الابتسامة… موسيقى الروح

Views: 249

 close up clean smile white

د. ناتالي الخوري غريب

الابتسامة فنّ القول بلا مقولات، والإصغاء بلا أصوات وخطاب الروح بلا كلمات. هي جواز مرور إلى وجدان الآخر، وإشارة إلى احترامه والاعتراف به شريكًا لا تكتمل معاني الحياة ونجاحها إلا به.

الابتسامة مصافحة مَحبّة ومبادرة ودّ تنتفي عند فطرتها كلّ مصلحة، فهي ليست استرضاء لأحد ولا تُستجدى من أحد، ولو ظنّ ذلك كثر، لأنّها تجلٍّ من تجليّات النعمة والشهود عليها.

هي ثقافة العطاء في حرفة المبادرات. فهل سمعت يومًا بابًا يفتح من دون طرقة سائل؟ هكذا هي الحياة، لا تفتح أبوابها لمن يطرقها، وبشدّة… قد تكون بابتسامة.

والمبادرة فنّ، لا يتقنه إلّا المتواضعون. وحدهم يعرفون كيف يمدّون أيديهم لمصافحة المتكّبرين، ويعلّمونهم معنى القيمة وماهيّتها. قد يكون ذلك أيضًا بابتسامة.

فالابتسامة، تحمل المبادرة في السؤال، هي عنوان تواضعك وإيمانك أنّ الحياة تعاون بين أبنائها لا يكتمل إلّا بمصافحة القلوب والنوايا.

وهي ثمرة الغبطة وجواب الصبر في تصيير المستحيل إلى ممكن، ونسف الحواجز التي تخلقها أوهامنا وكبرياؤنا وفتح المعابر من أجل رؤية وجه الله.

وأيضًا، هي انتصار الذات على كلّ ضعف يخنقها، وتتويج لحريّة النفس ممّا يقيّدها. هي انتفاضة الكرامة في وجه  المذّله وإخضاعها لسلطانها، لأنّها تحمل في ذاتها إمكانات التحويل في ديناميّة تفاعلها. هي الراية البيضاء في وجه الوجوم الداعي إلى التنافر، لأنّها سلام الرحمة الذي تطمح إليه النفوس.

الابتسامة لغة كونيّة، تصبح أكثر فصاحة وإفصاحًا حين تتآمر مع شفيف العيون وشغفها، فتمحو حدود الفصل بين النفوس لترسم خطوط الوصل. بها يتفاهم الكبير والصغير والقريب والغريب والغاضب والمستكين والعاشق والثائر والمستنير، وتغدو جسرًا فيه عبور العرض والطلب والإجابة والاستجابة إلى تناغم الكون.

هي موسيقى الروح في لطيف انسيابها وانسجامها مع إيقاعات السكينة، والوتر هو وجدان المحبّة في إطلاقها… فالابتسامة ليست عمليّة آنيّة في تحريك الشفيتين، لناطق، عاقلًا كان أم غير عاقل،  بل هي قدرة توليد الفرح ودعوته المتجدّدة إلى تأسيس كيمياء المودّة.

الابتسامة أنشودة شكر منقوشة على تعابير الوجه إقرارًا بالرضى والتسليم بمشيئة السماء. هي رقصة النجم في دجوة الفكر، ومسحة الراحة في شقوة الدهر.

بابتسامة قد تنتشل حزينًا من حزنه، ومتألّما من ألمه، ولو لحظة، فيها تنفتح  كوّة أمل على ظلال الخير طمعًا بالخروج من الكهف الكبير. ففي ذلك انتصار على حزنك وألمك وإمكانيّة تحويلهما.

في الابتسامة امتصاصٌ لغضب اللحظة الملعونة في حرج المواقف، لا يتقنها إلا الواثقون في نفوسهم وقد امتلكوا شجاعة المسامحة في دواخلهم.

هي إواليّة وقائيّة لأيّ ردّة فعل انفعاليّة، تبثّ ذبذباتٍ موجبةً تجعل الخلايا حولها تنجذب إليها في عدوى طاقة التفاؤل الخلاقة من أجل العيش في منازل الطمأنينة.

هي علامة تعكس الثقة بما يمكن أن تهبه لنا الحياة في تلافيف الغد، وإيمان بقدرتها على استدراج السعادة لما تتمتّع به من قوّة تغييريّة.

ومن قال إنّ الرصانة تكمن في أن يكون وجهه عبوسًا، فأجبه ألف لعنة على الرصانة التي تسلبنا عفويّة البسمة.

ومن قال إنّ الهمّ الذي يسكنه يحرمه من البسمة على وجهه حين إلقاء التحيّة، فأجبه أنّ التحيّة فعل سلام، به نبادل الحياة.

ومن قال إنّ ما يجعلنا نبتسم في عصرنا هذا قد زال واختفى، فأجبه أنّه يكفي أن نصغي إلى كلام الزهر وشدو الطير وانكشاف ما بقي من أعاجيب البساطة في أسرار البراري.

فالابتسامة أكبر من وسام على ثغر الجمال، وأكثر من إشارة تختزن ألف عبارة وعبارة، يكفي أنّها صورة تعكس أصدق ما في الروح آن تجسيد المحبّة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *