سجلوا عندكم

إقبال الشايب غانم في “حِكَم ودِيَم”… ترجمت تنهّداتها على الورق، مجسّدة آهات كثيرين وحسراتهم

Views: 166

مارلين سعاده

01/ 04/ 2025

في آخر إصداراتها “حِكَم ودِيَم”، جمعت إقبال الشايب غانم باقات من الحِكَم والأشعار وأودعتها ضمن دفّتَي كتاب ذُيِّل غلافه الأنيق بتوقيع “منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي”، 2025، ونُقشت على دفّته الخلفيّة كلمتان موجزتان ووافيتان في كاتبته. 

افتتحت الكتاب رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي بـ”كلمة من شغاف القلب” تنمّ عن صدقٍ وشاعريّة يحاكيان روحانيّة الأديبة الشاعرة، ويعكسان جِواء الأدب المعزِّز للقيم، الباحث دومًا عن “الحقيقة والحرّيّة والمعرفة والحب والجمال”، فإذا بالمهندسة ميراي شحاده حدّاد في كلمتها التمهيديّة “تولم للعصافير زغردتَها الربيعيّة وتلوّن الأرصفة للعابرين من أقاحي نهج فلسفتها!” (ص 7) تطالعنا في كلماتها نضارة حُبَيْبات الندى التي تنضح مع إطلالة الفجر من بتلات الكَلِم المعمّدة بنورالفكروجمال المعنى؛ هذا الجمال نعاينه أيضًا في الإخراج الأنيق المُواكب لأجزاء الكتاب وصفحاته.

الأديبة إقبال الشايب غانم والأديبة مارلين سعاده

 

“حِكَم ودِيَم” كتاب يتضمّن بابين: حِكَم تلخّص نظرة الأديبة للحياة، فيها شيء من روحانيّة ميخائيل  نعيمة في كتابه “كرم على درب”، كما تعكس شفافيّة كاتبته وجمال روحها التي تولم لنا على مائدة الأدب أطباقًا خفيفة سهلة الهضم، قريبة من فهم القارئ العادي، تحاكي قلقه الحياتيّ والوجوديّ فيتناولها بشهيّة، لا سيّما في زمن القحط والجفاف هذا، زمن الضياع والتشرّد على أزقّة العالم الذي يُغرقنا في أوحاله ويقيّد حرّيتنا، ويكاد يقتل فينا الإيمان بالإنسان المبدع والفنّان، ويشلّ إحساسنا بسطوة الكلمة وقدرتها على خلق عالمٍ جديد! أمّا الباب الثاني (ص65) فيفتح مصراعيه بوسعهما على الشِّعر.

نقرأ في “حِكَم” الأديبة شكوى معلَنة لوجعٍ مُلازم، فهي تنقل بشاعة الواقع بتجرُّد، وتسلِّط عليه سياط نقدها من دون تردّد. تنثر ما في بالها على صفحاتها البيضاء فتتحوّل السطور إلى أمواجٍ متوالية، منها ما يتلاطم مزمجرًا: “هذا هو بحرنا السياسيُّ الملوَّث، ونحن اخترناه كبحّارين…” (ص 13) ومنها ما يحمل لنا النشوة “ويسألون هل مات الشعر؟!… هو الخيط الوحيد المتبقّي بين غليان الأرض وسكينة السماء” (ص 14).

لا تُهادن ولا تُساير ولا تَلبس القُفّازات، كأنّها يئست من حال هذا الكوكب، وقرّرت السير وفق القول المأثور: “قل كلمتك وامشِ”.

 

في سخطها نسمع أنين الإنسانيّة المعذَّبة: “في نكبات الآخرين لا تفتح طاولات الاحتفالات وصور الاستقبالات، عش إنسانًا أو مُت في أناك!” (ص 17) ووجع المواطن من هيمنة الساسة وظلمهم وفشلهم وعجزهم. تُظهر الصورة بالأبيض والأسود، ربّما لتؤكّد بشاعتها، فلا تضيف إليها شيئًا من المحسّنات اللفظيّة والصور البيانيّة، تلقيها على “علّاتها” بما تتضمّنه من جفاف وقسوة وواقعيّة فجّة، كما تنقل واقع حياة الإنسان على هذه الأرض وهواجسه من المستقبل. 

إقبال الشايب غانم ترجمت تنهّداتها على الورق، مجسّدة آهات كثيرين وحسراتهم: “صرت أتنفّس من خلال شرايين الآخرين” (ص47)؛ فكانت مع المبدع: “الإنسان المبدع… هو معجزة الخلق” (ص 37)، وضدّ الشراهة المهيمنة على عالمنا: “الشراهة في الطمع تقود إلى الاختناق في البلع” (ص 39)، والدين المسيَّس: “كان الشرق مهدًا كريمًا للأديان السماويّة، كلّ ما نرجوه ألّا تُصبح الأديان مقبرة لهذا الشرق” (ص 39)، وضدّ السياسيّين المجرَّدين من الضمير.

المهندسة والشاعرة ميراي شحاده (رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي) والأديبة إقبال الشايب غانم

 

السياسة، الضمير، الكلمة، الإبداع، المرأة، الحب، الثقافة والمثقّف، الموت… كلّها شغلت الكاتبة وكانت هاجس قلمها المتوجّع، فأتاحت له بثّ شكواه بدون خجل، لأنّه “حين يبكي القلم تبتسم الكتب” (ص49)، ومن عبراته ظهرت لُمَع أضاءت على دور المرأة والثقافة:

“ليست الأمُّ الشخص الذي تتكئ عليه بل التي تجعل الاتّكاء غير ضروري” (ص53).

“للمرأة المتزوّجة أقول: ضعي زواجك وعملك، على كفّتَي ميزان متعادلتين…” (ص 54).

“المثقّف الذي يفتقد للجرأة والتجرُّد يَسقط عنه أهم وأساس مقوّمات الثقافة!!!” (ص 60).

الباب الثاني من الكتاب مخصّص للشعر، تفتتحه بقصيدة “قال كلمته ومشى”: “صلبوه… قام/ قال المسيح كلمته/  ومشى… (ص 69) حيث تتغلغل موسيقاه في كياننا، ونشعر بسحره، لا سيّما أنّ هاجس الرحيل والحرّيّة والوقت والحنين… يهيمن على قصائدها:

“لديّ حنين للدهشة… للترقُّب… للإحساس…/ حنينٌ للفرح الطفوليّ قبل اعتزال الطيبة لدى الناس…” (ص 95)

في “مخاض لا يأتي” نرى وجعها مع كلّ طلق، وتبهرنا الولادة غير المتوقّعة: “وحدها فيروز المُتاحة لك….”! (ص 97)

في “امرأه” ( ص 102) تختصر الشايب نظرتها للمرأة، وتعزف سمفونيّة صراعها المرير مع الحياة. 

في “إيقاع الصمت” (ص 104) نسمع روح الأديبة تتكلّم، تتكشّف عن كلّ ما يراودها، عن معاناتها وفرادتها. 

وفي “طائر الضُّحى” (ص 107)  و”عدّاد الزمن” (ص 124) و”راكبٌ آخر” (ص 150) نعاين اندماج الشاعرة في الطبيعة واتّحادها مع مخلوقاتها، فكأنّها صورةٌ عن مشاعرها، أو انعكاسٌ لخلجات نفسها.

 

نلمس حضور الوطن في وجدانها (“لبنان لا تطعنوه” ص110، و”لمن” ص 159)، ونشتمُّ عطر بخور القداسة في مزاميرها (“يا مريم” ص 116)، وفي قصيدتها “لعلّ” (ص119) نذوق قهوة طموحنا ونرتشف خمرة الأسرار الموعودة.

وفي “عبورٌ إلى” (ص 129) تفوح رائحة المرارة من علقم واقعنا، واقع هذا الجيل المضعضع المخلّع التائه المفلس والذليل على أبواب العولمة.

وفي “بطولات العبور” (ص 155) يبهرنا تصويرها لواقع الإنسان على الأرض حيث “يخجل الله ويندم على فعلته”!!! (ص 158) فهل من وصف أكثر تعبيرًا عن فظاعة سقوطنا وعقوقنا؟!

أرادت إقبال الشايب غانم أن تهدينا ممّا جمعته عن بيادر العمر زادًا يقينا الجوع المتأصّل في إنسان هذا العصر، ولم تشأه ثقيلًا على الهضم،  فألحقته بدِيَمِ الخير التي لا يتوقّف مطرها بل يطول زمانه في سكون، من دون برقٍ أو رعد، إلّا أنّ غيومها الحبلى بالقهر وشت بالإعصار الكامن في باطنها المتحفّز للهطول مدرارًا في أيّة لحظة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *