النَصّ الشِّعري القصير في الميزان

Views: 659

سامي معروف

 التعريف: إنه الأدَبُ الوَجيز، شِعرُ الوَمضَة، القصيدة القصيرَة (عامِّي أو فصيح) والتي تتراوَح بينَ الكلماتِ القليلة والرُّباعيَّة فالخُماسيَّة. وهو النَصُّ الرّائج حاليًّا على الصَّفحات الرَّقميَّة. إنه الكلامُ الذي يدورُ حولَ فكرَةٍ واحِدةٍ أو صورَة واحِدَة هادفة مُرَكـَّزَة، ساعية بالتكثيفِ إلى إحداثِ المفاجأة أو الدَّهشَة عندَ الكلمَة الأخيرَة. وقد سرَقت هذه “الدَّهشَة” حضورَها القويّ من رصيدِ البَيانِ والبَديع والأدَوَاتِ البَلاغيَّة الأخرى في القصيدَة الطويلة. وإذا كانَ هذا النَصُّ القصير حاويًا صوَرًا عديدة وأفكارًا متدافعَة فإنه حتمًا يتفكـّكُ.. ويُضَيِّعُ هدفـَه ومعَه القارئَ أيضًا.. بسبب تحميلِهِ ما لا طاقة له عليه. في حين أنَّ التـَّكثيفَ ليسَ في زَحمَةِ الصُّوَر، بل في تضمين الكلام القليل معاني عديدة أو متشعِّبَة، بالتلميحِ والمُقاربَةِ الذكيَّة.

 ما له: قد يَبدو أنَّ هذا الشّكلَ القصير جَديدٌ في الشِّعر العامِّي والفصيح! إلا أنَّ التـّاريخ القديمَ والحَديث، شَرقـًا وغَربًا، قدَّمَ نماذجَ كثيرَة في هذا النَّوع: الشِّعرُ الحِكـَميُّ القديم (سِفر الأمثال لسُليمان الحَكيم) مثلاً، شِعر الهايكو الياباني، رُباعيَّات عُمَر الخيَّام، الرُّباعيَّات الكثيرَة عند المُتنبّي والأقدَمين عمومًا، (كتاب الحُبّ) نزار قبّاني، (خماسيّات الصّبا) سعيد عقل: أسكنُ في الدَّهشَهْ.. لونِيَ غيرُ لوْنْ.. والشِّعرُ قـُلْ رَعْشَهْ.. أو أنـَّهُ قشَّهْ.. لاعبَة بالكَوْنْ. قصائد خليل حاوي الأخيرَة: أغمَضْتَ عَينيكَ على رَمادْ.. أغمَضتَ عينَيكَ على سَوَادْ.. تغورُ في أرضٍ بلا سَريرَهْ.. غُصَّاتـُكَ المَريْرَهْ. وكتاب جبران (رَمل وزَبَد) قمَّة النَصِّ الوامِض المُكثـَّف: فكـَّرَ اللهُ، فكانَ فكرُه الأوَّل ملاكـًا.. وتكلـَّمَ اللهُ، فكانتْ كلمتـُه الأولى إنسانًا. ما عَييْتُ إلاَّ أمامَ مَنْ سألني: مَنْ أنت؟ والشّاعرُ الاسبانيّ العَظيم لوركا في إحدى قصائدِه يقول: لو سَمِعْتِ يومًا شجرَة الدِّفلى تبكي، ماذا تفعلينَ يا حَبيبَتي؟ أتنهَّدُ. لو رأيتِ النـُّورَ يناديكِ عندَ الرَّحيل، ماذا تفعلينَ يا حَبيبَتي؟ أفكـِّرُ في البَحر. لو صرَختُ إليكِ من حقولِ الزَّيتونِ: أحبُّكِ.. حَبيبَتي ماذا تفعلين؟ أغمِدُ خِنجَرًا في صَدري. وهؤلاء جميعًا صنـَّاعُ القصيدَة الطويلة. وهذه النصوصُ القصيرَة الجَديدَة إن هي إلاّ إسقاطاتٌ وافدَة منَ الماضي، وهذا أصالة وَضَرورَة. ومن جهةٍ ثانية فإنّ النَصَّ القصير يناسبُ العَصرَ تمامًا، أي مرحلة الحداثةِ الفائقة، والحياةِ السَّريعَة التي لا يجدُ فيها الكاتبُ وقتـًا للكتابَة ولا القارئُ للقراءَة. إنها شاشة الموبايل وحدَها نافذته نحو الثقافةِ ومواكبةِ الحياة ومستجدّاتِها. ويُشكـِّل هذا النصّ القصير حالة جديدَة بموضوعاتِهِ الجَديدَة الملتصقة بالحَيَاة، بحيث أصبحَت الدَرَّاجَة الهوائيَّة مادَّة قصيدَة، والصّابونة، والموبايل، ووَجبَة الدّلِفري، وزَحمَة السَّير، والمُظاهرَة، وجلسة النـَّارجيلة، والبوتوكس، والسَّرْدين، والسّكربينِه، حتى التوَافهِ منَ الأشياء… إلخ. وبالتـَّالي فقد باتَ هذا النَصّ خارجًا عن جَدوَل العناوين التقليديّة للشِّعر (غزَل، وطنيَّات، حِكمَة، وجدانيَّات…). والشَّجَاعَة في طرْقِ موضوعاتٍ جديدَة مغامرَة، ناجحَة كانت أو فاشلة، لا بُدَّ منها في عمليَّةِ التـَّجديد. وأفضَل تسميَة لهذه النصوص، برأيي، هي (الخاطِرَة الشِّعريَّة).. وفي الزَّجَلِ يُسمُّونَها (رَدِّه) وليسَ قصيدَة. ثمَّ في (الأدَبِ الوَجيز) لا تردُ الفلسَفة كنظراتٍ تأمّليَّة في الوجود، ولكن هناكَ استعارَاتٌ للمُفرَداتِ العلميَّة الفلسفَيّة، باعتبار أنَّ المفرَدَة الفلسفيَّة الواحِدَة خَزَّانُ متفجِّرَاتٍ منَ الكثافة. ولا ننكرُ البتة نجاحَ الكثير منَ النصوص في لعبَةِ الكثافة. والتـَّكثيفُ الجيِّد هو تثليجٌ لضَبَابِ المَعانِي في الصُّورَةِ الوامِضَة.. إنـَّه حَشْرُ الماردِ في القمْقم! وهذا ليسَ بالسَّهل، ولا ينجَحُ دائمًا. وأقولُ الصِّدقَ بضَمير أنَّ ثلثي قصائد إحدى مجموعاتِ نَصٍّ قصير فشِلتْ في تحقيقِ “الدَّهشَة”. فهل يا ترى أصبَحَتِ “الدَّهشَة” جَوهَرَ الشِّعر؟ هل نفعلُ كما يَفعل المُطربون اليَوم، بحيث تنجَحُ أغنيَة واحِدَة من الألبوم، فنُبقي عليها ونرمي بسِواها في القمَامَة؟!

 ما عليه: لقد قزَّمَ النَصُّ القصيرُ الشِّعرَ في تعَصُّبِهِ للصُّورَةِ الواحِدَة والفِكرَة الواحِدَة، بسيطة كانت أو مُرَكـَّبَة. وهذا الاختزالُ للشِّعر ينفي جَوْهرَه، لأنَّ الشِّعرَ قصيدَة وليسَ خاطِرَة! أنتَ شاعرٌ أسمِعْنا قصيدَة. لماذا هذه الحَرْبُ على القصيدَة؟! ودوافعُ المَعرَكَة، غالبًا، إن هي إلاَّ شُعورٌ خبيْء في أعماقِ الذات بأنَّ هناكَ شيئًا ما يَنقصُها. وفي النصّ القصير أيضًا سيطرَة للعَقل على حِسابِ العاطفة. فالتكثيفُ لعبَة عقليَّة ساحقة للعاطفة، والكلماتُ القليلة لا تملكُ مستوعبًا كافيًا لتدَفـُّقاتِ العاطفة. فالعاطفة في الشِّعر حاجَة وَضَرورَة، ومُحرِّكُ الكتابَة أصلاً عاطفيّ. والعاطفَة لا تتوَهَّجُ إلاّ من خلال الكلام الذي يذهبُ بكَ شمالاً ويمينًا، ويرفعُكَ حينًا ويهبطُ بكَ أحيانًا، يَقفُ بكَ حينًا ثمَّ يدورُ بكَ أحايينَ أخرى.. وهذه مستحيلة في الكلامِ القليل. وهكذا العاطفة عنصرٌ أساسيٌّ في الشِّعر قد أسقِط. ثمَّ هناكَ عنصرُ الموسيقى! فمُجرّد نظم كلماتٍ في بَيتين لا يُحدِثُ الموسيقى، لأنَّ الموسيقى وليدَة التعدُّديَّة في الإيقاعات. الدّو ريه مي فا وحدَها لا تصنعُ الموسيقى، وإنـَّما الأنغامُ المتلاحقة، و”القفشِه” لا تستطيع أن توَلـِّدَ الموسيقى. وميخائيل نعَيمِه يقول عن جُبران بأنَّ له ولعًا غريبًا في التـَّنغيمِ بينَ المقاطِع في كتابةِ النَثر. هذا وأنّ الموسيقى حاجَة وضرورَة هي الأخرى، ولذلِكَ فالجَمَاهير تفضِّلُ في الغالب الزَّجَل على الشِّعر. أنسْعَى لتغيير طبيعَة البَشَر؟! هل نَهدِمُ ونَبْني منَ العدَم؟! الموسيقى ركنٌ أساسِيٌّ في الشِّعر، وكم من كلامٍ موزونٍ لا يَحوي موسيقىً! هذا والنَصُّ القصير لا يقدِّمُ حيِّزًا لكي يستخدمَ الشَّاعرُ فيه مَهاراتِه اللغويَّة ولعبتَه الخاصَّة في نَحتِ المُفردات، لسبب عدم وجود أدواتٍ كافيَة بينَ يدَيه.. فهو يُشبهُ نسْرًا في قفَصٍ صَغير! هناكَ طبعًا جَمَالٌ عَظيم في الإيجاز البليغ، ولكنّ الجَمالَ أيضًا في بلاغةِ الشَّاعر وتفنُّنِهِ في صياغةِ لغتِهِ وقماشتِهِ الفريدَة. والصُّعوبَة الحَقيقيَّة ليسَتْ في ابتِكارِ صوْرَةٍ بَل في تطوير مَوضوعٍ من صُوْرَة. ومن عناصرِ الشِّعر أيضًا الهندَسَة والبناء. فالقصيدَة تقلِعُ من مقدِّمَةٍ وترتقي إلى الذروَة ثمَّ تنخفضُ وتهبط تدريجيًّا نحوَ الخاتمَة. القصيدَة موضوعٌ وإنشاءٌ وخِطابٌ وصِناعَة ورُؤيًا. والقصيدَة هي عالمُ الشّاعر يسكبُه عواطفَ وموسيقىً وخَيَالاً طريفـًا عميقـًا مبتكرًا. والشِّعرُ ليسَ متعَة وترفـًا عقليًّا وحَسب.. ولكنَّه شَريكٌ في بناءِ الإنسان والارتقاءِ به، هو حاملٌ رسالة. والرُّؤيا هي تجربَة الشَّاعر الذاتيَّة وألمُهُ هو دونَ سِواه، وقد صَنـَّعَ لها قوالبَ جديدَة تناسبُها وخليقة بها، وبالتالي إن لم يكنِ الشّاعرُ فريدًا في تجربتِهِ فهو حتمًا تقليديّ. وكيف يكونُ الشّاعرُ فريدًا إذا كانتْ شاعريَّتـُه لا تتغذى بسِوى ما يقرأ على الفيسبوك ويسمَعُ في المُنتدَيَات؟! التكنولوجيا، للأسَف، تجعلُ الجَميعَ متشابهين. و”حلوووو” و”ياعِيْن” و”عيدا وزيدا” والتـَّصفيق ليسَت هذه معاييرَ الشِّعر، و”القفشِه الحِلوِه” جَمَالٌ هامشِيٌّ عارض، لا يُعمِّرُ طويلاً.      

خلاصَة: وفي ختامِ الكلام نحن لا نتعَصَّبُ للقصيدَةِ القصيرَة ولا عليها، لا نرفعُ لواءَها ولا نمنعُها، والسَّاحة مفتوحَة لكي تثبتَ أصالتَها، وهي بالتالي صنفٌ آخر يُضافُ إلى سابقيه. ولكنَّها ليسَتْ دليلَ شاعريَّةٍ عاليَة، ولا تجديدًا حقيقيًّا في الشِّعر لعدَمِ احتوائِها عناصر الشِّعر كاملة. وإنـَّما يقودُنا الحِرصُ على مستقبل الشِّعر بحيث انحَدَرَتْ نصوصٌ كثيرَة إلى مستوى التفاهَة والبَهلوانيَّات غير المُجديَة، ولو كانَ ظاهرُها ظرْفٌ وطرَافة. وبغايةِ الترويج لهذا النوع الكتابيّ يَتمّ التغاضي عنها، بل وتشجيعها أيضًا. وهناكَ خشيَة حقيقيَّة من أن نصِلَ بَعدَ هذا النَصِّ القصير، وربََّما قريبًا مَن يَدري! إلى (قصيدَةِ البَيَاض) التي نادى بها الشّاعر بول شاوول في سَبعينِيَّاتِ القرْنِ الماضي. والشّاعرُ الذي ولِدَ في زَمَنِ النـَّار يُعطي لهيبًا حارقـًا، وأمَّا الذي ولِدَ في زَمَنِ الرَّماد فشِعرُهُ مُجَرَّد ومَضَاتٍ متناثرَة سَريعةِ الانطفاء والتـَّلاشي.

23- 9- 2019

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *