سجلوا عندكم

ارتقت روح البابا فرنسيس في الفصح المجيد فخاطبتني لوحة “المسيح” للفنان محمد علي الخطيب

Views: 94

(مُترجم عن المقال الأصلي)

The soul of Pope Francis scended on Easter, and the painting ‘Christ’ by Muhammad Ali Al-Khatib spoke to me.

 

الآن ونحن في اوقات الفصح المجيد و جمعة الآلام و ارتقاء السيد المسيح نصير الضُعفاء و المظلومين و العدالة و السلام، يصيبنا ألمٌ كبير لفقدان البابا فرنسيس الذي عمل على تحقيق السلام و كان صوتاً للفقراء و المُهمشين. العالم كله يُقدره لأعماله وشخصيته الفذة و سيرته المميزة. فألحَّت عليَّ ذاكرتي أن اعيد النظر الى صورة عندي للوحة “المسيح” بريشة الفنان اللبناني محمد علي الخطيب، خصوصاً بعد أن قرأت أن لبنان قد اعلن الحداد الرسمي على البابا فرنسيس. و هي لوحة بدأت تنتشر على بعض  قنوات التواصل الاجتماعي في ايطاليا. و قد حالفني الحظ أن اقابل الفنان شخصياً، و تحاورت معه فاشعل في عقلي افكاراً جديدة للبحث و التدقيق. و انها الآن للحظة مهمة للتأمل في اللوحة و في واقع الضعفاء و المظلومين من دون نصير، خصوصاً أنني تذكرت هذا القول من اقوال الفنان محمد علي الخطيب:

“في كلِّ يومٍ يُصلبُ المسيح”.

حين نظرت لأول مرة الى لوحة “المسيح” الزيتية بريشة الفنان الخطيب، شعرت بهالة الزمن الذي مرَّ على آلام المسيح و عِظم القصة و العذاب و الارتقاء. فقد لمَسَتْ عيناي الأضواء الساحرة التي ترتد من اللوحة و منها إلى العقل ليُفكر و يبحث. ألوان تُعطي الأشكال معاني  عديدةً. و منذ ذلك اليوم هناك حوارات فكرية بيني و بين تلك اللوحة. و لعلي وصلت إلى فهم اللوحة أكثر، و أشعرُ أنه من واجبي أن اشارك العالم كله به، خصوصاً بعد حوارات أجريتها مع أصدقاء حول هذا الموضوع. و من واجبي أن أذكر أنني توصلت إلى ما اكتبه الآن بعد استعارة العديد من الأفكار التي لخصتها زوجة الفنان الأديبة ذُكاء الحرّ بشكل جميل. فشكرٌ كبيرٌ لها و للاصدقاء.

وبالعودة إلى الموضوع، وكما ذكرت الأديبة ذُكاء الحر أنَّ في لوحة “المسيح” ملامح وسامة لا تُخطئها عينٌ مهما كانت معايير الجمال عندها. هذه الملامح تحمل نظرة ثاقبة مُتأملة واثقة مما سيأتي. فهي نظرة إلى البعيد، إلى المستقبل، و يمكن كتابة صفحات عن هذه النظرة لما تحمله من معانٍ  و تأويلات كثيرة. ولعل أبرز صفات هذه النظرة هي الثقة و الصلابة مع الرقّة، أي اجتماع النقيضين. و هكذا كان يسوع المسيح صلباً متمسكاً بمبادئه حتى آخر لحظة و حنوناً رقيقاً على البشر و المظلومين. وهذه صفات الأبطال، اذ يستخدمون القوة و الصلابة لتحقيق العدل من خلال رقة مشاعرهم التي تلمس حقيقة عذابات الناس وتفهم آلام الآخرين و تتفاعل معها بصدق و عطف. و حين ننظُر إلى الإبتسامة في اللوحة، تأخذنا إلى عالم آخر! نراها غير عادية، فنتساءل لماذا يبتسم المسيح في هذه اللوحة بهذه الطريقة النادرة؟ 

إنه يبتسم لأنه يعلم كل شيء. إنه يعلم ما سيحدث. و تُفسر الأديبة زوجة الفنان أنها ابتسامة رضى، ابتسامة زُهدٍ في الدنيا والاستخفاف منها. واذا تَعمقتَ في النظر إلى الابتسامة ينتابكَ شعورٌ بأنها ابتسامة هُزء  من النفوس الشريرة التي تريد أن تُهيمن على حياة الناس و تَظلم و تَتجبر. فكأن المسيح بابتسامته يسألهم “إلى أين أنتم ذاهبون بكلّ هذا الشر؟ و ماذا بعد ذلك؟ هل تعتقدون أنكم و شركم ستبقون إلى الأبد؟ هل تعتقدون أنكم إذا كنتم أشراراً ستظلون دائماً بنفس القوة و التجبُر؟” إنه يسخر من أشرار الدنيا بابتسامته، و يسخر من البشرية الرعناء التي لا ترى حقائق الأمور. 

والحديث يطول عن وجه المسيح إلا ان ما يأخذك بعد العينين و الابتسامة و الوسامة هو الألوان المستخدمة التي تريد أن تقول لنا إنه ابن الأرض الشرقية، إنه من أرض فلسطين العربية، مما كان جزءاً بما يُعرف بارض سوريا، و هي جزء من أرض العرب. إنه صاحب الملامح المتوسطية (Mediterranean) و الدم الفلسطيني العربي. وفي هذا تصحيح للخطأ الوارد في معظم الصور واللوحات التي ألفها معظم العالم و عندنا في الغرب عن ملامح المسيح. و أنه لمن الواضح أن الرسام  أراد أن يُظهر السيد المسيح وفقاً لعلم الانثروبولوجيا (Antropologia باللغة الإيطالية؛ و Anthropology بالإنكليزية) الذي يتألف من عدة أقسام، منها الاجتماعية و الجسدية (Physical) و الأثرية (Archeological) واللغوية (Linguistic).  

فقسم الأنثروبولوجيا الجسدية (Physical Anthropology) يمكنه أن يُقدم رؤى قيّمة حول مفهوم العرقية وعلاقته بالتنوع البشري. هو يدرس التنوع البيولوجي البشري بما في ذلك من سماتٍ، كلون البشرة ونوع الشعر وملامح الوجه. ويرى هذا العلم كيف تتأثر هذه السمات بتفاعل معقد جداً بين الجينات والبيئة، إذن هو لا يرمز فقط إلى تفاعل السمات بالعرقية. لذلك يساعد بشكل علمي على معرفة و تصنيف اشكال البشر. وأذكر أن الخطيب قال إن الرسام الموهوب، الدارس و العارف بعدة علوم، يُمكن الاستعانة به ليرسم شخصاً بمجرد أن يعطيه احدٌ بعض صفات هذا الشخص. وقال إن لهذه العلوم (بالإضافة إلى علم تشريح الجسد) مفاتيح تساعد الرسام على معرفة نسب أقسام الوجوه؛ كنسبة مساحة الجبين إلى الأنف وإلى الفم، واتساع المساحة بين العينين، وتفاصيل اخرى نتناولها في موضوع لاحق نخصصه لهذا الغرض ولهذه الصفات العلمية التي كان الفنان الخطيب من أكثر العارفين بها ممن عرفت من رسامين في زمني. وكان يؤمن أن على كل رسام  ونحات  أن يكون عارفاً بهذه العلوم قبل أن يُبدع في أي عمل لشخصية معروفة او منتمية لموروث معين. و كذلك كان يقول عن القصاص و الشاعر وأي فنان، إذ يحمِّلهم جميعاً مسؤولية الثقافة والتمعن في هذه العلوم قبل البدء بالكتابة أو الرسم أو النحت أو تنفيذ أي مشروعٍ إبداعي. فالإبداع، برأي الخطيب، لا يكتمل إلا إذا كان متناغماً مع واقع الأمور. فلا ترسم إنساناً من ايام الحضارة الرومانية مثلاً من دون أن تكون دارساً و عارفاً لتلك الحقبة وتفاصيل إنسانها وأوجه الحضارة فيها.

وإذا نظرنا إلى الجسد في لوحة “المسيح،” نرى تصحيحاً آخرَ للصورة النمطية التي اشتهرت عنه بعد الصلب والتعذيب؛ فالجسد بعد التعذيب و الصلب يهزل. لكن المسيح كما رآه الفنان هو صاحب بنية قوية. 

أما بالنسبة للملابس، فنلاحظ  أن العباءة العربية التي يرتديها المسيح لونها قريب من لون السماء و خلفية اللوحة. و هذه تقنية نلاحظها في الكثير من لوحات الخطيب حين يرسم شخصيات حقيقية أو من وحي الخيال، إذ يحاول إعطاء رموز في خلفية اللوحة عما يعرفه عن الشخصية المرسومة. إن لون العباءة رمزٌ للتوحد بين السيد المسيح والكون والفضاء حوله. وكذلك لون الشعر، فهو من نفس النوع لكن بدرجة أغمق. فيريد الفنان ان يقول لنا إن هذه مبادئ الكون عادة؛ إن الحق يُظلم، و الظلم يستقوي على الإنسان الخيِّر كما يحدث الآن. فقصة المسيح هي نفسها قصة فلسطين اليوم. و اختار الفنان لون اللباس الأحمر تحت العباءة، الذي يعني أن جسده مغطى باللون الأحمر. هذا اللون رمزٌ للشهادة و العذاب كما يرمز إلى التعذيب الذي تعرض له، أي إلى وجود بشرٍ يعذبونه. و في ذلك إشارة إلى سفك الدم من جهة و إلى المجرم الذي يسفك دم البريء من جهة أخرى. فالمسيح في لوحة الخطيب يلبس الأحمر لأن جسده مندور إلى الدم. هو مخلوق ليصبح شهيداً. نظرة السيد المسيح و ابتسامته و ألوان اللوحة تُبيِّن أنه يعرف أنه مشروع شهيد، و رمزٌ لشهادة إنسانية كبيرة و مدويّة و صاخبة. و لعل شهادته كانت ستُوقظ الناس وضمائرهم ليرتدعوا عن الانحراف و الظلم والبغي والكفر أيضاً. لكن العالم لم يرتدع. لقد ارتقى إلى السماء بعد مشوار من العذاب. و العالم ما زال على غيِّه وضلاله.

ومما يزيد من جمال و روعة اللوحة، كما اشارت الاديبة ذُكاء الحرّ، البساطة المتناهية. فهي ليست كما عهدنا من رسومات السيد المسيح في الفنون الأوروبية التي فيها بعض من التعقيد. ذلك أن المسيح كان يتعامل ببساطة ووضوح وسهولة مع الناس كي يَسهُل فهمه. ومن الادوات التي تساعد على الوصول إلى عقول وقلوب الناس هي الوسامة والجمال والقوة والاناقة والثقة والخير والمحبة والطيْبة. و يُظهر لنا الفنان كل هذه الصفات في رسم السيد المسيح إذ لا يحتاج الناظر إلى اللوحة إلى أي اجتهاد ليفهم ويقرأ حقيقة هذه الشخصيَّة العظيمة. إن اللوحة تشهد أن السيد المسيح بملامحه و مظهره وملابسه ينتمي إلى هذه الأرض وينتمي إلى شرق المتوسط العربي. وكما كان الفنان الخطيب يقول دائماً “في كل يومٍ يُصلب المسيح،” أراد أن يقول لنا الفكرة نفسها من خلال اللوحة. وفعلاً نرى بأم العين أن مقولة الفنان  صحيحة، وتؤكدها لنا كل يوم الأخبار المؤلمة و أهوال الصور. فلون بشرته من المتوسط وزيه عربي ولا تزال فلسطين مشروع صلبٍ وجُلجُلة و اعتداء و ظلم و بغي على الحق والنور والسلام. المسيح هو رمز السلام الذي يعلّم و يقول “أحبوا أعداءكم.” ورُغم ذلك كفرُّوه وقتلوه وظلموه كي يقتلوا السلام. والشعب الفلسطيني الآن امتداد لذات الظلم و العذاب الذي واجهه المسيح.  

وأخيراً، علينا أن نلاحظ أنه بالرغم من مرور السنوات و القرون و تطور طرق العيش و أساليب الحياة البشرية، إلا أن ذكرى آلام سيدنا المسيح، التي يتوجها ارتقاؤه إلى السموات، لا يقوى عليها التاريخ و لا المستقبل. إننا نعيشها دائماً في كل عامٍ في أذهاننا و في حاضرنا. و قد ابتدع الإنسان فنوناً (كالشعر و النثر و الرسم وغيرها) منذ القِدم لُيبقي ذكرى الأحداث و القصص. و لعل من اكثر الفنون نجاحاً في الحفاظ على الذاكرة  الرسم و النحت. نرى نجاح هذين الفنين منذ أيام الفينيقيين و المصريين القدماء واليونان و الرومان. و قد اعتمدت عليهما الكنائس المسيحية ودعمهما الڤاتيكان لما لهما من قوة و تاثير في الحفاظ على الذكريات و الاحداث و الافكار المهمة لحياة الانسان و لاحيائها في الحاضر والمستقبل.

وفي هذا اليوم نوجه الى الڤاتيكان و المسيحيين و كل العالم رسالة عزاء كبير و حزن عميق على فقد البابا فرنسيس الذي كان خير مثال لمن يُمثل تعاليم السيد المسيح و يطبقها. وكأنما بارتقائه إلى ملكوت السماوات تقول لنا القدرة الإلهية إن الارتقاء إلى العالم الآخر في هذا اليوم هو رسالة موضوعها أنه كلما صَفَت النفس ارْتَقَت إلى خالقها في ذات يوم و لحظة ارتقاء المسيح المُخلّص. إنها دعوة إلى التيقظ و الحب و العدل لكنها مُغلفة بغلاف حزنٍ أرضي على فقد إنسانٍ مُميّزٍ حاول أن يتّبع تعاليم ونهج المسيح الخالد. فكانت الصورة وجاءت اللوحة للتذكير، كما كان الصديق الفنان محمد علي الخطيب يردد، “لعلكم يا أهل الأرض تَتفكرون وتَعقلون.”

***

(*) مُترجم عما كتبه ج. سبيلوتشي:

The soul of Pope Francis ascended on Easter, and the painting “Christ” by Muhammad Ali Al-Khatib spoke to me.

ايطاليا في 21 نيسان/إبريل 2025

*الإيطاليون احبوا اللوحة  اذ يرون المسيح يشبههم فهو متوسطي مثلهم

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *