اليازجي

Views: 733

استدعاه الأمير بشير الشَّهابيّ ونظمه في حاشيتِهِ 

Kfarchima-5-Nassif_Yaziji
الشيخ ناصيف اليازجي

 ركن شامخ في اللغة والأدب

 

                                                        د.عمر الطبّاع


أبصر الشيخ ناصيف اليازجي النُّور في كفرشيما، وهي بلدة في جوار بيروت. كان أبوه يزاول الطّبّ على طريقة ابن سينا. تلقَّن أصول العربيَّة على يد راهب من بيت شباب اسمُهُ متَّى. غير أنَّهُ أكمل ثقافتَهُ معتمداً على نفسه مستعيناً بمكتبات الأديار حيث نهل منها ما طابَ لهُ، معتمداً على ذاكرة عجيبة وعقلٍ راجح وذكاء متوَقِّد.
عرف الشُّهرة بين شعراء عصره ولمَّا يزلْ طريّ العود. وقد استدعاه الأمير بشير الشَّهابيّ الكبير ونظمه في حاشيتِهِ واستكتبه في ديوانه، على أثر قصيدَة مدَحَهُ بها. لبث لدى الأمير نحو اثنتي عشرة سنة (۱۸۲۸- ۱٨٤۰)، وقد غادره بعد نفيِهِ إلى جزيرة مالطة. ثم هبط الشيخ ناصيف الى بيروت وزاول التعليم في مدارسها، ونَقَّح ترجمة الكتاب المقدَّس الَّتي قامَت بها الكليّة الأميركيَّة. وقد وافاه الأجل وهو يقوم بمهمَّة التدريس سنة ۱۸٧۱م مخلِّفاً آثاراً كان لها مكانةٌ مرموقة في مطلع عصر النَّهضة.
أهمُّ آثاره
” مجمع البحرين” وهو يشتمل على ستِّين مَقامَة. “شرح ديوان المتبنِّى” ، ولم يستطعْ إتمامَهُ لموافاة الأجل، وقد أتَمَّهُ ابنه الشيخ إبراهيم اليازجيّ. “طوق الحمامة” وهو مختصر في النَّحو. “اللّباب في اصول الاعراب”، وهو أُرْجوزة قصيرة في النّحو. “جوف الفرا” وهو أرجوزة طويلة في النحو على طريقة ابن مالك، شَرحَها في كتاب سْماهُ “نار القرى في شرح جوفِ الفرا”، على طريقة ابن عقيل. “لمحة الطّرف في اصول الصّرف” وهو أرجوزة قصيرة في الصرف. “الخزانة”، أرجوزة طويلة في الصّرف، شرحَها في كتابٍ أسماه ” الجُمانة في شرح الخزانة. “الجوهر الفرد” في الصّرف والنّحو. “فصل الخطاب في اصول لُغَة الاعراب”، في الصّرف والنّحو. “الجامعة”، أرجوزة في علم العَرُوض، شرحها في كتابٍ أسْماهُ ” اللامِعَة في شرح الجامِعَة”. “عقد الجُمان” و” الطّراز المُعْلَم” في عِلْمِ البلاغة. “ألحجر الكريم في الطّبّ القديم”، أرجوزة في الطبّ. “قطب الصناعة في اصول المنطق” مختصر نثري لِأهَمّ مبادئ المنطق. “التذكرة في اصول المنطق”، أرجوزة قصيرة تناول فيها أركان علم المنطق. وثلاثة دواوين شعرية.
غير أنّنا سنقْتصر على دراسة مقاماته في “مجمع البحرين”. ولَمّا كانت جوانب صناعَتِهِ متشعّبة لا تعيها، بل لا تعي معظمها، إحدى مقاماته، فقد اعتمدنا، لدراسة هذه الجوانب أمثالاً استقيناها من عِدَّة مقامات، وحللناها في دِراسةٍ شامِلة.
مقامات الشيخ ناصيف
غايتها ومنزلتها: مقامات الشيخ ناصيف اليازجي مجموعةُ في مؤلّفِهِ “مجمع البحرين”، أي بحر النّظم وبحر النّثر، وقد شبّهَهُما بالبحر لِسَعَتِهِما. أوْحَتْ إليهِ هذه التّسمية آيةٌ كريمة وردتْ في سُورَة الكهف: {وَاذْ قَال مُوسَى لِفَتَاهُ: لا أبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْن}. وقد اختار لها راويةً سُهَيْلَ بنَ عَبّاد، وبَطَلاً ميمون بن خزام، وهو أديبٌ مُتَسَوِّلٌ يُشبِهُ، إلى حَدّ بعيد في طِباعِهِ وَأخلاقِهِ ومَسلِكِهِ، أَبا زيد السّروجيّ بطل مقامات الحريريّ، وَأَبا الفتح الإسكندريّ، بطل مقامات الهمذانيّ. أمّا عدد مقامات اليازجيّ فَستّون. وقد اختار لبعضها اسم البلد الذي جعله مسرحاً لحوادثها، ولبعضها اسم الموضوع الذي تعالجه.
اليازجي يقلّد الحريري
وَقد اعترف الشيّخ ناصيف، في مقدّمة كتابه، بأنّه قَلّد مقامات الحريريّ. وفي الواقع، إنّنا نلمس هذا التقليد في الجوانب التّالية:
– البطل والرّاوية، عند كليهما، ينتميان إلى طبقَةٍ اجتماعِيّة واحدة، ويتميّزانِ بطِباعٍ وأخلاقٍ متشابهة، أبرزها سَعَة الحيلة، والذَكاء النَّادر، والعلم الواسع، والميل إلى الكدية والإقبال عليها إقبالاً على غايةٍ يُبرّرُ تحقيقُها أَيَّةَ وسِيلَة؛ فالكدية هي الخاتمة التقليدية لمعظم مقاماتها.
– يحدث التّعارف بين الرّاوية والبطل عند كليهما، منذ المقامة الأولى.
– بطلاهما يملانِ حياة الاستقرار وينزعان إلى الضّرب في البلاد طولاً وعرضاً.
– بطلاهما وراويتاهما يلتقيان في بعض المقامات ويفترقان في غيرها.
– بطلاهما يتوبان في النهاية توبةً صادقة، ويستغفرانِ الله راجِيَيْنِ تجاوزه عَمّا اقترفاه من ذنوبٍ في حياتهما الحافلة بأعمال الكِدْيةِ وضروب المآثم.
– في المعجزات الصّناعِيّة والألاعيب البهلوانيّة الّتي جارى فيها الشيخ ناصيف، الحريريّ أحياناً، وتفوَّق عليهِ فيها أحياناً أخرى.
غاية تعليميّة
أمّا غاية مقاماتِهِ فتعليميّة؛ وقد أرادها كذلك تلبيةً لحاجةِ عصرهِ في سائر فروع المعرفة عامّةً، وفي اللغة ومَا إليها، خاصَّة، إذ أن مطلع القرن التاسع عشر ليس سوى ذيْلٍ لعصر الانحطاط الَّذي اضمحلَّت فيه العلوم والفنون عند العرب، ولا مستْ فيه الفصحى لُغَةَ العامَّة، بالإضافة إلى ندرة وسائل التحصيل من مدارس وكتب ومطابع وصحف ومجَلّات. ومقامات الشيخ ناصيف موسوعَةٌ تضمّ بين دَفَتَيْها زبدة ما توصّل إليهِ العرب من مَعارِفَ، منذ الجاهلِيَّة حتى أيَّامِهِ، في اللُّغة، ولا سيّما غريبها، وفي الصَّرف والنَّحو والبيان والبديع والَعرُوض وعلم الفلك والطّبّ والآيات والأمثال والحِكَم والمأثور من الكلام عند العرب، شعراً ونثراً، والمواعظ، واسماء الخيول، وتعداد أيام العرب والتلميحات التاريخيَّة والأنساب، وهَلُمَّ جَرَّا.
ففي “المقامَة الطبِّية، مثلا، يعرِض عَلَينا نِظامَ وِقايَة مقتبسٍ من الطبّ القديم، لا يزال علم الصّحة آخذاً بمعظمه: ” يا بُنَيَّ لا تَجْلِسْ على الطَّعامِ إلا وأنْتَ جائِعٌ. وقُمْ وأنْتَ بما دُون الشّبَعِ قانِع. وباكِرْ في الغَداء. ولا تَتَماسَ في العِشاء. وَالزمِ الرِّياضة على الخلاء. واجْتَنِبْها عندَ الامتلاء. وَلا تُدْخِلْ طَعاماً على طَعام وَلا تَشْرَبْ بَعْدَ المَنام. وَلا تكْثِر مِنَ الألوان على الخوان. وَلا تَعْجَلْ في المَضْغِ والازْدِراد…”
وفي “المقامة العقيقيَّة” وَعظٌ في المثاليّة لا يصدر إلا عن ناسِكٍ أو متصَوّف، لا عن استاذٍ في صناعَة الكدية كالشيخ ميمون بن خزام:
“واهاً لِمَــنْ خــــافَ الإلـــــَهَ واتَّـــقـــى/وَعـــــافَ مُشْتــــَرى الضَّلالِ بِالهُـــــُدى”/”وَظَـــــلَّ يَنْـــهى نَـــفْسَهُ عَنِ الهَــــوى/إِنَّ إلى الرَّبِّ الكَــــــريـــــمِ المـــُنـــْتَهَــــــى”/”وَطَّــرِحُوا كـُلَّ نــَعِيمٍ وَغِنى/واستَهْدِفُـــوا لِوَقْـــعِ أَسْهُمِ البِــــــِلى/”وأَقْرِضـــُوا اللهَ فــَنِعــْمَ مَنْ وَفَــــى/ما أَجْــــهَلَ النّاسَ وَأَذْهَـــــلَ النّـــُهى
وفي “آلمقامة اللبنانيّة” يرمي إلى تعليم دَقائق اللّغة في حسن استعمال المرادفات التي تشترك في المعنى، إنّما كُلّ منها بموطنٍ لا يُستعمل إلا فِيهِ كاختصاص الجَزّ بالصّوف، والحَصْد بالنبات اليابس والخضد بالنبات الرَّطب، والجَدْع بالأنف والصِّلْم بالأُذن، والشَّتْر بالجَفن، والتقليم بالظّفر، وكُلّها بمعنى القَطْع.
وفي “المقامة الدمشقيّة” عرضٌ وشَرْحٌ لِأصول علم النحو عن طريق الرَّجز.
وفي “المقامة اليماميّة” نقدٌ لشخصٍ أَعجميّ لا يُحْسن النّطق بالألفاظ العربيَّة، فيتعرَّض المعنى، من جَراء ذلك إلى تحريفٍ مؤسف: ثمّ قال : قُلْ يا غُلام:
أ”َنا الخُزامِــيُّ الرَّقيـــقُ الكَلــِمِ/  مَسَحْتُ رُكْنَ المسجِدِ المُحَرَّمِ/وَلِي غُلامٌ من نِتــاجِ العَجَمِ/يُشْرِقُ فــــــي فُؤادِهِ وفي الفـــَمِ/أَوْجَدَه بَارِي الوَرَى مِنْ عَدَمِ/وحاطَـــهُ بالقَـــدَرِ المُصـــــَمَّــــمِ/فَلـــَمْ يــــَزَلْ في حَـــرَسٍ مُتــَمِّـــمِ”.
فَتَعَزَّز الفَتى وتَمَنَّعَ، وهو يَرُوغُ كالفارِس الأهْنَع(3). فما زال بِهِ القَوْمُ حتّى أجابَ فَترَحْرَح، وانْشَد بِصوْتٍ صَمَحْمَح: “أَنا الخُزامِــيُّ الرَّكـــــيكُ الكَلــِمِ/مَسَحْتُ رُكْنَ المسجِدِ المُخَرَّمِ/وَلِي غُلامٌ من نِتــاجِ الأجَمِ/يُشْرِكُ فــــــي فُؤادِهِ وفي الفـــَمِ/أَوْجَدَه بَارِي الوَرَى مِنْ أَدَمِ/وخاطَـــهُ بالكَـــدَرِ المُسَــــَمَّــــمِ/فَلـــَمْ يــــَزَلْ في حَـــرَسٍ مُتــَمِّـــمِ”.
وفي “المَقَامة الفلكيّة” أسماء الكواكب السيّارة والبروج وفوائد جَمَّة في علم الفلك. وفي “المقامة النّجديّة” طائفةٌ كبيرة من غريب الألفاظ، معظمها أصبح مهجوراً: “وَقالَ بَهْراً لَك يا عَفَنْقَسُ، يا مَاقِطَ الانْقَس. مَتى تَشَدَّقْتُ بِهَذهِ الشّغاشِغِ وَتَمَطّقْتُ بِهَذِهِ الضَّغادِغِ، ذَرْ عَنْكَ هَاتِي الجَعْظَرَةَ الخِضَمَّةَ”.
معاني الكلمات: (بَهْراً: تعساً . عَفَنْقس: لئيم . مَاقِط: عبد العبد المعتق. الأنْقَس : ابن الأمَة. الشّغَاشِغ: جمع شغشغة، وهي ضَربٌ من هدير الجِمَال. الضّغَادغ: جمع ضغضغة وهي أن تلوك العجوز التي لا أسنان لها، شَيْئاً بين حَنَكَيْها. ألجَعْظَرة: الغَلاظة. ألْخِضَمّة: الكبيرة).
وفي هذه المقامة أسماء أيَّام الأسبوع وألقاب الشّهور عند العرب، فيوم الأحد، مثلاً، يُدْعى أوْهد، ويوم الإثنين أهْوَن، والثلاثاء اسمُهُ جُبَار، والأربَعاء دُبَار، والخميس مُؤْنِس، والجمعة عَروبَة، والسّبت شِيَار…
أمّا أمثال العرب وأقوالهم المأثورة والتلميحات التاريخيّة فمبثوثة في مقاماتِهِ جميعِها بكثرةٍ تذهِلُ. هذا قليلٌ من كثيرٍ، نجتزئ بهِ على سبيل المثل خوف الإطالَة.
وَيَتَّضح مِمَا قدَّمنا من شواهد ومِمَّا اكتفينا بالإشارة إليه أنّ مقامات الشيخ ناصيف اليازجيّ تتجَسّم فيها النّزعة اللّغوية والأدبيَّة والعلميّة التي شملتْ لبنان، ومِنه إنطلقت إلى الأقطار العربيّة في مطلع عصر النّهضة.
مقامات هزيلة
وهذه المقامات هزيلة من الناحية القصصية: فالمقدّمة تفتقر إلى براعة العَرْض، وتكاد مقدّمات اليازجي جميعها تدور حول موضوع مباشرة سَفَر قام به الرّاوية، سُهيل بن عَبّاد. فاليكَ بمقدّمة المقامة النّجدِيَّة: “قال سُهَيْل بن عَبّاد: عَبَشَتْ بي لواعجَ الوَجد إلى زيارةِ نَجْد، فَتَسَنَّمتُ الاكوار، وطويتُ الانجادَ والاغوار، حتى نَقَعْتُ بِحُلولِها غِلَّتي، بَعْدَ اللُّتيّا والّتي”.” .
معاني الكلمات: (الوَجد: الشوق. الأكوار: رحال الجمالالأنجاد والأغوار: الأراضي المرتفعة والمنخفضة. نقَعْتُ: أرْويتُ. الغِلَّة، العطش. بعد اللّتيّا والتي: أي بعد لقاء الشدائد والدواهي – والمراد باللتيّا الداهية الصغيرة، وبالّتي الداهية الكبيرة، وهذا أحد أمثال العَرب).
أما الحبكة فتَكاد تكون مفقودة، إذ لا تشويق فيها ولا تعقيد يتدرّج تدرّجاً تصاعديَّاً؛ بالإضافة إلى أَنّها تنبىءُ في معظم الأحيان، عن الحَلِّ قبل بلوغِهِ. واما الحَلّ فَغَثّ بارد يفتقر إلى عُنْصُرّي الطَّبْع والمفاجأة. وأما اللَّون المحلّي فلا ظِلَّ لهُ، وعلى الرّغم من أَنّ هُنالِك مقامات تحمل اسم البلدان التي كانت مسرحاً لحوادثها، كالمقامة اللبنانيَّة، والمقامة المصريّة، والمقامَة الشّامِية، والمقامَة العراقيّة، وهَلُمَّ جَرّاً- ألوان مقاماته ألوان عربيّة قديمة تمتَدّ من العصر الجاهِليّ حتّى العصر العبّاسيّ الرابع، عصر الحريريّ الذي نسجَ على منواله- وكأنّي بِه ينقل لغة الأعراب القدماء وعاداتهم وتقاليدَهم، تارَةً إلى لبنان وطوراً إلى الشام، ومَرَة إلى مصر، وأخرى إلى العراق، فتعكس أشخاص مَقاماتِهِ لون البلد الذي ينتمون اليه لا البلد الّذي وفدوا عَليه.
قَصّر الشيخ ناصيف في دراسة نفسيّات أشخاص مَقاماتِه، إذ أنّ القِصّة لم تكن هَدَفَهُ ولم تكن سوى إطار هزيل لِأهدافه التعليميّة.
الأساليب الصّناعِية
وَلا بُد لنا من أن نعرض لِأهمّ الأساليب الصّناعِية العارية من كُلّ أَثر فَنّي. تلك الأساليب التي رمى اليازجيّ مِن ورائِها إلى التَّفوّق على الحريريّ في التغلّب على الصِّعوبات، دون أن يرمي إلى إبراز الجمال بصورةٍ حِسِّيَّة:

  • الأبيات العاطلة، أي الَّتي تتألف ألفاظُها من حروفٍ غير منقوطة:

“الحَمْدُ للهِ الصَّمدْ /حالَ السُّرور والكَمَدْ/الله لا إلَه إلا الله/مولاكَ الأحَدْ… الخ”.

  • الأبيات المعجمة، أي التي تتألَّف ألفاظُها من حروف منقوطة:

“بشَجِيّ ٍ يبيتُ في شَجَنٍ/ فِتَنٌ يَنْتَشِبْنَ في فِتَـــنِ/شَيِّقٌ تَيِّق تُجُنِّــــــــــبَ في/ نَفَقٍ ضَيِّقٍ بَقِي فَفَنِيْ”.

  • الأبيات الملمًّعة، أي التي يكون شطرها الأوَّل مُؤلَّفاً من ألفاظٍ حروفها غير منقوطة، وشطرها الثاني من ألفاظٍ حروفها منقوطة:

“لا لِعُهُودِ الوُدّ راعٍ ولا/في شَجَنٍ ذي فِتْنَةٍ يُشْفِقُ/ما مالَ إلا راعَ  أحلامَهُ/  خِفَّةُ شَنْفٍ(خَنٍثٍ يخْفُقُ..الخ.

  • الأبيات الخَيْفاء، وهي الَّتي تتوالى ألفاظها بين لفظةٍ حروفها منقوطة ولفظةٍ حروفها غير منقوطة:

لا تَفِي العَهْدَ فَتَشْفيني ولا/  تُنْجِزُ الوَعْدَ فَتَشْفي العِلَلا/غَضَّةُ العودِ تَثَنَّتْمَرَحاً/ بَضَّةُ(اللَّمْسِ تَجَنَّت ملَلا..الخ.
معاني الكلمات: (احلام، جمع حلم وهو العَقْلُ. الشَّنْف: حِلية تُعَلَّق في أعلى الأذن. خَنِث، له صورة الرجل وأحوال النساء. غَضَّة: رطبة. تَثَنَّت: تمايلت. مَرَحاً: نَشاطاً. بَضَّة: رَخْصَة. تَجنَّت: اقترفت جناية او عدواناً).

  • الأبيات الرَّقْطاء، وهي التي تتوالى حروفُها بين حرف منقوطٍ يليه غير منقوط، فثالث منقوط، فرابع غير منقوط، حتى نهاية البيت:

“وَنَدِيـــــمٍ بَات عِــــــــــــندِي/  لَيْـــــلَـــــةً، مِــــنــــْهُ غَلِيلُ/خَافَ مِنْ صُنْعِ جَمِيْلٍ/  قُلْتُ لي صَبْرٌ جَمِيْلُ..الخ.

  • الأبيات من عاطل العَاطل، وهي الّتي تتألّف ألفاظُها من حروفٍ غير منقوطة، وإذا ما هُجّئَتْ هذه الحروف فالحروف الّتي تُهَجَّأ بها غير منقوطة:

وَلَـــهُ حَـــوْلٌ  وَطَــوْلٌ/ وَلَــــــــهُ صَـــــــــدٌّ وَرَدُّ/دَهْـــــرُهُ حــــَرُّ صُــــدُوْرٍ/  هَــــلْ لَــــــه لِلهِ حَـــــدُّ..الخ.

  • الأبيات التي لا تستحيل بالانعكاس، أي الّتي لا تتغيّر، سواءٌ أقَرأتَها مِن اليمين إلى اليسار أم من اليَسَار إلى اليمين:

“قَمَرٌ يُفْرِطُ عَمْداً مُشْرِقُ/ رَشَّ مَاءً دَمْعُ طَرْفٍ يَرْمُقُ/قُرْطُهُ يَفْدي جِلاهُ أيْمَنٌ/ مِنْ مِيَاهِ الْجِيدِ فِيْهِ طُـــــرُقُ”.

  • الأبيات التي طَرْدُها مديح وعكسها هِجاء، أي الّتي إذا قُرِئتْ من اليمين إلى اليَسار تفيد المدح، وإذا قُرئتْ من اليسار إلى اليمين تُفيدُ الهِجاء:

– المدح: باهي المَراحــــــِمِ لابــــــسٌ  كَرَماً قدِيرٌ مُسـْنِــــدُ/ بابٌ لِكــــُلّ ِ مــــؤَمِّــــلٍ  غُنْمٌ   لَعَمْرُكَ مُرْفِــدٌ”.
الهجاء: دَنِسٌ مَرِيدٌ  قامــــِرٌ  كَسْبَ المَحارِمِ لا يَهابْ/ دَفِرٌ مُكِرٌّ  مُعْلَمٌ  نَغِلٌ  مُؤَمّـلُ كـُلِّ باب”.
معاني الكلمات: (غليل: حرارة العطش، وهو فَاعل بات الذي جاءَ في هذا البيت فعلاً تَاماً لا ناقصاً من أخوات كان.  حَوْلٌ: سَطْوَة.   طَوْلٌ: غَلَبَة.  حدٌ: فَاصِلٌ لا يُجْتاز- ومعنى البيت الإجماليّ أنَّ كُلَّ أيّامِهِ حرارة لصدور المحبّين، فهل من حَدّ ٍ لَهُ يقفُ عندَهُ- لاحظ في قوله” هَلْ أنَّ لِله حدُّ” الجناس المستوي المقلوب، فإذا ما قرأت هذه العبارة طرداً وعكساً فإنّها لا تتغَيّر.   يرمُقُ: ينظر.   مُسنِد: اسم فاعل من أسنَدَ يُسْنِدُ، والمقصود أنهُ سَنَدٌ للناس.   غُنْمٌ: كَسْبٌ ينال بدون مَشقَّة.  مُرفِدٌ: يُعِينُ الناس.  مَريدٌ، بفتح الميم، عاتٍ.   قامِرٌ: يمارس لعب القمار أو المقامرة.  دَفِرٌ: دَنِسٌ، نَتْنٌ.   مُكِرّ: محاربٌ  مُعلَمٌ: عليه سمة الحرب، دائم الميل إلى الشرّ. نغل: فاسد النَّسَب.
 
حكم عام
وَهكذا بلغ الشيخ ناصيف اليازجي الذّروة في الصّناعة وتكلّف الأداء، وَقصَّر في المضمار القصصيّ الذي لم يكن غايته، إنما كان إطاراً هزيلاً لمقاماتِهِ. وقصَّر في إبراز اللون المحليّ الحديث، واستعاض عَنْهُ بلونٍ عربيّ قديم يمتّ إلى أقدم عصور العرب، وجمع بين دفّتي ” مجمع البحرين” كُلّ العلوم اللغويّة والمواعظ والأمثال والآيات والحِكم والألغاز والشوارد الأدبيّة والطّرائف التاريخية وضروب الكدية، فكانت مقاماته خُلاصة معارف العرب، منذ جاهليّتهم حَتّى عصره.
وعلى قدر ما تفَوَّق في مضمار الصناعة قصَّر في مضمار الفن. وإذا ما قارنّاه ببديع الزّمان الهمذاني نرى أَنهُ تجاوزه إلى حَدّ ٍ بعيد في أساليبه الصناعيّة وفوائده التعليميّة، وَقَصّر عَنْه في رَوْنَقِ العِبارَة وطَبْعِها، وفي اللّون المحليّ، وفي البراعَة القَصَصِيّة. وإذا قِسْناهُ بأستاذه الحريريّ نرى أنّهُ جاراهُ أحياناً في الصّناعة وتفوق عليهِ فيها أحياناً أخرى. وقد تضّمّنتْ مقاماته من الفوائد التعليميّة أكثر مِمّا تضمّنَتْهُ مقامات الحريريّ، ولكنّه قصَّر عَنهُ في بلاغة التعبير، لِأنّ الألاعيبَ الصّناعِيّة ضَيَّقَتْ عليهِ أكثر مِمّا ضَيَّقتْ على أسْتاذِهِ.
وَلا بُدّ من الاعتراف بأنّ مقامات الشيخ ناصيف اليازجي، على الرغم من تصنّعها وابتعادها عن الفنّ، سَدَّت فراغاً في حاجة المجتمع مطلع عصر النهضة، نظراً إلى ما إنطوَت عليه من فوائد تعليميّة في سائر الحقول، ولا سيما اللغة وما يليها.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *