شبلي شميّل… رائد الفكر العلمي الحديث

Views: 106

وفيق غريزي

لقد شهد تاريخ مصر الكثير من المعارك الفكرية والادبية بين دعاة العلم ودعاة التخلّف، وبين دعاة التقليد ودعاة التطوّر والحداثة. وفي العام ١٨٧٦ نشبت احدى هذه المعارك الضارية، التي بدأت كما يقول الدكتور الناقد رفعت السعيد، بمقال نشر في جريدة “المقتطف” حول دوران الارض، اكد فيه كاتبه اللبناني يعقوب صرّوف أن: موضوع دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس صار اشهر من نار على علم، واوضح من الصبح لذي عينين، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم”.

 واثر صدور هذا المقال انفجرت ضجة عارمة قادها بعض رجال الدين، مؤكدين مخالفة هذا القول لتعاليم الكتب المنزلة. وتزعّم هذه الضجة الارشمندريت في الكرسي الانطاكي الأب جبريل جباره. وفي خضم هذه المعركة بين انصار العلم وانصار التقليد، وصل الدكتور شبلي شميّل الى القاهرة آتيًا من لبنان، ليفجّر الموقف كله بصيحات مدويّة شجاعة، بل ومتطرفة في عنفها. (Xanax) فهذا المفكر اللبناني يحكمه مبدأ اساسي هو “الحقيقة ان تقال لا ان تعلم” و”ليس يكفي أن تعلم الحقيقة لكن يتعيّن عليك ان تقولها، مهما كلّفك ذلك من تضحية.

 فمن هو هذا المفكر الذي يعتبر أحد المبدعين اللبنانيين وروّاد العربيّة في مصر؟

الولادة والانطلاق

شبلي شميّل، ابن أحد أعيان الريف اللبناني. ولد في قرية كفر شمعا في اسرة مثقفة، فشقيقه الاكبر وليم كان مدرّسًا مولعا بالفلسفة والعلوم الطبيعية، وشقيقه الثاني أمين كان محاميا.

درس شبلي الطب في كلية البروتستانت في سوريا، وتخرج طبيبا عام ١٨٧١.. وفي العام ١٨٧٥ توجّه الى اوروبا حيث قضى عاما كاملا يدرس نظرية التطوّر واخر ما وصلت اليه العلوم الطبيعية وعلم التشريح. بعد ذلك انتقل الى مصر، ليمارس الطب ويصدر مجلة اسمها “الشفاء”. ولكنه لم يكن مجرد طبيب، فقد دخل معركة الدفاع عن العلم واهبًا اياها الجزء الاكبر من وقته وجهده، وتوالت مقالاته في عشرات من الصحف لتناقش مسائل شتى في الفلسفة والطبيعة والشعر والسياسة والقانون وحقوق المرأة والاجتماع وقضية الحرب والسلم، وموضوعات اخرى عديدة…

 معركته الكبرى

انفجرت معركته الكبرى لدى صدور كتابه “فلسفة النشوء والارتقاء”، وهو ترجمة لكتاب بخنر، ستة مقالات حول نظرية تشارلز داروين، وثار عليه اخلص اصدقائه ناهيك عن اعدائه الفكريين. وقد علّق الشميّل على هذه الثورة ضدّه بالقول: “احدث نشر هذا الكتاب لغطا عظيما مع انه لم تطبع منه الا خمسمئة نسخة، لم تنفذ الا بعد خمس عشر سنة. هذا اللغط، قليله من الخاصة المعدودة، فقاموا ينفونه كله او بعضه كل على قدر علمه او حسب هواه. وكثيره من العامة الذين اكثروا من الجلبة عن سماع لا عن مطالعة لانهم سمعوا ان فيه مساسا باعز شيء لديهم هم عليه حريصون عن ارث وعادة، لا عن تدبر ورويّة”.

وواجه شميّل الاعصار وحده. حتى أن اصدقاءه وموّيديه احجموا عن مناصرته، ويتحدّث عنهم قائلا : “عندما طالبتهم ان يوّيدوني بكتاباتهم في الجرائد خدمة لامتهم، احجموا، فعلمت أن الحرية فيهم لم تتجاوز حدود الفكر، ولم تصل بهم الى القول”.

كان الدكتور شميّل يوّمن بالعلم، وبالعلوم الطبيعية بالذات. ويطمح الى أن يرى كل شيء في المجتمع، يسير دقيقا في دقة القوانين الطبيعية، حاسما في المعادلات الرياضية. ولقد اثّر ذلك كثيرا على كتابه، فهو بالرغم من شاعريته الرقيقة، واسلوبه الادبي الرصين، يجنح احيانا الى محاولة الكتابة باسلوب القوانين العلمية، او المعادلات الرياضية، معلنا في صخب سخطه على الشعر وعلى علوم الكلام وعلى الفلسفة والأدب والادباء والشعراء والفلاسفة. لكنه شاعر بالرغم من ذلك. ومن هنا كان الصراع واضحا في كل ما يكتب. اسلوبان مختلفان يمتزجان احيانا ويتنافران في احيان اخرى. فشميّل في كثير من كتاباته يهاجم الشعر والشعراء. واذ به في المقال نفسه يصوغ هجومه شعرًا.

إن الفيلسوف والشاعر والاديب الذي كرّس حياته مستخدما كل ما وعاه من فلسفة وشعر وادب للهجوم على الفلسفة والشعر والادب..لكننا نخطئ اذا تخيّلنا ان هذه هي الصورة الوحيدة له، فهناك صورة العالم والمناضل، والمفكر الاجتماعي. ورافع لواء الاشتراكية في زمن عز فيه الحديث عنها.. فشبلي شميّل واحد من روّاد الفكر التقدمي والتطور الاجتماعي. لكنه وفي الوقت نفسه يتخذ كغيره من المفكرين اللبنانيين موقف السكوت عن الاحتلال الانكليزي لمصر، وعرف بمواقفه الشجاعة في مهاجمته الاستبداد التركي، كما دان الخديوي المتسلّط، وتحدث عن الحرية للشعب، ورفض الاستغلال والظلم والاستبداد…

شبلي شميّل الشاعر

رغم هجومه على الشعر والشعراء، فان شميّل شاعر مطبوع ومجيد، وهو يستخدم الشعر في كل محاوراته وكتاباته، وقلّما نجد له مقالا في أي مجال من مجالات البحث العلمي بغير ابيات شعرية عدّة.

“ريحانة الشرق” مي زيادة اوردت ابياتا من شعر شميّل في كتابها الصحائف تقول: “حبذا زهر الربى من كل صاف ومحضب/ مثل فجر مستطير او كافق قد تلهّب/ يتهادى في نسيم كتهادي الطفل يلعب/ والندى من فوقه حيران كالدمع تصعب/ قلق مما يعاني قلق القلب معذّب”.

 وتوّكد مي زيادة أن شبلي شميّل شاعر، وأن هجومه على الشعراء تناقض غير مفهوم، حيث كان يحضر الصالونات الادبية وينساق في تلاوة الشعر والاستماع اليه.

 ويعلق الأديب الكبير عباس محمود العقّاد على ابيات شميّل اعلاه قائلا : “من يستطيع أن يضرب على هذا الوتر ولو مرّة واحدة في حياته، فقد كان قادرًا ولا شك ان يعيد النغمة مرارا، وأن يكون الشعر مما كان او راض قريحته على معاني الشعر وعباراته لولا شدّة تعصبه للعلم”. شبلي شميّل مفكر عملاق من لبنان، وعلم عبقري من اعلام الفكر العربي الحديث. وهو صاحب الصوت الشجاع. كان وسيبقى رائدا حقيقيا من ابرز روّاد المنهج العلمي في التفكير، لقد قدّس حرية الرأي وحرية الفور، ودافع عنها حتى لخصومه…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *