الفن والسياسة في فكر هربرت ماركيوز
وفيق غريزي
يشهد تاريخ الفن ان الفن ليس مجرد ظاهرةجمالية فحسب ، صحيح ان الظاهرة الجمالية تمثل البعد الماهوي للفن ، لكن من الصحيح ايضا ان الفن يمثل ظاهرة تاريخية ، اعني ظاهرة تنشا في سياق ظروف سياسية واجتماعية معينة ، من ثم فان البعد الجمالي للفن لا يكون أبدا بعدا خالصا ومجردا ، وانما يكون مرتبطا بواقع سياسي واجتماعي . ومن هذا المنطلق فرغم ان فلسفة هربرت ماركيوز قد حظيت باهتمام واسع في ثقافتنا العربية المعاصرة، فان هناك ندرة ملحوظة في الاهتمام بالجانب الجمالي من فلسفته، على الرغم من ان هذا الجانب قد شكل جزءا مهما داخل نسيج فلسفته العامة ، ونظرا لاهمية هذا الجانب ، فقد كرس ماركيوز له عمله المعنون باسم ( البعد الجمالي ) وكانه بذلك يبلور هذا البعد المتناثر في ثنايا فلسفته العامة ، حيث يرى ماركيوز ان راديكالية الفن وطابعه الثوري قد اصبحت مطلبا ملحا في المجتمع المعاصر الذي اصبح يسلم بالتشيوءوالاغتراب ، مما أدى إلى التبعيد بين الفنان والمجتمع ، وهذا ما دفعً ماركيوز إلى التاكيد على الفردية والذاتية في مواجهة النزعات السلطوية المختلفة التي تحاول تسييس الفن وقمع طاقته الثورية ، وهذه الراديكالية المميزة للعمل الفني عند ماركيوز لا ينبغي ان تطمس البعد الماهوي للفن المتمثل في بعده الجمالي .
مركيوز والرواية الالمانية:
ان الإرهاصات الاولى لنظرية ماركيوز الجمالية ظهرت خلال أطروحته عن ( فن الرواية الالمانية ) حيث تظهر في هذا العمل الجذور الاولى لعلاقة الفن بالواقع ، والتي تعد حجر الزاوية في فلسفته الجمالية . فقد استطاع ماركيوز من خلال هذا العمل ان يقدم تحليلا دقيقا للعديد من النماذج الادبية الالمانية ، محاولا بذلك الكشف عن الجوانب الثرية التي يحملها هذا الادب ، والتي توضح بشكل او باخر علاقة الفنان بالواقع سواء كان ذلك عن طريق التأييد او الرفض لهذه الروايات ، وذلك من خلال تحليلها والكشف عن جوانبها الايجابية في بعض الاحيان او أوجه القصور المتضمنة في بعضها احيانا اخرى .
هذا، ويرجع تاثير ماركيوز بهيغل إلا انه قام بوصف التقدم والتطور الحادثين للأشكال الادبية المتحققة بعيدا عن التفاعل تارة ، ومن خلال النظر إلى الصراع القايم بين بعضها البعض تارة اخرى ، فأطروحته حسب قول الباحثة : حنان مصطفى عبد الرحيم )في كتابها ” الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركيوز” ” عن فنان الرواية الالمانية تحتوي على البنية الهيغلية ( نسبة لهيغل ) والإيقاع اللذين يشكلان مسبقا تبنيه المؤخر للمنهج الجدلي الهيغلي ” ففي كل فصل بعد اختيار ووصف نمط الحياة على نحو تعاطفي يكشف ماركيوز عن التناقضات واوجه القصور المتضمنة في الروايات ترجع الى ان الرواية تنطوي في ذاتها على تناقضها واوجه قصورها الخاص بها، محاولا بذلك حل الصراع القايم بين الفكر والواقع ،الفن والحضارة ،ونجد ان الشكل الاصيل للرواية عند ماركيوز هو نفس الشكل الموجود عند عن هيغل ، وهو”ان الروايةتمثل بحثا عن الوحدة المفقودة وتجسدها محاولة في ذلك ان تتجاوز الفردية “. فالاتحاد الحقيقي عند كليهما هو الذي يقوم على تجاوز الفردية في علاقة الفرد بالعالم الاجتماعي ، وان كان هذا التجاوز لا يعني القضاء على الفردية .فيقول هيغل : ” ان تجاوز الفردية يعني إعلاء الفردية والتسامي بها إلى نطاق اعلى فتكتسب ثراء وخصوبة كانت تفتقد اليها في حالة الانفصال والانعزال “.
وذلك ما أوضحه ماركيوز عندما اكد ان فكرة ” الفن للفن” فكرة عقيمة ، وان انعزال الفنان عن واقعه برغم الحفاظ على فرديته ووعيه الذاتي ،قد يرضي الفنان في بعض الاحيان إلا انه لا يودي إلى رسم روًية موحدة للحياة الاجتماعية ، ويبعد الفن بذلك عن مهامها الحقيقية التي تكمن فقط في اعادة انتاج التجزؤ الثقافي والاجتماعي داخل الوعي الذاتي . وترى الباحثة عبد الرحيم ، ان ماركيوز في أطروحته متابع لكل من هيغل وجورج لوكاش ،يفرق بين الرواية والشعر الملحمي ، فالشعر الملحمي يعبر عن الحياة الاجتماعية وحياة الناس الداخلية ، بينما تعبرالرواية عن اغتراب الفنان الفرد عن الحياة الاجتماعية ، فالرواية تعبر بوضوح عن رغبة الفرد وسعيه الدايم نحو السمو إلى حالة اكثر اصالة من الوجود .
ماركيوز: الثقافة البرجوازية
يحاول ماركيوز من خلال مناقشته لفكرة الثقافة التاكيدية ، والمقصود بها الثقافة البرجوازية، ان يتتبع التطور التاريخي لهذه الثقافة بدءا من أفلاطون وأرسطو ، فيقول :
” لكي نقتفي اثر تطور الثقافة التاكيدية وتنوعه الخاص ، يتطلب الأمر العودة الى الفلسفة الكلاسيكية ، والتي تكمن في أعمال ارسطو ، والاعمال الأخيرة لأفلاطون حيث يستطيع المرء ان يكشف الفكرة الشديدة الارتباط بهذه الثقافة التاكيدية “. فالنظرية المثالية منذ أفلاطون تقوم على اساس التمييز بين ما هو ضروري وبين الخير الأقصى وكذلك الحال عند ارسطو الذي مثلت عنده الفلسفة الاولى اعلى خير .
تشير الباحثة عبد الرحيم ،إلى ان البرجوازية حاولت ان تبحث عن السعادة كمطلب حقيقي ؛ فوجدت ان فكرة السعادة قد اخذت معاني جديدة ، فلم تكن السعادة هي سعادة الروح ولكن ظهرت السعادة المادية كبديل ، فالشخص يصبح سعيدا عندما يحقق رغباته واحتياجاته ، لذا فقد ، انحصرت السعادة في بحث الأفراد عن اكبر قدر من الاشباع ، وذلك هو المخطط الأساسي الذي يستهدفه المجتمع الرأسمالي حيث كان يعمل على توطيد للفكرة التي ترى ان السعادة تتحقق من خلال كلية السعادة عن طريق الاشباع .
فاذا كانت الروًية البرجوازية تتفق مع الروًية الكلاسيكية المثالية في ضرورة العالم المفارق كاساس للسعادة في العالم المادي ، إلا ان الاختلاف بينهما يرجع إلى ان البرجوازية لم تقف فقط عند ذلك ، ولكن اصبح العالم الروحي الثقافي عندها هو الاساس المباشرللعلم المادي ، وهذا ما لم يقره الفلاسفة المثاليون ، فلم يقروابهذه المباشرة لان الاهتمام الاول للانسان عندهم هو الحفاظ على وجوده ، ويبدي ماركيوز هنا احتراما شديدا للروًية المثالية للثقافة البرجوازية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، برغم فصلها للواقع المادي العملي عن الواقع الروحي المثالي ، إلا ان ماركيوز يحاول ان يبرر هذا الفصل بقوله : ” لا تعبر المثالية البرجوازية في عملها عن مجرد ايديولوجيا لانها تعبر عن محتوى موضوعي حقيقي مرتبط بالوقع القايم ، ومن هنا فان معالجتها ليست بالمعالجةالعنيفة ولكنها معالجة حقيقية “.
ان الفن الكلاسيكي الخاص بالثقافة البرجوازية يخلق عالما كليا مستقلا بذاته ويمثل عزلة عن الحياة اليومية ، كما ان المذهب الإنساني الخاص بهذا الفن يرفض كل المحاولات لجعل الفن متوافقا مع الاهتمامات المباشرة العملية للوجود الاجتماعي . ويكشف ماركيوز عن ان الوظيفة النقدية الموجودة في الفن وحدها هي التي يمكن ان توضح ذلك وهذا يتجلى من خلال طبيعة الشكل الجمالي . التي تجعله يمتلك لغة جديدة مغايرة غير مركزية تختلف كل الاختلاف عن اللغة العادية ، وتمثل مملكة مشتركة بين البشر تتوحد خلالها خبراتهم وتعبر عن الجوانب المكبوتة داخلهم ؛ وذلك كما يظهر في الأعمال الفنية المختلفة . ثم الخيال الجمالي ، والذي وفقا لقواعده الخاصة لا يعبر عن الأمنيات والاحلام ، غير المتحققة في الواقع لكنه يمثل في الوقت نفسه قوى كامنة من شأنها ان تعيد ما قد تم ادراكه من قبل ، لذلك فالفن يقدم لنا محتوى مختلفا بشكل نوعي عن الحياة الاجتماعية العادية .
الروح داخل الثقافة البرجوازية
يرى ماركيوز ان الحركات الفنية الطليعية كالدادية والسريالية والتعبيرية قد مثلت عنده خير تعبير عن الفن الأصيل الذي ينبع فيه الرفض من فاعلية الشكل ، وقد أبدى أدورنو ايضا اعجابه بهذه الحركات ، لانها تمثل في نظره نوعا من التمرد الفني الاجتماعي ، إلا ان أدورنو يختلف عن ماركيوز ، لان الاول قدم تفسيرا اجتماعيا لهذا التمرد الفني من خلال دينامية الرأسمالية المتطورة ، لكن ماركيوز راى ان هذا الرفض من قبل هذه الاتجاهات يمثل سمة من سمات الفن الأصيل . وتوكّد الباحثة عبد الرحيم ان نظرية الفن عند ماركيوز تعد من بدايتها بمثابة العرض المسبق لاعماله المتأخرة مثل ( الحب والحضارة) و ( البعد الجمالي ) ، ومنذ البداية وهو يحاول ان يطور نظريته في الفن على اعتبار انها صورة يوتوبية للإنجاز والسعادة التي تقضيها العالم المغترب ، ولذا جاءت أطروحته منذ البداية مرتكزة على تحليل مصادر الاغتراب وطرق تجاوزه من خلال البحث عن مجتمع يتسم بالحرية والانسجام ، وذلك هو المحو ر الذي سيصبح فيم بعد مهيمنا على فكره باكمله . مما جعل بعض الباحثين مثل دوغلاس كيلنر يذهب إلى ان نظرية ماركيوز النقدية الجمالية قد بدات في الظهور ، منذ بواكير فكره ، وذلك من خلال عمله المبكر ( فنان الرواية الالمانية ) . وان هذ الموقف المتأخر كان له توقيع مسبق ، خاصة في حديثه عن الرفض الأعظم الذي كان موجها للمجتمع ذي البعد الواحد وللفن في ذلك المجتمع .
يعتقد ماركيوز ان هناك اتجاهات جمالية اخرى حاولت ان تعبر عن نفسها من خلال تبني شعار باكوتين الفوضوي ” التخريب هو الابداع “. وذلك النوع من الفن تقول الباحثة :
” يمثل فنا مضادا ويعد من اكثر الفنون المضادة شهرة ، وأكثرها تمثيلا هو الدادية “، ويعتبر الشاعر الروحاني تريسيان تزارا هو الذي قاد الدادية عند مولدها. فالدادية استطاعت ان تقدم قصايد شعرية ليس لها معنى واختارت من الشعر المتشابه الذي ضم مجموعة من القصايد جميعها مكتوبة بلغات مختلفة في وقت واحد ، او قصايد سليمة يحاول فيها الموًلف ان يتجنب اي اصوات ، او حتى كلمات تقريبية . وعملهم هذا في راي ماركيوز يعد انجازا فنيا ، وذلك لانه يمثل ثورة على كل ثبات مميت.
الخيال الفني الحر :
يعمل الخيال الفني بطبيعته إلى ايجاد نوع من التصالح بين الفرد والكل ، وذلك من شأنه ان يحقق السعادة ، كما ان المعالم الأساسية لمبدا الحقيقة يمكن إيجادها داخل فكرة الخيال الحر كما عند ماركيوز ،لذلك فالهدف الأساسي للخيال الفني عنده هو شل قوى القمع والسلب والتغلب على التخاصم الدايم مع الواقع ، والاستطيقا والجمال وحدهما هما اللذان يستطيعان تجسيد هذه الأفكار ، لان الاستطيقا وحدها هي التي تقدم لنا الاسباب اليانعة على ضرورة تقدير الجمال .
ولكي نتعرف على وظيفة الخيال هذه لابد لنا في البداية ان نقدم تعريفا محددا لوظيفته عند ماركيوز الذي يقول :” ان تحليل الوظيفة الادراكية للتخيًل او للخيال يقودنا إلى الاستطيقا كادراك معرفي ، لان فكرة الفن نفسها هي فكرة الخيال الحر “.
ولذا نجد ماركيوز يعرف الخيال على انه ادراك معرفي مختلف ، يرجع اختلافه الى احتفاظه بالحقيقة سواء كان ذلك عن طريق الإيجاب او الرفض ، وبناء على ذلك تكون الحقيقة التي نصل اليها من خلال عمل الخيال هي تلك الحقيقة التي لا ريب فيها ، فماركيوز يتفق مع العالم النفساني سيغموند فرويد على ان الخيال يتمتع بقدر عال من الجراًة ، مما يجعله قادرا على السلب والتجاوز والإبداع ورفض القمع ،وذلك لانه يمثل قوة سلب ونفي للواقع ، كما انه يمثل طاقة خلق وابداع في الوقت نفسه ، فالحقيقة التي نصل اليها عن طريق الخيال لا تغدو وهما ، فاذا كانت موضوعات الخيال غير مطابقة للواقع القايم ، لكنها تطابق سياق الوعي وهو يتوهم او يتخيل ، وهكذا يتحول اللاتطابق إلى تطابق ، وتؤول اللاحقيقة إلى نوع من الحقيقة…..