قصة قصيرة/ عودتُكمْ أعادَتْ ليَ الرّوحَ

Views: 140

ديانا جورج حنّون 

إنَّها الخامسة فجراً. يقودُ “سامر” الشّاحنة بسرعةٍ معتدلةٍ، كما علّمَهُ والده “سليم”، الى جانبه أخوته “لونا”، “ريم” و”نور” نيام. وأمُّه تسندُ رأسها إلى النّافذة، مغمضة العينين، تحتضنُ الصّغيرة “رنا”، وتتذكّر…

في تلك الّليلة اشتدّ قصف طائرات العدوّ على القرية، وخوفاً على حياة أفراد أسرته، قالَ “سليم”: ” “ميرا”، وضّبي أمتعة البنات، وخُذي ما تحتاجين إليه، ستُغادرْنَ شمالاً إلى بيت صديقي “خليل” من أجلِ سلامتكم، إليكِ عنوانه”. وأعطاها المال وصكّ ملكيّة البيت.

رضخَتْ على مضضٍ، وأصوات القذائف تضجّ في أذنيها، ورحلَتْ وعائلتها في الشّاحنة. عبثاً حاولَتْ إقناع “سليم” بمرافقتهم. “لن أترك أرضي للغربان، ستعودون وسأكون في انتظاركم” قال، وبقي. وعده انحفرَ على جدار قلبها، وأعانَها على تحمّل غربتها القاسية.

عندما وصلَتْ “ميرا” وعائلتها إلى دارة “خليل” في تلك البلدة الشّمالية، استقبلَهم أحسنَ استقبال، وقال: “سيّدتي الفاضلة، اعتبري البيت بيتكم وما تطلبوه سيحضر لكم على الفور”. ورحّبَتْ بهم زوجتُه “سوسن”، وقالَتْ: “هنا، سترتاحون، وتنعمون بالهدوء والسّكينة، وأولادكِ سيلعبون مع أولادي، لا تقلقي. رافقيني”. وقادَتْها إلى غرفة واسعة تطلّ شرفتها على الحديقة، وقالَتْ: “بدءاً من اليوم هذه الغرفة لكم”. وأحضرَتْ شراشف وحرامات ومخدّات نظيفة، ووضعَتْها على طرف السّرير. 

أمضَتْ “ميرا” أوّل ليلة، بعيدة عن بيتها وزوجها، ساهرةً تصلّي. وشعرَتْ بالقهر والوحدة والحنين، فبكَتْ بصمت. تتالتِ الأيّام وتزايدَ معه قلقها…

 

لمسةُ يد “رنا” على وجهها، وسؤالها: ما زال البيت بعيدا، يا ماما؟ أعادَها إلى واقعها، وقطعَ شريط ذكرياتها، ردَّتْ:

– عودي إلى النّوم، سأوقظكِ حين نصل.

– هل عودتنا آمنة؟ قالَ “سامر” مستفسراً، وعيناه على الطّريق. 

– آمنة…

– وهل أبي ينتظرنا؟

– أكيييييد. قالَتْ، وأسندَتْ رأسها مجدّداً إلى النّافذة، وعادَتْ إلى ذكرياتها… لمْ تشعرْ “ميرا” بالرّاحة. كلّ ليلة مسمّرة أمام التّلفاز تتابعُ نشرات الأخبار بقلق كبير، وقلبها يخفقُ بقوّة بين الضّلوع مع اتّصالات “سليم” اليوميّة وتطميناته. أمضَتْ لياليها تصلّي، وتدعو الله أنْ يبعدَ الأخطار عن زوجها، وبيتها، ومزرعتها، ويسمح لهم بالّلقاءِ مجدّداً.

وأخيراً… تنفّسَتِ الصّعداء.

عند العاشرة من مساء البارحة اتّصل “سليم” وزرع في قلبها الأمل، وقال: “أصبحتِ القرية آمنة”. هتفَتْ: “سأعودُ مع العائلة”. بهدوءٍ قال: “إنتظري بعض الوقت ليصبح وقف إطلاق النّار نافذاً”. بثقةٍ، قالَتْ: “لن نبقى هنا دقيقة واحدة. سأشكرُ “خليل” وزوجته وأودّعُهما، وسنعودُ فجراً الى الدّيار”.

لم يغمضْ لها جفن طوال الّليل. عند الرّابعة فجراً أيقظَتْ ابنها البكر “سامر” والبنات، وقالَتْ بفرح: “سنعودُ اليوم إلى دارنا”.

وضّبَتْ على عجل الأغراض، وألبستِ البنات، وأصعدتهنّ إلى الشّاحنة قرب “سامر”، ثمّ ودّعَتْ “خليل” وزوجته قائلة: “أشكرُكما على حسن ضيافتكما. لنْ أنسى ما فعلتما من أجلنا. عائلتي ستبقى ممتنّة لكما. ننتظرُ زيارتكما مع الأولاد لنقومَ على خدمتكم بما يليق بكم”، وصعدَتْ إلى الشّاحنة التي انطلقتْ في طريق العودة.   

بدأ الفجر يلملمُ عباءته، ونور الشّمس يرمي خيوطه على البسيطة. تكشّفَتْ صور المدن المنكوبة.

– ماما، أترينَ الدّمار؟ قال “سامر”.

بعينَيْنِ مليئَتَيْنِ حزناً نظرَتْ إلى البنايات المهدّمة، إلى المحال المحطّمة، إلى الطّرقات التي فقدَتْ بعض معالمها، وقالَتْ بأسى:

– ما شاهدناه على التّلفاز أقلّ بكثير مما نراه، يا إلهي!

إستفاقَتْ “رنا”، وأعادَتِ السّؤال نفسه:

– ما زال البيت بعيداً؟ إبتسمَتْ “ميرا”، وقالَتْ:

– شارفنا على الوصول. لمْ يعدْ بيتنا بعيداً. وأيقظَتْ بناتها الثّلاث. زاد “سامر” من سرعة الشّاحنة ما إنْ دخل القرية. لمْ يصدّق ما تراه عيناه. على جانبي الطّريق رَدْمٌ وحُفَرٌ، وزجاجٌ وبنايات جزئياً أو كلّيّاً على الأرض. أدمعَ وأخذَ مفرق البيت. ضغطَ بيدِه على الزّمّور، ولمْ يرفعْها إلّا وهو أمام بيته الذي صمد على العدوان الغاشم. رأى والده واقفاً منتصباً كالرّمح فاتحاً لهم ذراعيه. أوقفَ الشّاحنة، وترجّلَ منها، وركضَ إلى والده وضمَّهُ إلى صدرِه، وهو يبكي بكاءً مرّاً.

– الحمدُ لله على سلامتكَ، يا بنيّ.

– اشتقتُ إليكَ كثيراً، يا أبي. لنْ أبتعدَ عنكَ لأيّ سبب بعد الآن. وركضَتْ إليه بناته الأربع. احتضنهنّ وقبّلهنّ، ورحبَّ بهنّ، وقالَ:

– اشتقْتُ إليكنّ كثيراً، الحمدُ لله على سلامتكنّ. أدخلنَ البيت. 

بقلبٍ واجفٍ راجفٍ، اقتربَتْ منه “ميرا”، وارتمَتْ على عنقه، وهي تذرفُ الدّموع الغزيرة، تحتضنُهُ بقوّة، وتشتمُّ فيه رائحة الرّجولة.

– ها قد اجتمعنا ثانية والحمدُ لله. ألمْ أقلْ لكم ستعودونَ، وسأكونُ في انتظاركم. حافظْتُ على وعدي لكم. قال “سليم” بزهو، وهو يمسحُ دمعها عن خدّيها.

– أنتَ بخير؟ سألَتْهُ بصوتٍ متهدّج.

– بأفضل حال بعد أنْ رأيتُكم سالمينَ. عودتُكُم أعادَتْ لي الرّوح، واستعدْتُ أنفاسي.

– لا تُبعدْني عنكَ أبداااااااا مهما حدث. نموتُ معاً أو نحيا معاً. لا طعمَ للحياة من دونِكَ.

– ولا حياة من دونِكِ… أُدخلي داركِ التي اشتاقَتْ اليكِ وإلى عجقة الأولاد ومشاجراتهم.

***

*”الف-لام”: خلفيّة الصورة الرئيسية لوحة لقرية لبنانيّة من اعمال الفنّان التشكيلي علي شحرور

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *