كريم يوسف… «عابر بين كلمتين»

Views: 322

أسلوب شاعر شغوف بفتنة الغموض ولذة البوح وانسيابية الألم
كريم يوسف… «عابر بين كلمتين» في جنة الشعر والجمال
د.محمود عثمان
 
إذا كانت القبائل العربية في الجاهلية تحتفل بولادة شاعر فيها، فمن حقنا اليوم أن أن نوقد النار ونرقص إحياءً لتلك السنة الجميلة، ولا شك في أن جدّنا امرؤ القيس سيكون حاضراً، عبر الأقمار الإصطناعية، عرس حفيدٍ من أحفاده الذين نذروا أنفسهم للرحيل الأبدي، وللعبور بين الكلمات العابرة.
فلا غرو أن يحيلنا عنوان الكتاب «عابر بين كلمتين» على الشاعر محمود درويش إلا أن كريم يوسف وهو اللاعب الجميل، اعاد الصياغة في صيغة المثنى، فهو ليس مجرد فرد في صيغة المفرد، ولا هو مفرد في صيغة الجمع بحسب أدونيس والنحاة من قبله، بل هو مفرد في صيغة المثنى.
إن كريم يدرك جيداً جمالية المثنى كما أدركها جده الأول امرؤ القيس «قفا نبكِ» و«خليليّ مرا بي على أم جندب» ومن اتبع سنته من الشعراء اللاحقين. كما أن كريم خبر حلاوة الإيقاع المثنوي في صورة الرحمن، عروس القرآن.
وكريم يعرف سحر الكلمة ومعجزاتها، ففي البدء كان الكلمة، ويسوع كانها، وحين اصطفى ربنا آدم علّمه الكلمات، وفي الأناشيد السومرية « كلماتك هي النبات».
وإذ رُحت أقرأ كلمات كريم يوسف تذكرت نصيحة توفيق الحكيم «النقد للأديب الجديد موجه وللأديب القديم مفسر ومحلل»، وسألت نفسي هل أستطيع توجيه موجة متمردة على الشطآن، وقلم تمرس على العصيان؟
ظننت للوهلة الأولى وأنا أقرأ أن كتابته مجرد تمرين لفظي أو كتابة آلية تعكس اختصاصه في الإدراك الآلي، فالقارىء اللاهث يفلت من يده الخيط الناظم للمعنى، ذلك أن كريم يترك قارئه يتخبط وحيداً في ليل المعنى الذي دشّنه الشاعر الفرنكفوني صلاح ستيتيه.
إنّ كريم يلعب بالكلمات كطفلٍ يلعب بالطائرات الورقية، مولع بالثنائيات، مولع بالغرابة، بالمونولوغ الداخلي، بالإحتمالات المنذورة للتلاشي، ومأخوذ بغواية الكلمة يُقلبها كيف يشاء، يعرّيها وينظر إليها من كل الزوايا.
يحاول أن يكتب شعراً متحرراً من أسر المادة والمكان. يقع أحياناً في التجريد الذهني ليمعن في عدميته التي قد تكون وجهاً آخر للحقيقة، فالشعر يوحد بين التناقضات ويتخطى الثنائية ليعبّر عن وحدة الكائن.
وكريم يوسف شاعر يعيش في الزمان لا في المكان، فهو ينتقل بجسده من بلد الى آخر حاملاً حقيبته الملآى بالذكريات. ولكن سفره الحقيقي هو في ذاته، وفي زمنه الذاتي، فللشعر زمن خاص يختلف عن زمن الناس العادي، والشعر خشبة خلاص في عالم تتلاطم أحلامه وخيباته.
اللحظة الشعرية عند كريم هي لحظة فكرية وتأملية، يملؤها إحساس عارم بالغربة الوجودية فهو يقول : « ليس لي سوى لقب الغريب، سوى اللفظ الغريب». وعناوين قصائده تشي بذلك:« تائه يدعى أنا» «دعوة الى غروب الشمس » «مصير يبحث عن مصيره» « الكون مقفراً » «على شاطىء المجهول» « رسالة من حقيبة سفر»…
كما يلازمه إحساس دائم بالفقدان: «للتو غابوا، وتركوا وراءهم ما علموني من كلمات».« أنا النور كم وقفت بيني وبينهم». لقد خلتُ أنّ هذه العبارة المشحونة بالأسى موجهة الى والديه، الرافدين الأساسيين لتجربته الإبداعية: أم متفانية أبحرت في محيط الأدب الفرنسي كسندباد من الشرق، وأب تحسبه كاهن الثقافة المتواضع، المنفتح بخلفيته اليسارية، على كل التجارب الأممية في الشعر والفلسفة.
إن كريم الباحث عن ذاته، في زحمة العالم والأشياء، شاعر يتلمس طريقه ويطارد سراب المعنى، الأنا في كتابته هي الآخر أو التائقة لتكونه، ولذلك يتبادلان الخيانة  «لم أكن صادقاً ولم تكن صادقاً يا خائني في المعنى».
فهل خيانة المعنى طريق اليه، وهل خيانة الذات نوع من الوفاء لغرائزها؟
ولا بدّ لي في نهاية هذه المقالة، أن أعترف بأني فوجئت لدى قراءتي كريم، وهو ابن الضنية جنة الشعر والجمال، بأنه لا يعكس في شعره، صورة هذه الطبيعة الآسرة، المتدفقة بالماء الا لماماً، ذلك أنني تعرفت من خلال كاتبنا على حساسية جديدة، غير مألوفة لدى شعراء الضنية وأدبائها، قوامها أسلوب شغوف بفتنة الغموض، ولذة البوح وانسيابية الألم والإصرار على قتل المعنى، تشفياً ربما من وحدته الكيانية والنفسية.
وإنني إذ أعي عذاب الأنا التي تصبو الى معانقة الآخر، أهتف بملء فمي لكريم يوسف: أنت تستحق ما تحلم به، تستحق ما تحلم به.
كلام الصور
1-المفكر كريم يوسف
2-«عابر بين كلمتين»
صورةصورة

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *