“روّاد نهضويّون من طرابلس”*/ دراسة من منظور المنهج الثقافي المعرفي
د.مصطفى الحلوة
نائب رئيس “الاتحاد الفلسفي العربي”
ليست هي المرّة الأولى ، التي أشهدُ فيها لمدينتي ، عَبْرَ هذا المؤلَّف، فهو يندرجُ في عِداد مجموعة مؤلّفات ، أصدرناها ، على مدى السنوات الماضية ، تدور حول أعلامٍ طرابلسيّين وشماليّين ، أدّوا دورًا وازنًا ، في مجالات معرفيَّة شتّى .
كانت البداية ، في العام 2016 , مع شاعر الفيحاء ، فكان كتابُنا “مُقابساتٌ زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد ” .
وقد تَبِعُهُ رصدٌ للحركة الفكرية المعاصرة شِمالاً ، عبر موسوعةٍ من جزءين، صدرت في العام 2018 ، بعنوان : “80 كتابًا في كتاب/ مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر” .
وفي إطار أدب السيرة ، صدر لنا ، في العام 2019 ، كتابٌ ، تناول شخصيةً، اعتنقت النضال السياسي والإنساني ، عنينا “حكيم طرابلس” الدكتور الراحل عبد المجيد الطيِّب الرافعي .
ثم كان كتابُنا الموسوعي ، في العام 2021 “مُطارحاتٌ في أروقة المعرفة / مراجعاتٌ نقديّة وبحوثٌ في الفكر العربي المعاصر” ، واكبنا فيه بعضًا من الحراك الفكري، في طرابلس والشمال ، وعلى المستوى اللبناني.
وقد توّجنا “طرابُلُسِيَّاتنا” مؤخَّرًا ، فكان أن اشتركنا مع الباحثة السوسيولوجية د. مها كيّال والمهندس مُنذر حمزة ، في إصدار دليل تعريفي بطرابلس ، بمناسبة فعاليّة “طرابلس عاصمة الثقافة العربية للعام 2024 ” . وقد جاء الدليل بعنوان : “طرابلس تحكي قصّتها، بالكلمة والصورة” .
اليومَ ، ها نحنُ نُطِلُّ بهذا السِفر ، من منشورات “النادي الثقافي العربي” ، إحدى أبرز المنارات الفكرية عراقةً في لبنان ، التي تشعُّ ، مُنذ العام 1944 ، فكرًا مُلتزمًا وثقافةً راقية .
ولعلَّ “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” – ونحنُ في رحابه – هو إحدى مآثره، إذْ دأب على إقامته سنويًا ، منذ حوالي سبعة عقود ، مُسهمًا في الدينامية الفكرية والثقافية للعاصمة اللبنانية ، ولسائر أرجاء الوطن .
إنّني ، إذْ أُثمِّن عاليًا الثقة ، التي أولاني إياها القيّمون على “النادي الثقافي العربي”، أخصُّ بالشكر سعادة الرئيسة السيدة سلوى السنيورة بعاصيري ، ودولة الرئيس فؤاد السنيورة ، والشُكر موصولٌ للصديق سعادة السفير د. خالد زيادة، الذي رشّحني لإنجاز هذا العمل المعرفي .
أيّها الأحبّة ،
في تعليل لإصدار الكتاب ، الذي ننتدي حوله اليوم ، تذهب الرئيسة بعاصيري إلى أنّ طرابلس استحقّت لقبَ “عاصمة الثقافة العربية للعام 2024” ، مما جعل “النادي” معنيًّا بهذه المناسبة(..) فبادر إلى تلقُّف الحدث، وتسليط الضوء عليه(..) عبر إصدار كتاب خاص ، بعنوان ، “رُوّاد نهضويون من طرابلس” ، يضمُّ تراجِم وسِيَر هؤلاء والتعريف بإنتاجهم الفكري والمعرفي .
إنّنا ، إذْ نُشارك الرئيسة بعاصيري الرأي ، نرى أنّ طرابلس ، هذه المدينة المهمَّشة، من قِبل الدولة ، منذ قيام الكيان اللبناني ، والمظلومة اليوم من بعض أهليها ، تستحقُّ أن يُعاد إليها بعضٌ من اعتبار ، من طريق الإضاءة على بعض شخصيات – وهم غيضٌ من فيض – شكّلوا ، على مدى العصور ، علاماتٍ مُضيئةً، في مُدلهِمِّ ليلها الطويل !
ولا شكّ أن طرابلس قادرةٌ ، بما تمتلك من إمكانات ، على تأدية أدوارٍ ومهام ، سبق أن تنكّبتها في سالف الأيام ، مُستعيدين ما وصّفتها به العميدة الراحلة د. زاهية قدورة، إذْ تقول : “ما كان نضالُها ، في سبيل العروبة والإسلام ، وهما النافذتان اللتان تُطل منهما طرابلس عبر الأزمان ، على العالم ، إلا لتؤكِّد أصالتها العربية ونفحاتها الإسلامية ، التي تنسجمُ مع أريج بساتينها ، وصفاء مياهها ، في سمفونية الأبديّة ” .(من تصدير د. عمر تدمري ، لمؤلَّفِهِ ” تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور” , الجزء الأول ، مطابع دار البلاد، طرابلس ، لبنان، طبعة أولى 1978).
أجل! طرابلس تستحقّ ، فهي بداءةً ، منذ ثلاثة آلاف عام ، عاصمةٌ لاتحاد المدن الثلاث (صيدا و صور و أرواد) ، بل هي متروبول فينيقية ، مُشكِّلةً بذلك أوّل صيغة جنينيّة لعُصبةِ أمم في التاريخ . وطرابلس هي “دارُ العلم” ، إبّان حكم بني عمّار، في القرن الحادي عشر الميلادي ، وهي “المملكة الطرابلسية والشرقية المحروسة” ، في عصر المماليك “، خلال ما يزيدُ على مائتي عام ، وهي ، حتى مطالع القرن العشرين ، كانت تُعرف ، عند أهلها ، بـِ “دمشق الصُغرى” . وعن ألقابها المتأخِّرة فأشهرُها الفيحاء ، الذي يقترن باسمها ، فتُعرف بطرابلس الفيحاء.
ولكي تغدُوَ على قدرِ هذه الألقاب جميعها ، المؤشِّرة على المكانة والدور، سعينا إلى إنصافها ، مُستعرضين أربع عشرة شخصية ، من بين عشرات ، بل مئات، كتبوا لها بعضًا من مجد ، على صفحة الدهر !
أيها الحضور الأكارم ،
لن نُسهبَ في الحديث عن هذا المؤلَّف ، لضيق المقام ولكونِهِ غدا مُلكًا مشاعًا ، ولنا أن نتوقف عند عددٍ من المسائل ، التي تكشفُ النقاب عن المنهج ، الذي توسّلناه ، وعن الدروب التي سلكنا ، في تعاطينا الشخصيات المُترجَم لها :
1-لقد جهدنا بمجانبة المنحى السردي ، في تقديم الشخصيات ، فكانت الغلبة للمنهج التفكيكي التحليلي . كان تعمُّقٌ لكل شخصيّة ، على ضوء الفكر النقدي الصارم . فلم نتهاوَن ، ولم “ندوِّر الزوايا” . بل شهدنا للحقيقة العارية ، وكانت الموضوعية ضالّتنا.
2-بخلاف غالبية المشتغلين بأدب التراجم والسِيَر ، ولاسيما المحدثين ، فإنّنا ابتعدنا عن إتّباع المسار التقليدي النمطي ، في تناول المحطّات العائدة لكلّ شخصية . فقد كان تشديدٌ على الاستهلال بمدخل ، للعبور إلى فِناءات الشخصية المُترجم لها . هكذا توقّفنا عند أثر العائلة الممتدّة ، مُستعينين بعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ ، كما عند أثر الأسرة النواتية، مُنطلقين من اقتناع لدينا ، بأنّ المُترجَم له ، ليس صنيعة ذاته فحسب ، بل هو ، بقدر كبير، نتاج تاريخ عائلته وابن المحيط ، مُتعدِّد الجوانب ، الذي نشأ فيه .
ولعلّ هذه المداخل تُشكِّل إحدى العلامات الفارقة ، في مقاربتنا شخصيات الكتاب.
3-لقد وضعنا عنوانًا مزدوجًا لكل شخصية ، فجاء بمنزلة بُوصلة ، تُؤشِّرُ على السِمات، التي يتميَّز بها المترجم له . بل جاء العنوان الثاني (Sous-titre) أكثر تحديدًا ، بحيث تُقرأ الشخصية بجلاءٍ ، من حيث مكوِّناتُها الفكرية والتوجُّهات .
وكنّا ننطلق ، في ذلك ، من أن العنوان يُشكِّلُ العتبة ، التي تُدخلنا إلى فضاء الشخصية ، التي نُقارب .
4- أدرجنا الشخصيات الأربع عشرة في ستِّ فئات (Catégorie) معرفيّة، مع وجود تداخل بين هذه الفئات ، بمعنى أن عددًا من الشخصيات، أدّى واحدُهم أكثر من دور ، أو تعدّى إلى امتلاك موهبتين أو ثلاث. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ رضوان الشهّال، بقدر ما هو مُبدعٌ في فن الرسم ، فهو مُبدعٌ أيضًا في مجال النقد الأدبي ، إذْ أتى بنظرية رائدةً ، وخلّف مؤلّفاتٍ مُعتبرة ، على هذا الصعيد ، ناهيكَ عن كونِهِ شاعرًا مُلهمًا، وإن كان قليل الشعر لا كثيره !
5- جرّاء الاستفاضة في غالبية الشخصيات ، التي توفّرنا عليها . والتأشير على أبعادها المتعدِّدة ، فإنّ كل شخصيةٍ تُؤسِّس لمشروع كتابٍ حولها. وهذا ما سوف نُقدِمُ عليه ، ولاسيما بما يخصّ بعض الأعلام ، الذين لم تتم دراستهم ، من قبل ، دراسة جادّة .
في هذا الصدد ، نستعيد ما جاء في ختام المدخل إلى هذا الكتاب ، حيث أعلنّا أن مسيرتنا مع مدينتنا طرابلس لن تتوقّف ، فهي ستُغِذُّ السير مع علمائها وأدبائها ونُخبها الفكرية والثقافية .. مع مُبدعيها ، في مختلف المجالات ، مع رجالاتها ونسائها ، ولن تُغادر أحدهم / إحداهُنّ ، ممن تركوا/ تركنَ بصمة في سجل الفيحاء، التي تستحقّ منا كثيرًا من الجهد والعمل ، وإقلالاً من المماحكات وإضاعة الفُرص.
ولكن يبقى السؤال ، الذي يُلحُّ علينا : هل مازالت طرابلس – وفق المفكِّر د. معن زيادة ، كأيِّ مدينة عربيّة أخرى (..) تصنُع أبناءها وتُقدِّمهم للمستقبل ، في الأسرة وفي المدرسة ، وفي الشارع السياسي ، وفي إطار الحركة الوطنية العربية؟! ولنا أن نُضيف : هل ما زالت المدن العربية ، تقوم بهذا الدور، في ظلّ حالة التشظِّي والتذرُّر ، التي تعيشه أمّتُنا ، والآتي قد يكون أعظم وأشدَّ هولاً ؟!
ختامًا ، لنا أن نستبق الإجابة عن سؤال سوف يُطرح : لماذا كانت الشخصيات الأربع عشرة دون سواها ؟ ويأتينا الخبر من لدُن السيدة بعاصيري، فتذهب إلى أنّ اختيار هذه الشخصيات ، من بين العديد من أبناء طرابلس ، لا يعني الانتقاص من مكانة آخرين كُثُر، لهم إسهاماتٌ نوعية وعطاءاتٌ رفيعة . ولنا أن نؤكِّد بأننا عازمون على أن نُوفّي آخرين وآخرين حقّهم من الدراسة ، كي ينضمّوا إلى أقرانهم، وبذا تتكامل القضيّةُ فصولاً !
في مأثورنا الديني : “للمجتهد أجران إذا أصاب ، وأجرٌ واحدٌ إذا لم يُصِبْ” ، فعسى أن نكون ، في هذا الكتاب ، قد أصبنا ، فنحظى بنعمةِ الأجرين .
***
*نص كلمة د.مصطفى الحلوة، في ندوة حول كتاب “روّاد نهضويّون من طرابلس”- “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب”، الجمعة 16 أيار 2025