سجلوا عندكم

تجربةُ الصّليبِ بِرَسمِ الإنسان

Views: 32

 الدكتور جورج شبلي

على الصّليب ، لم يَحرقْ يسوع مواسمَ الوحي ، فتمدّدَ صلبُه فوق كلِّ المسافاتِ على مُنفَسَحٍ إنسانيٍّ شموليّ ، حتى باتَ الصّليبُ، بِحدِّ ذاته، عالَماً متفلّتاً من رابطِ الأزمنةِ والمطارح. وغاصَ الجرحُ في أحاسيسِ الكَون ، فأضحى جرحَ كلِّ إنسانٍ في كلّ زمان ومكان . واهتزتّ الخشبة ، فمن حقِّها أن ينتابَها شعورُ الإعتدادِ بأنّ على يَدَيها كان خلاصُ العالَم . وتكاملَ الموتُ مع يسوع حتى وصلَ الى إعلانِ شيءٍ كالوصيّة، فيها من الخطورةِ الكثير ، فالكفاحُ في سَبكِ النّقاءِ يَفوقُ مفهومَ البشر ، وكذلك فعلُ الفداء .

لم ينسَ يسوع جراحَه فوق الخشبة عندما أُنْزِلَ عنها ، وإنْ ظلّت معنا مُلتصقةً بها ، لأنّ ظلّ الإنسانِ في المَصلوبِ طَغى على الأُقنوم ، وكإنسانٍ اختبرَ الموتَ واليأسَ والعدمَ والتّلاشي.  لكنّه لم يُخطِئ المرمى كالنّاسِ الذين تُنَغِّصُ الجراحُ عَيشَهم ، بل حوّلَها، ومن دونِ عجيبةٍ، الى تجربةِ فرح ، ودعا الناسَ الى تَلَمُّسِ مَطايبِها . فلا معنىً للنَّدبِ على مسيحٍ مَقهور ، لأنّ الجمعةَ العظيمةَ عظيمةٌ بِتَناسُلِ الفرحِ في الأُمَم . 

يتفرّدُ يسوع في أَلَمِهِ العجيب ، أو الألمِ الذي استطاعَ أن يَستضعفَ الإلَه ، فأيُّ واحدٍ منَ الآلهةِ يَسمحُ بأن تَنزحَ قوافلُ قواه في هجرةٍ ذاتِ وُجهةٍ واحدة ، ومن دونِ حنينٍ إليها ؟ الحقيقةُ أنّ في تاريخِ يسوع لحظاتٍ لم توجَدْ لغيرِ دلالة ، فيومُ ألمِهِ شَوّهَ الضّعفَ البشري ، والنّزفُ افتخرَ بانتمائِهِ الى الخشبة ، وغلَبَتْ فيهِ كُنيةُ الجنّةِ على السَّماء .

لم يُدَوّنْ يسوع بصلبِهِ عقيدة ، بل أَوحى بها ، لذلك كان وَهجُ الخلاصِ مُعافىً . فالخلاصُ دائمُ الإلتصاقِ بالتَحَرّر ، هذا الذي يَتَفوّقُ على اللّاهوتِ ونَزواتِ النّظريّات ، ويقتربُ من بهاءِ الألوهةِ الصّافيةِ والمعرفةِ البريئة . ولإنّ التَأَنُّسَ مع يسوع لم يَتطلّبْ جُرحاً ، والألوهةَ لم تَفرضْ عجائب ، كانَتِ النعمةُ أن نفهمَ يسوعَ ببساطة ، وأن نَحرمَ أنفسَنا من حشدِ الفلسفاتِ والطقوسِ وحَشْرَجاتِ العهدِ القديم . فبساطةُ يسوع وحدَها امتدَّت على الأيّام ، مَلأى بِتَطييبِ المخافاتِ التي تَطبعُ وِقفةَ الناسِ من المصير ، وتَختصرُ الأبعادَ الكونيّةَ والوجودَ وما بعدَه بتلك النعمة . 

صليبُ يسوع أَقرَبُ الى الصّرخةِ منه الى الدَّمعة ، وأَوثَقُ بالثّورةِ التي من غيرِ إِعدادٍ منه الى الإستسلامِ و” لماذا تركتَني ” . صليبُهُ مَصروفٌ الى إيقاظِ المفقودِ في النفوسِ المشحونةِ بألفِ هَمّ ، يَسعى الى إشراكِ الإنسانِ بِفِعلِ الخَلاص. صليبُه انطلاقةٌ باقيةٌ وليس خطابَ تَمَلْمُل ، أو خطّةَ منافَسَةٍ إثنيّة ، وهو ليسَ نغمةً لتنقطعَ أو مشهداً ليُخطَفَ أو كلمةً لتُختَصَر ، إنّه ثقافةُ المحبّةِ التي يُدرِكُ بها الإنسانُ ضآلةَ دُنياه ، وهي المحبّةُ التي لا تَرسمُ علاماتِ استفهامٍ حولَ الحياة ، هي تُعْرَفُ ولا تُسْأَل ، وإذا سُئِلَتْ أُصيبَتِ المعرفةُ بالخَيبة . 

لم تكنْ مَهمَّةُ الصليبِ سوى اكتنازٍ لمضمونِ الإنسانِ في الإله –  وهنا بالذات عظمةُ التَجاوُزِ في العهدِ الجديد – ولم يكنْ طموحُهُ أبداً القيامة ، هذه التي عَجَّلَ العقلُ في إحالتِها الى مُسَلّماتِ الغَيبِ والشَكّ ، لأنّ الصّليبَ وحدَهُ تَخطّى إطلالةَ العقلِ، وجايَلَ الحقيقةَ من غيرِ تَوَكُّلٍ على إيمانٍ ماوَرائِيّ ، فهو اختصرَ تجربةَ التَأَنّسِ من دونِ استعراضٍ لقُدراتِ الإلهِ المُنتصِرِ على الموت ، فباتَ الصليبُ للناسِ، على تَقادُمِ الزمن، إنتاجاً للرّجاءِ غيرَ مَسبوق . 

إنّ صناعةَ الصّليبِ التي نادى بها يسوع ، لم تكنْ يوماً دعوةً الى الوَجَعِ ولا طَأطَأةً لرَأس ، بل لإعادةِ الإنسانِ الى مكانِهِ من مواضعِ الحقِّ والخيرِ والطمأنينة  ، كبيراً على الدّنيا  ، ليُثبِتَ الصليبُ  دَوماً أنّه  إِمكانٌ لوجودٍ مَلآن .  

أيّها المصلوب ، لو تَسَمَّرَ الواحدُ مِنّا مرّةً على صليبِكَ، لَأَصبحَ إِلهاً .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *