البلاغة: قصار الكلمات)، نعم، كمال أدبرت عنه الدنيا فسلبته محاسن نفسه، وجعلته يعيش الألم في كلِّ سنيين حياته.
الطريقةُ الأسلوبيةُ للكاتب أزهر جرجيس، تستدعي أنْ نقفَ عندها، فهو ساردٌ محترفٌ، يعرفُ بعوالم السرد التي تُزيد القراءة تشويقًا، فأنت حين تقرأ له أيّ عملٍ لا يمكن لكَ أنْ تنشغلَ بغيرهِ في الوقتِ ذاته، فهو يأخذك إلى عوالمهِ السردية بأسلوبه المتميز، لهذا تجدهُ يستعملُ أسلوب السخرية لكن سخريته من النوع التراجيدي وأحسب أنَّ هذه القدرة التصورية هي ما يُميّز هذا المبدع، فأنت تضحك ولكن الدموع لا بُدَّ انْ تنهمر! هذا الشيء جعلَ الكاتب يميلُ إلى المفارقة الأسلوبية التي تجمع النقيضين، وهذانِ النقيضانِ ساهما في عنصر التشويق الذي يجعلك تقرأ الرواية وتغوص في عوالمها من دونِ أنْ يسرح بكل الخيال أو تُصاب بأيِّ تشتتٍ ذهنيٍّ، هذه الأعمالُ الإبداعيّة تؤثر فينا وتمكث طويلاً لأنَّها لامست القيمة الإنسانيّة، والكاتبُ فنانٌ في اللعب بالوتر الإنسانيّ الذي يجعلنا نتعلق بشخصياته ونكاد أنْ نبكي لبكائها ونحزن لحزنها ونضحك من سخريتها، هذه الكائنات البشريّة المكتوبة المكتوبة صفاتها عبر الحبر على الورق، هي كائناتٌ حيّةٌ فيّنا، هذه النزعة الإنسانيّة التي تتميز بها أعمال أزهر جرجيس تستحق هذه المنزلة الرفيعة، فالروايةُ وصلتْ إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية المخصصة للرواية، وأزعم أنَّها تستحق ذلك، بسبب الكم الإنسانيّ العظيم الذي يتجلّى فيها، كمال لمْ يكن شخصًا عراقيًا مَوْصليًّا أو بغداديًّا، بلْ هو الإنسان المعذب في أيّ أرضٍ كان وفي أيّ زمان وُجد.
فلسفة العذاب الإنساني
إنَّ غلبةَ النزعة الإنسانيّة الهُويّاتية في الرِّوايةِ يجعلها تصل إلى قلب القرّاء قبل عقولهم، فالروايةُ ليستْ لُعبة ممتعة نتسلّى بها، فنحنُ قرأنا في هذه الروِّاية فلسفة وأيّ فلسفة، فلسفة العذاب الإنساني الذي يستمر من الولادة حتَّى الوفاة، وقرأنا في هذه الرواية ضياع الهُوية الأصل، الهُويّة الأهم، ألا وهي هُوية الإنسان بوصفه إنسان من روح ومشاعر وأحاسيس، أزمة الإنسان هي الأهم من كلِّ أزمة.
أزهر جرجيس، كاتبٌ يكتبُ بالدم لا بالحبر، يكتبُ للروح لا للعقلِ فحسب، على الرغمِ من كم الفلسفيّ الذي جاء بأسلوب ساخر إلاّ أنَّ كمية المشاعر المكتوبة لهذا الإنسان كانت لها الغلبة، هذا الكاتب يُجدد إبداعه في كلِّ عملٍ، ولكن ثيمته الأبرز هو الإنسان بما هو إنسان، إلا أنَّ أزهر جرجيس ينقلُ جانبًا من الحياة أو الوجه الغالب فيها وهو الوجه المعذّب، المضطهد، على الرغمِ من أنّ للحياة وجه ثانٍ، عايشنا حياة الكفاح لكمال الشخص الرئيس ونتمّنى لوْ ينصفه السارد بعد أنْ ظلمته الحياة والناس، ولكن يبدو أنْ أزمة كمال بقيتْ شاهدة على جرحه الكبير، كمال كانَ إنسانًا نبيلاً وعظيمًا. إنَّ أعظمَ جنبة إنسانية في هذه الرواية يمكن لنا أنْ نجدها في قصة موت أخيه الأصغر، الذي غرق في النهر ومات، وعاشَ كمال التشرد من لحظتها حتَّى آخر حياته، فكان يحبّ أخيه كثيرًا على الرغمِ من الصورة السلبية التي تفعلها زوجة الأب!
أزمة الهُوية تكمن في إبرازها وهيمنة فاعليتها على باقي الهُويات الفرعية من قبلية ودينية وقومية وغيرها، هذه الهُويات الأخرى لمْ تضعْ الإنسان محورًا لها، بلْ كانت تلك الهُويات هي الحاكم أو السيد، في حين غابت هُوية الإنسان الإنسانيّة، نعم، الهُويات الفرعية سخّرت الإنسان لها وكان الأولى أنْ تُسخرَ هي لخدمة الإنسان! الرواية هي تُقدم نقدًا في وجهٍ آخر لتلك الهُويات الفرعية، فأبرزتِ الرواية الأزمة الكبرى الحقيقة للموضوعة المهمة التي ينغي أنْ تُهيمنَ على باقي الموضوعات، فلهذا نجح الكاتب في أنْ يدخل القلوب فيمكث فيها، بسببِ هذه التراجيدية الإنسانيّة وطريقته في الحكي، هذا الحكّاء الموهوب، دخلَ عوالمنا الإنسانيّة فاستقر فيها بما أثرَّ في قضيته السامية ألا وهيَ قضيّة الهُويّة الإنسانيّة.
إنَّ أزمةَ الهُوية الإنسانية هي ضياعها بين هُويات ثانوية وغلبت تلك الهُويات عليها، فتراجعت إلى الخلف لتبرز تلك إلى الأمام، لكن الروائيَّ قلبَ المفهوم، إذْ غلّبَ الهُوية الإنسانية على غيرها، وجعلها هي الأساس والأصل لباقي الهُويات، فهذه الرواية تحكي ضياع وأزمة الهُوية الأهم، إلاّ أننا وجدناها تتغلّب لتُهيمن وتتصدر وتكون هي الأساس وذلك ما لمسناهُ بقصة حياة هذا المصور الفوتوغرافي النبيل.